دافع علي عثمان محمد طه، النائب الأول للرئيس السوداني في حديث مع «الشرق الأوسط» عن اتفاق السلام السوداني الذي وقعه مع زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان الدكتور جون قرنق في التاسع من الشهر الجاري، وقال إن المشككين في عدم قدرة الاتفاقية على الصمود لم يقرأوا نصوصها جيدا، مشيرا إلى أن الوثيقة، التي أنهت نحو 22 عاما من القتال في الجنوب، جاءت «واضحة وجلية وقاطعة»، وأن المعايير التي استخدمت في قسمة الثروة والسلطة «هي معايير موضوعية تم تأسيسها على مقاييس حجم الإقليم سكانيا». وقال طه في حديثه مع «الشرق الأوسط»، إن الذين يروجون بأن الاتفاقية وضعت الجنوب على خطى «الانفصال»، هم مثل الذين يرون الكوب فارغا إلى نصفه أو ممتلئا، وأكد ان «إعطاء الجنوب حقه بعدالة هو الضمان الوحيد لبقاء السودان موحدا». وجرى الحوار مع طه في بروكسل، وقال إن زيارته لها والتوقيع على اتفاق مع الاتحاد الأوروبي هو إيذان لتطبيع في العلاقات السودانية الأوروبية والدخول في مرحلة التعاون الإيجابي. وأكد الحكومة السودانية لن تسلم أي سوداني يثبت تورطه في جرائم دارفور، مؤكدا قدرة القضاء السوداني على محاكمة المخطئين طالما أن «الجريمة وقعت في السودان وضد مواطنين سودانيين». وأشار الرجل الثاني القوي في السودان ل«الشرق الاوسط» إلى أن حركة قرنق قد تكون دعمت في السابق «متمردي دارفور»، لكنها الآن صارت جزءا سياسيا من الحكومة، ولم تصبح بعد جزءا دستوريا، ومن ثم فمن مصلحتها تثبيت دعائم السلام الذي تحقق. وإلى تفاصيل الحوار: * هناك من يشكك في استمرارية اتفاق السلام الذي وقعتموه مع الحركة الشعبية، وهناك من يتحدث عن وجود شكوك في معايير تقسيم الثروات والسلطة، وان الأمر قد ينتهي في مرحلة مقبلة بالانفصال؟ لا أدري على أي أساس جاء هذا الشك، فاتفاقية السلام واضحة ونصوصها جلية وقاطعة، والمعايير التي استخدمت في قسمة الثروة والسلطة هي معايير موضوعية تم تأسيسها على أساس التقدير الكلي لحجم مساهمة جنوب السودان في عائدات الثروة، والدخل القومي الوطني وحجم الإقليم سكانيا.. أما الحديث عن الانفصال فهذا موضوع آخر، وهو مثل رؤية الكوب فارغا إلى نصفه أو ممتلئا، ونحن نرى ان إعطاء الجنوب حقه بعدالة هو الضمان الوحيد لبقاء السودان موحدا. * تحدثتم عن خطط لإرساء مصالحة شاملة في السودان، فماذا تحقق على هذا الطريق؟ حركة الإجماع الوطني تتقدم بثبات، وبعد اتفاق السلام تشكلت ديناميكية جديدة على أرض الواقع، وهذا التحول من المواجهة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية إلى تعاون سياسي سيخلق قوة دفع جديدة من شأنها أن تؤدي إلى إعادة النظر وإعادة بناء التحالفات كلها، والخطوة الأولى في ذلك هي ما نشهده الآن من التفاوض مع التجمع الوطني (تحالف المعارضة)، والذي سأقوم بالتوقيع مع قياداته على اتفاق في القاهرة في فبراير (شباط) المقبل، الأمر الذي سوف يؤدي إلى خلق واقع جديد نأمل أن تنضم إليه بقية القوى السياسية. * هل هناك استراتيجية محددة للحكومة في تعاملها مع ملف دارفور؟ هناك موقف واضح وإيجابي من الحكومة يقوم على حقيقتين مهمتين، الأولى أن هناك قضايا ومشكلات في إقليم دارفور تعترف بها الحكومة وتسعى لمعالجتها وفق رؤية جمعتها وسعت إلى توضيحها وتشكيلها منذ حين. وهذه الرؤية تقوم على معالجة الأوضاع الاجتماعية وإزالة أسباب التوتر القبلي والاحتراب، وأيضا النهوض بمستوى الخدمات في مجالات المياه والصحة والتعليم والطرق وبناء وتأسيس مشروعات تنموية. وسبق أن قدمت لاجتماع تابع للأمم المتحدة انعقد في نيروبي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ورقة محددة حول رؤية الحكومة لتنمية دارفور، ودعونا فيها المجتمع الدولي للمساهمة في هذه الرؤية ودعم تلك المشروعات، التي تبلغ تكلفتها بليون و200 مليون دولار، تنفذ خلال مرحلة من 3 إلى 4 سنوات. أما المحور الثاني فهو أن الصراع الحالي هو قتال سياسي ذو أجندة سياسية ويتخذ من الأوضاع على الأرض ذريعة لتأجيج الصراع. والحكومة ترى أن هذا القتال لا يوجد ما يبرره الآن، حيث أعلنت الحكومة اعترافها بالقضية وجديتها في حلها، بل انها سعت نحو الاعتراف بالمجموعات التي تحمل السلاح، وقبلت أن تجلس معها على طاولة المفاوضات، وأعلنت قبولها بترتيبات وقف إطلاق النار وترتيبات المساعدة الإنسانية، ونحن نجدد دعوتنا للأطراف حاملة السلاح للالتزام الجاد بهاتين الاتفاقيتين. * هناك أنباء ترددت تقول إن الولاياتالمتحدة ستطرح مشروع قرار دولي يتضمن محاكمة أشخاص بدعوى تورطهم في جرائم ومذابح حرب وقعت في دارفور، ما هو تعليقكم؟ أولا لا علم لي بهذا المشروع.. ولكن أقول إنه من حيث الواقع على الأرض فإن الحكومة السودانية قامت بواجبها الذي يفرضه عليها القانون والدستور السوداني في حماية المواطنين. وقد شكل رئيس الجمهورية لجنة قضائية عالية للنظر في المخالفات والتجاوزات التي حدثت أثناء الاقتتال وقدمت اللجنة تقريرها لرئاسة الجمهورية التي أصدرت بدورها قرارات تنفيذية بتكوين لجان للتحقيق والمحاسبة لكل من يثبت ضلوعه في ارتكاب أي جريمة أو تجاوز للقانون، ومن هذا الباب فإن الحكومة تطبق القانون الوطني بحيدة كاملة ومساواة بين الجميع، وليس للحكومة أي موقف لحماية أي من تثبت مخالفته للقوانين السارية في البلاد. أما بالنسبة لتقديم الولاياتالمتحدة مشروع قانون لفرض عقوبات دولية على السودان، أو أي بلد آخر فإني أقول أن فرض العقوبات لا يخدم السلام الدولي ولا يخدم المصلحة المباشرة التي يراد من أجلها فرض العقوبات. لأن سياسة فرض العقوبات أصبح مرفوضا دوليا، وهو لا يجدي، ودليلي على ذلك انه حين كانت الولاياتالمتحدة تنتهج منهج فرض العقوبات على السودان فإن ذلك أسهم في تطويل الحرب في الجنوب وأدى إلى خسائر بشرية ومآس إنسانية واسعة، وحينما عدلت الولاياتالمتحدة هذا المنهج واستبدلته بمنهج الحوار الايجابي وركزت على الحوار والاتصال المباشر، أثمر ذلك جهدا واضحا في تحقيق ودفع جهود السلام في جنوب السودان. نحن مع حكم القانون ولكن وفقا للمعايير والقوانين الوطنية، ونحن ضد سياسة فرض العقوبات مهما كانت الذرائع. * تحدثتم عن محاسبة أي شخص يثبت تورطه في جرائم وفقا للمعايير والقوانين الوطنية، فأين المعايير الدولية؟ ليس الأمر موضوع معايير وطنية أو دولية، لأن المعايير الوطنية تستتبع المعايير الدولية، وقوانينا الوطنية مبنية على استصحاب المعايير الدولية. أما بشأن ثبوت مسؤولية أي شخص فإن الحكومة لن تتوانى عن إقامة وتطبيق القانون، ونحن نرى أن القوانين الوطنية كافية لمحاسبة كل من يثبت ضلوعه في أي جريمة، بحسب انها ارتكبت داخل السودان ضد مواطنين. * الأممالمتحدة ستصدر تقريرا الشهر المقبل حول مزاعم بوجود «جرائم حرب» و«تصفية عرقية» في دارفور، ماذا تتوقعون من هذا التقرير؟ أنا لا أريد استباق التقرير والحديث عما فيه قبل أن يقدم، هذا نوع من خلق مناخ غير مناسب ولا نرى له أي مبرر. * هل لديكم استعداد لتسليم أي شخص سوداني يثبت تورطه لمحاكمته دوليا؟ نحن قادرون على تطبيق القانون، وقوانين الحكومة قادرة على محاسبة أي مخطئ طالما ارتكبت الجريمة داخل السودان وضد مواطنين سودانيين. * كيف ترون مستقبل العلاقات بين السودان وأميركا؟ العلاقات السودانية الأميركية بلا شك دخلت مرحلة جديدة خلال السنوات الأخيرة وخاصة بعد إبرام اتفاق السلام في جنوب البلاد، وكذلك الأمر بالنسبة للعلاقات السودانية الأوروبية. صحيح ان قضية دارفور تثير الآن قلقا واهتماما دوليين، ونحن نشترك مع المجتمع الدولي في ذلك ونسعى لتنسيق جهودنا الوطنية مع هذا الاهتمام والقلق العالميين لتوظيفهما إيجابا لإطفاء الحرب وليس لتصعيد المشكلة وزيادة النيران حتى تقضي على كل ما تحقق من السلام في الجنوب وتحيل السودان إلى صومال جديد. * هل ستسمحون للشركات الأميركية بالاستثمار في السودان.. وعودة شركات النفط الاميركية؟ الباب مفتوح تماما أمام الشركات والاستثمارات الأميركية لدخول السودان سواء في مجال النفط أو البنى التحتية أو القطاعات الصناعية، خاصة أن السودان فيه مجالات متنوعة للاستثمار بل انه الآن بدأت الشركات الأميركية تزور الخرطوم وتجري مفاوضات واستطلاعات لمجالات استثمارية، ونحن لا حساسية ولا حرج لدينا من أن يأتي الاستثمار الأميركي تحت ضوء الشمس ووفقا للقوانين العاملة في السودان. * اتهمتم في السابق حركة قرنق بالتورط في أحداث دارفور، هل تعتقدون بعد السلام أن تتوقف الحركة عن هذه الممارسات؟ صحيح أن الحركة قبل إبرام الاتفاق كانت لها صلات واتصالات بل وربما مساعدات للتمرد في دارفور، لكن بعد السلام صارت الحركة جزءا سياسيا من الحكومة، ولم تصبح بعد جزءا دستوريا، ومن ثم فمن مصلحتها تثبيت دعائم السلام الذي تحقق والذي يقتضي منها أن تتحرك بدور جديد لإطفاء نار الحرب، وهذا ما سنسعى للتنسيق بشأنه مع الحركة الشعبية ومع كل الأطراف ذات الصلة بهذا الأمر. وأعود وأقول إ،ن ما يجري في دارفور هو ذريعة سياسية من قوى لا تريد للسودان أن يدخل مرحلة الاستقرار. والمظالم التي وقعت في الإقليم اعترفت بها الحكومة والتي لها برنامج واضح ومحدد لمعالجة مشاكل الإقليم سواء في ما يتعلق بالصراعات القبلية، أو الصراع على موارد المياه والموارد الطبيعية، أو ما يتعلق منها بحظ الإقليم من التنمية والخدمات. وهذا البرنامج الذي أعدته الحكومة كان سابقا على انفجار الصراع في دارفور. والسؤال الذي ينبغي طرحه هو: لماذا انفجر الصراع في دارفور وبدأ التمرد في الوقت الذي أعدت فيه الحكومة خطتها، وفي وقت بدأت مشارف السلام تلوح في الأفق؟ والإجابة على هذا السؤال هي أن هناك صراعا على السلطة في الخرطوم بين بعض القوى السياسية التي لا تريد للحكومة القائمة أن تنجح في تحقيق السلام ولا تريد لجنوب السودان أن يهدأ في هذا الظرف. كما أن الاوضاع في دارفور اتخذت كقميص عثمان للتعبير عن هذه الموجه من الصراع السياسي، ونحن ملتزمون بمعالجة الأوضاع في دارفور وأعمال معايير العدالة وإتاحة الفرصة للمواطنين في هذا الجزء من السودان بإدارة أمورهم على الصعيد المحلي والمشاركة في إدارة الشأن العام في السودان وذلك ما أوضحته الحكومة من خلال اتفاق السلام مع الحركة الشعبية. * كيف تصف علاقاتكم مع الاتحاد الأوروبي بعد زيارتكم إلى بروكسل؟ توقيعنا على اتفاق مع الاتحاد الأوروبي هو إيذان لتطبيع في العلاقات السودانية الأوروبية والدخول في مرحلة التعاون الإيجابي معهم، وهذا الأمر نسعى لتحقيقه وفق برامج محددة خاصة في ما يتعلق بتطبيق اتفاق السلام بين الحكومة وحركة التحرير في الجنوب. وونحن نرى أن آفاق التعاون مع الجانب الأوروبي واسعة ونسعى لاستغلال هذه الفرصة لإعداد مشروعات وتوسيع دائرة التعاون خاصة في مجالات التنمية والتعاون الفني وسائر المجالات التي نحتاجها في السودان لإعادة البنية التحتية وتعمير ما دمرته الحرب، ليس فقط في جنوب السودان بل في مناطق أخرى. صحيح أن الأحداث في دارفور تمثل سحابة غيوم على العلاقات بين السودان والاتحاد الأوروبي، ولكن بالحوار المستمر يمكننا التوصل إلى تحديد درجة من التعاون المباشر لاحتواء أزمة دارفور بحيث لا تعيق هذه المرحلة الجديدة من التعاون الإيجابي.