كانت صحيفة( الميدان) ساحة قتال حقيقية، كما وصفها أحد الأصدقاء الذين كانوا على صلة وثيقة بها، وخبر عن كثب الظروف التي تعيشها، والمعارك التي تخوضها. ولم تكن الميدان ساحة قتال بسبب ظروفها المالية العصيبة، أو وسائل طباعتها المتخلفة وحسب. كانت( الميدان) ساحة قتال لأنها حملت عبء معارضة النظام السياسي السوداني بأسره رغم تلك الإمكانات المحدودة، والظروف القاسية التي عاشها محرروها. وما زاد من صعوبة مهمتها أنها كانت الوجه العلني المشروع لحزب سياسي محظور، وبرغم أنها كانت من الناحية الرسمية لسان حال (الجبهة المعادية للاستعمار)، وهي حزب مشروع، إلا أن كل الناس، بمن في ذلك السلطات الحكومية، كانوا يعلمون علم اليقين أن لها صفة مزدوجة لم تحاول هي إخفاءها، وذلك لأن كل محرريها كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي السوداني. وكانت سلطات الأمن في حكومة المرحوم السيد عبد الله خليل تتربص بها، وترصد ما تكتب بدقة شديدة، لتسقطها في شباك القوانين المطاطة التي تحرم النشاط الشيوعي، وتمنع الحض على كراهية الحكومة...وكم من مرة سيق رئيس تحريرها إلى المحكمة، ثم إلى السجن متهماَ مرة بالقذف، ومرة أخرى بإفشاء أسرار الدولة، ومرة ثالثة بالوقوع تحت طائلة المادة (105) سيئة الذكر المشهورة والتي تحد من الحريات بشكل خاص. هذه الحكومة (حكومة عبد الله خليل) لا تستحي !!! في هذا المنعطف من سرد تاريخ ذكرياتي في مجال العمل الصحافي، انتهز الفرصة للحديث عن بعض المشاكل القانونية التي اعترضت سير مسيرتي تلك. في بداية العام 1958 ، كانت حكومة السيد عبد الله خليل، وكانت ائتلافاَ بين حزبي الأمة، وجناح الحزب الوطني الديمقراطي الذي قاده السيد محمد نور الدين والشيخ علي عبد الرحمن، هي التي تقود البلاد. ولم تكن علاقات تلك الحكومة حسنة مع حكومة الجارة مصر التي كان يرأسها في ذلك الحين الزعيم المصري الشاب جمال عبد الناصر، قائد ثورة الثالث والعشرين من يوليو. وفي حين كانت الحكومة السودانية ذات طابع تقليدي، ومصادقة للدول الغربية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية، وبريطانيا، كانت حكومة عبد الناصر ذات الطابع الثوري الجديد في المنطقة العربية تخوض معارك عنيفة مع المعسكر الغربي بقيادة الولاياتالمتحدة الأميركية. وبرغم أن الحكومة التي تزعمها القائد العربي الثائر جمال عبد الناصر في مصر، لم تكن شيوعية أو حتى اشتراكية، فإن القوى الوطنية في العالم العربي، ومن بينها الأحزاب الشيوعية، ساندت الرئيس جمال عبد الناصر وحكومته. وعلى العكس من ذلك فإن علاقات حكومة السودان، التي كان من المفترض أن تكون جيدة، أو حتى عادية، مع الحكومة المصرية، وذلك بسبب الروابط الخاصة التاريخية الإسلامية والعربية بين الشعبين المصري والسوداني، لم تكن فاترة وحسب، بل شهدت توتراَ عرف في التاريخ المشترك بين البلدين ب( الجفوة المفتعلة بين الحكومتين، المصرية والسودانية). مشكلة حلايب كانت القشة التي قصمت ظهر البعير تقع منطقة حلايب في مثلث صغير على الحدود الشماليةالشرقية بين السودان ومصر. وما يعرف في الجغرافيا بمثلث حلايب، هو منطقة ليست ذات أهمية اقتصادية، تسكنها قبائل رعوية بجاوية سودانية، وبها مدينة واحدة هي التي منحت تلك المنطقة اسمها. وبرغم أن تلك المنطقة هي ضمن أراضي السودان المعترف بها دولياَ، وسكانها من قبائل السودان، إلا أن مصر التي لم تنكر تبعية تلك المنطقة للأراضي السودانية في يوم من الأيام، كانت لها بها مصالح اقتصادية محدودة ولكنها أفادت السكان كثيراَ. وكانت الحكومات السودانية المتعاقبة تعلم تلك الحقيقة ولم تشكل لها مشكلة في أي وقت من الأوقات. ولكن وفي العام 1958، وبسبب التوتر الذي نشأ بين حكومة السيد عبد الله خليل والحكومة المصرية في عهد عبد الناصر، أصرت الحكومة السودانية على وقف النشاط الاقتصادي المصري في تلك المنطقة. وعندما رفضت السلطات المصرية الموقف السوداني، لجأت حكومة عبد الله خليل إلى تصعيد الخلاف بين البلدين، وهددت برفع الأمر إلى مجلس الأمن الدولي للفصل في النزاع الذي نشب بين مصر والسودان حول منطقة حلايب. وقد أثار تهديد حكومة عبد الله خليل برفع شكوى ضد مصر أمام مجلس الأمن الدولي استنكار كل الدول العربية تقريباَ، وذلك لأن مصر والسودان عضوان في جامعة الدول العربية. وكان من المفترض، والمتعارف عليه تاريخياَ، لجوء الدول العربية، أولاَ وقبل كل شيئ، إلى الجامعة العربية لحل أي نزاع ينشب بينها قبل اللجوء إلى هيئات أخرى، دولية أو حتى إقليمية. وكانت مصر عبد الناصر في العام 1958 رأس الرمح في منافحة التيارات العربية التحررية المعادية للاستعمار بوجهيه القديم والحديث معاَ. وفي ذات الوقت كانت تشكل تهديداَ لسياسات ما عرف في ذلك الحين بالدول العربية المحافظة المتصالحة مع الدول الاستعمارية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية وبريطانيا. وقد مثل تصرف حكومة عبد الله خليل للحزب الشيوعي السوداني، ومعه الجبهة المعادية للاستعمار، فرصة نادرة لشن هجمات لا هوادة فيها ضدها والتي كانت تتهم بالتصالح، على اقل تقدير، مع السياسات الاستعمارية في المنطقة العربية. ومن ثم كان لصحيفة (الميدان)، الناطقة باسم الجبهة المعادية للاستعمار رسمياَ، والحزب الشيوعي السوداني ضمناَ، القدح المعلى في شن هجمات لا هوادة فيها ضد حكومة السيد عبد الله خليل. ومن أشهر ما سجل من تلك الهجمات في هذا الصدد، المقال الذي ذاع صيته، ليس في السودان وحسب، وإنما في مصر أيضاَ، حيث أعيد نشره. وكان عنوان ذلك المقال ( هذه الحكومة لا تستحي). وبشهادة محامي الدفاع الذي لجأت إليه (الميدان) للدفاع عنها أمام المحكمة حين غضب السيد عبد الله خليل غضبة مضرية، وصادر عدد الصحيفة الذي ظهر فيه، وأمر باعتقال رئيس التحرير وتقديمه للمحاكمة، أنه لم يجد ثغرة واحدة مما حواه ذلك المقال تمكنه من الدفاع عن الصحيفة أمام المحكمة، وبموجب القوانين السائدة في ذلك الحين. وبسبب ما أحدثه ذلك المقال من ضجيج، زار مكتب الصحيفة السيد الملحق الصحافي المصري بالسفارة المصرية، وأبدى استعداد مصر لدفع أي مبلغ بالغرامة يحكم به ضد الصحيفة. ومن بين ما أذكره، بفخر واعتزاز في تاريخ صحيفة (الميدان)، أن هيئة تحريرها رفضت بالإجماع أية مساعدة مالية، من أية جهة كانت، لتحمل أعباء الغرامة التي تفرض على الصحيفة. اتخذ ذلك القرار بالرغم من وضعها المالي المتردي إلى ابعد الحدود. وكان من المعروف أن فشل الصحيفة في دفع الغرامة المالية المحكوم بها ضدها يعني إنزال عقوبة السجن على رئيس التحرير. وقد لجأت الصحيفة إلى القراء للتبرع لدفع مبلغ(250 ) جنيهاَ كانت حكم الغرامة الذي صدر ضد الصحيفة بسبب ذلك المقال الملتهب. ولم يخب القراء ظنها، وتم جمع المال اللازم من التبرعات لدفع الغرامة، ونجا رئيس التحرير من السجن بسبب ذلك المقال. إنقلاب 17 نوفمبر العسكري وعلاقته بحلايب مما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد، أنه وبسبب الضجة التي أثارها موقف حكومة عبد الله خليل حول حلايب، أن الرئيس عبد الناصر وضع حداَ للخلاف بين البلدين حين أعلن أن مصر لن تسعى للتغول على منطقة حلايب السودانية. وزاد على ذلك قوله: أعطوا الإخوة السودانيين اية مساحة من الأراضي المصرية يرغبون في استغلالها. ولكن، وبصرف النظر عن كل ذلك، فإن موقف الحكومة السودانية من الأزمة التي أثارتها مع مصر بسبب حلايب، وما عرف في التاريخ السوداني الحديث بالجفوة المفتعلة بين مصر والسودان، ظل يلقي بظلاله على حكومة عبد الله خليل حتى أطاح بها الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق إبراهيم عبود في 17 من شهر نوفمبر من العام 1958. وكان القضاء على الجفوة المفتعلة بين السودان ومصر من بين الأسباب التي ذكرت لدفع الجيش للانقلاب على حكومة السيد عبد الله خليل. وكانت تبعات افتعال تلك الجفوة قد ألقيت على السيد عبد الله خليل، رئيس الوزراء وحكومته المحافظة. ونتائج أخرى لمشكلة حلايب من بين النتائج المهمة، بالنسبة لي ولمستقبل عملي الصحافي، هي أن مقال حلايب قد أكد بما يدع مجالا للشك قدراتي على كتابة المقالات الصحافية الساخنة. ليس ذلك وحسب، وإنما على انتزاع العناوين الصارخة من بين سطورها. وبالفعل فإن مقال (هذه الحكومة لا تستحي) والذي نشرته صحيفة (الميدان)، لم يثر أزمة سياسية وقانونية وحسب، وإنما لفت أنظار مسئولين في مقام الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، والرئيس السوداني عبد الله خليل، إلى التعرف على كاتب سوداني صغير السن، قليل التجربة في ميدان العمل الصحافي. وسيرى القارئ أن مقال حلايب لم يكن سوى مقدمة لمقالات أخريات كثيرة كتبتها باللغتين العربية والانجليزية ونشرت وأحدثت أزمات لم تقل في حجمها عن الأزمة التي خلقها مقال (هذه الحكومة لا تستحي). وقد لقب أحد الزملاء إحدى تلك المقالات وقد نشرت باللغة الانجليزية بأنه كان قنبلة. وسيرد حديث مفصل كثير عن هذه المقالات فما يلي من سرد لسيرتي الصحافية.