ختمنا الجولة الأولى من الحديث عن واقع الحالة الجنوبية بتبيان استراتيجية الدول الداعمة للانفصال، والمحصورة في إفراغ الجنوب -كرقعة جغرافية- من مكونه البشري عبر الحرب الدائرة الآن والمرشحة للاتساع وحصد العدد الممكن من الأرواح ، بجانب إجبار المتبقي منهم للنزوح بحثا عن الأمان . ومن اللائق الرد على الرأي الذي يجد في هذه الفرضية مفارقة للإجماع والقائل إن الدول الداعمة للانفصال تنشد نزع فتيل الأزمة لأن مصالحها تتحقق في حال شهد الجنوب نوعا من الاستقرار .. وفي ذلك أقول إن تحقيق هذه الفرضية كان ممكنًا إزاء أوضاع تسمح بهذا الاستقرار .. أما الحالة الجنوبية – المتعطشة للقتل وسفك الدماء ، والقيادة الشرسة الفاقدة للإنسانية وحسن التدبير – غير مهيأة للتوافق على كلمة سواء إذ تجاوز مأتاهم العنيف ذاك كل التوقعات .. الأمر الذي جعل من فرضية دعم الاستقرار ضرباً من ضروب الخيال . إذن ، فإن سياسة الإفراغ ماضية إلى النفاذ من خلال ما يدور الآن من قتال ، ثم يلي ذلك فرض وصاية دولية بدعاوى حماية المدنيين ، بالتزامن مع الضغط على دول جوار الجنوب وبخاصة السودان لإيواء الفارين بجلدهم من الرصاص المسكوب .. وهذا يفسر بالطبع الأهداف غير المعلنة لزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لدول الجوار الجنوبي، ويفسر كذلك دواعي الفقرة السادسة من بيان وزراء خارجية إيقاد التي وسعت من مهام قوات حفظ السلام الدولية في دولة جنوب السودان تمهيداً لتدخل مجلس الأمن وفرض الوصايا الدولية حتى إذا أصبح الجنوب أرضًا بلا سكان يتحقق المراد وتنهب الثروات . أقول ذلك ، وفي النظر بعد يتجاوز الجنوب .. إذ تنطلق بالتزامن مع هذه الأحداث إدعاءات للخبير الأمريكي في شؤون السودان أريك ريفز تروج لها قيادية بحزب الأمة القومي نيابة عن قطاع الشمال, بأن للسودان أياد في إزكاء ما يدور من قتال في الجنوب وذلك لتليين موقف السودان بالترهيب ، وتطميعه في وحدة محتملة على سبيل الترغيب .. أملاً في قبوله بإيواء غير مشروط للفارين من جحيم الحرب .. وفي ذلك مكاسب عديدة ، أدناها : إرهاق مادي وأمني وبيئي يتسع باتساع تدفق النازحين .. يليه ضغط شعبي ضد أي أمل في الوحدة من جديد . إستراتيجية الدول الداعمة لانفصال الجنوب ،والسيطرة على إفريقيا وكبح التمدد العروبي الإسلامي جنوباً ، إستراتيجية لا تخطئها عين .. ويدور رحاها الآن في ميدان الجنوب ، تمهيدًا للسيطرة على كامل الجوار ، مما يتطلب الإتيان بالمستحق من تدابير .. وأقل ما يمكن إتيانه هو تنحية العواطف والتعامل بمنطق العقل والمصلحة .. فهل هنالك مصلحة من فتح الصدور لهذا الفرار، والتدافع لتنظيف الصحائف على اعتبار أن الوحدة تجب الانفصال؟ أخيرا .. ليس كل ما يترتب على أحداث الجنوب الحالية شراً محضاً .. فقد ارتفعت أصوات من كانوا بالأمس يتباكون ويحملون الحكومة وحدها وزر الانفصال .. ارتفعت أصواتهم بالرفض لكل ما من شأنه أن يقرب إلى الوحدة ذراعاً .. وقد طالعت العديد من الردود في أكثر من موضع تشترط الاستفتاء لوحدة الجنوب مجددًا بعد انفصال ، في إشارة منهم لرفض الفكرة من حيث المبدأ والأساس .. وفي ذلك خير ، إذ يؤكد أن موقف هؤلاء السابق كان موقفا عاطفيا تلاشى مع أول اختبار حقيقي لاستدراكات العقل . وهذا بالطبع يترتب عليه ضغط في اتجاه جديد لا مجال فيه للعاطفة .. وإن كانت الظروف تتطلب الوقوف مع شعب الجنوب، فإن المعادلة تقول إن الوقوف يجب ألا يتماشى مع إستراتيجية الإفراغ .