في الواقع، لستُ مُتحمساً لتشويه صورة المعارضة السودانية, بل بالعكس تماماً أدعوها لاغتنام فُرصة تأسيس تصور مُعارِض مُكتمل المنهج والرؤية، وبما أن مُحاولات بناء مثل هذا التصوُّر لا تتأتي عادةً إلا بمُحاولات أولية جُزئية في الغالب، فإن مُحاولات تحرِيك الشارع بالوقفات الاحتِجاجية الرافضة لبناء السدود أو المُطالبة بإطلاق سراح المعتقلين مثلاً، تُعد مُحاولات أولية رغم ضعف بضاعتها من حيث المنطِق لكونها تدخُل من مدخل السجال والجدال، كما أن هناك من يرى في إقامة السدود ضرورة، ومن يعتقد أن للمعتقلين الحق في طلب النُصرة القضائية وتوكِيل من ينوب للدفاع عنهم بدلاً من إشهار اللّافِتات الاحتجاجية التي تستجدي الدولة . هذا التأسيس الجزئي السجالي غير كافِ، إذ لا يُمكن تأسيس أجزاء من الرؤية أو الرؤية كُلها والمتمثلة في تغيير شكل الحُكم دون تأسيس المنهج الذي يُحققها، فالرؤية هي نتاج المنهج ويجب أن تحوز على إجماع العامة.. الذين غالباً ما تكون أمزجتهم مُعدَّة ومُسدَّدة نحو تصوّرات وتخيُلات بمِقادير محدَّدة وتنهض نفوسهم إلى التعقُّل كل ما كان استعدادهم له بالفطرة أشدّ وأكثر, ولا تقتصر على الخاصة الذين لا يحتاجون لأن يعرف غيرهم ما في ضميرهم أو مقصدهم, وإن كانت هناك دعوة لتنظيم عمل مناوئ فلابد أن يجد الإجماع, وإلا كيف تفرض منهج التغيير العنيف على من يرى أن المنهج يجب أن يتماشى مع الرؤية الكُلية التي تتحفظ على إراقة الدماء الناتجة عن المقاومة المُمانِعة لهذا الأسلوب في التغيير . أمام المُعارضة فُرصة الإتيان بأفعال مُجمع عليها حتى تُحصِّل القبول العريض تحقيقاً للرؤية الكلية وفق منهجية مُحترمة، وبمثل ما تحشد أنصارها للاحتجاج على إقامة السدود وهذا عمل -كما أسلفنا- قد يجد من يعترض عليه إذا نُظر لهذه السدود بأنها قد تعود بالخير على العامة رغم الضرر اللاحق بالخاصة.. فيمكن أن تؤسس المُعارضة لإقامة وقفة أمام السفارة المصرية بالخرطوم احتجاجاً على تمدُّد السُلطات المصرية في مثلث حلايب.. كما يمكنها حشد أنصارها في مصر لرفع شعارات تؤكد أن المعارضة مع سودانية المثلث، وأن هذا الأمر (خط أحمر) رغم ما تُقدِمه لهم مصر من إيواء وإقامة ودعم مادي ومعنوي.. يمكن للمعارضة أن تفعل ما يمليه عليها وطنيتها وسودانيتها، وبهذا تُحقق الإجماع على عمل يرفع من أسهمها وينقلها من التأسيس الجزئي السجالي إلى منهج يتوافق مع الرؤية التي تسعى لتحقيقها . أطرح هذا الأمر وقد حصَّلت اليقين بأن أفعال المعارضة لا تتعدى كونها أفعالاً خطابية وجدالية لا نفع منها ولا جدوى، وتتعاطى مع الواقع على أساس المُعاندة، بينما كان من الأوفق التعامل معه من منطلق المبادئ المُستندة إلى المنهج.. وما تزال أفعال المُعارضة في أول الطريق ولم تهتد بعد إلى تكوين المعرفة التي تبدأ بالإحساس ثم تنتقل إلى التجربة.. ولا أريد أن أسبق الأحداث وأعبر عن حزني العميق الناتج عن تجاهل هذه الدعوة الاحتجاجية نُصرة للمثلث.. وأرجو أن يكذب حدثي، وتشهد مصر وقفة احتجاجية يقودها الصادق المهدي وأبوبكر حامد نور وغيرهما ممن يتخذون المحروسة ملجئاً وملاذاً آمنا، وإلى ذلكم الحين.. يظل المُثلث في سلة مُهملات المُعارضة .