الذي لم أتحسب له في تشريِّح الحالة اليسارية كمُتابِع ومتعاطي مع تطوراتها أن تضِيق مساحة الحرية والتعبير عن الرأي لهذه الدرجة .. ومردُّ عدم التحسُب، استند الى الظن الإثم بأن الشيوعي السوداني يُمارِس الديمقراطية بآلياتها التي تتيح حرية الفِعل السياسي والتنظِيمي بما يكفُل تسيير شؤون الحزب بصفة خاصة وشؤون منسوبيه على وجه العموم .. وما كنت أتصور أن تُصفي قيادات الحزب حساباتها بشِدة من العصبية، فتصير علاقات الرفاق إلى هذه القطيعة وتَستخدِم أداة الفصل التعسُفي تجاه بعض الكوادر بحجة تنكبهم الطريق المُستقيم . للدكتور الشفيع خضر تاريخ لا ينكره اليمين ولا اليسار على حدٍ سواء .. واللافت في مسير الرجُل : المُراجعة المُستمِرة للكَسَب المُتحقق من السَكَب السياسي والفكري في إناء الحزب، بما يُتصوَّر لدى البعض من السابقين أو الحرس القديم كما يشاع ويطلق عليهم بأنه خروج عن خط الحزب السياسي والفكري، أو أنه يأتي في إطار التنازُلات الكبيرة الناتجة عن المُراجعات الفِكرية التي أنتجت عُزلة بين الحزب وشرائح المجتمع السوداني العريضة .. بينما يُتصوَّر عند مُجايليه أو ما يُطلق عليهم بالمجددين بأنه تنازُل في سبيل تجاوز مفاهيم الصفوة والنُخبة، وخطوة جريئة للانعتاق وكسر جمود الانغلاق على الذات . انشغل أتباع منهج الشفيع، بمُراجعة قضايا فكرية جوهرية عديدة، أهمها: إزالة الحاجز النفسي الناتج عن اسم الحزب لدى من يجدونه مُعبراً عن لحظة فكرية مادية غابرة، إذ رأوا أن تغيير الاسم من شأنه أن يضعهم في المشهد تماماً بحيث يُمّكنهم من استمالة وجدان الذين يهتفون في شأن الدين بفطرتهم .. ومن المُراجعات الفكرية الصعبة التي نظَّروا لها إنه ليس من الأخلاق إنكار الدين، أو التأسيس لإطار فِكري دون الاستناد الى معايير مُستمدة من روح التديُّن، وفي لحظة تاريخية فارقة أشبه بالدوار الميتافيزيقي قرر أنصار الشفيع التعاطي مع المبادئ الإسلامية وتطلعوا لاعتمادها في برنامج الحزب كخطوة نحو توفيق الأوضاع وتوسيع الماعون، والتوافق على أُسس جديدة تُقارب بين المسلمات الكمّية الوافدة وبين ما هو أصيل يقبله الدين والعرف والأخلاق. كان من المتوقع أن يُقابل النهج ( الشفيعي ) بما يستحق من قبل الحرس القديم، كونه يستهدف العمود الفقري لليسارية الماركسية المُلحدة ويضرب توجهها الشيوعي في مقتل، وذلك عبر المؤسسات التنظيمية أو عبر المؤتمر العام السادس للحزب، هذا إذا سلمنا جدلاً بأن قواعد الحزب الشيوعي السوداني في مأمن من نهج مجموعة الشفيع لأن شيوعيتهم مُستمدة من قناعة راسخة بأن لا مجال لتغيير الاسم أو التنازلات الفكرية التي تجعل من الشريعة الإسلامية رافداً يستمِد منه الحزب تشريعاته ومرجعياته .. لكن الذي لم يكن مُتوقعاً أن يخطو المحافظون أو قُل الحرس القديم خُطوات تعسُفية منافية لشعارات الحزب التي تدعو للحُرية والديمقراطية، وذلك بإقدامهم على فصل د. الشفيع خضر ومجموعته التي تضم ( حاتم قطان وهاشم التلب وعبد المنعم خواجة ) بجانب توجيه إنذار لكل من ( د. مصطفى خوجلي وعبد الرحمن سالنتوت وعدد ليس بقليل من منسوبي الحزب ) ودمغِهم بالموالاة للإسلام السياسي كمفارقة تُضاف لغياب الرُؤية، بجانب اتهامهم بالسير في طريق مُخالف لخط الحزب السياسي والفِكري وعدم التزامهم برأي الأغلبية في القضايا الخلافية . نهج ( الشِفيِّعة نسبةً للشفيع ) زعزع قناعات لفيف من الملاحِدة، وأتاح لهم فُرصة النظر بعين الطائر خارج أسوار الشيوعية المتدحرجة إلى زوال .. وإلا لماذا استخدمت قيادات الحزب التاريخية ( الحرس القديم ) أسلوب القص والضرب تحت الحزام؟ ولماذا لم تختر المواجهة إن كانت تنطلق من أرضية صلدة وتتمتع بسند حزبي وعضوية لا ترضى الدنِية في مُشروعها الفكري اليساري؟ لا أملُك القول الفصل للإجابة على هذه التساؤلات، إنما أملك قناعة راسخة بأن المُتابع للتطور الذي تؤول إليه العلمانية يرى بأن مآلها هذا، مآل إلى زوال .. وأن الشيوعية في السودان تنتظر اللحظة المناسبة للقفز منها أي من العلمانية إلى بر الأمان . مهما يكن، فإن مُراجعات اليسار الفكرية مُرحبٌ بها، لا لأنها تأتي في سياق التطور الطبيعي للأفكار فحسب، بل لأن الكاسب الأكبر من ذلك كله هو المجتمع السوداني المُسلِم بطبعه والمُتطلع لعلو كعب الدين على ما دونه من مطالب ومُكتسبات .. وما قرارات الفصل والتخبط الذي يعيشه الرافضون لهذه المُراجعات، إلا دليل إضافي على انتصار المفصُول .. فالمراجعات الفكرية الموصولة بالفطرة السوية ، لا تهزمها القرارات التعسفية وتسوية الحسابات بأساليب رجعية .