يطيب لي أن أقدّم لكم في هذه العجلة جزء بسيط من تسليط ضوئي على عدّة جوانب هامة مما أمعنت فيه النظر منذ إقامتي –هناك- في أرض السودان، حياتها وجوها وشعبها وجوانب أخرى؛ حتى لاتؤدي التجارب قبل أن ترى النور، وقبل إغتيال الحلم في رحم الغيب، وأيضاً ليكوّن مقالي صورة نمطية جيّدة للمقبلين على قلعة العلم والمعرفة في هذا الموسم وليزرع الثقة في نفوسهم، ولدحر مانشر عن هذا البلد -الذي نكمن له الحبّ والإحترام الفائق- من التراهات التى تخالف الواقع والتى أفزعت الكثيرين عن الوصول الى (قلعة المعرفة)، ولأبرز إلى السطح جواهراً مدفونة وراء أسوار الترّاهات وحصونها المنّاعة ممايزيد لها بهاءً ورونقاً وأكثر حيوية، أو تحارب الخيال السخيف والأوهام المتراكمة والخرافات الفاشية لتهدم أستارهم ولتجعلهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً!. بدأت علاقتي مع السودان وشعبها في وقت مبكر حينما كنت في المرحلة الإعدادية، حيث تماهيت مع أخبارهم حتى صرت كسوداني يعيش في بيئة نائية من بلده لفرط حبّي لها، واستغرقت منّي وصولها قرابة فترة من الزمن، حتى جاءت اللحظة الجميلة المشوبة برذاذ المطر والسماء ملبدة بالغيوم التي حظيت بالرحيل من العاصمة الكينية –نيروبي- التى عُرفت بمنظرها الخلاب وأبنيتها الشاهقة المبجّل بالبهاء والرونق، وبجوها الجذاب المرح الذي يميل إلى البرودة قليلاً، إلى بلد وصفوه بأقبح الأمور كالمجاعة والجو المكتظ وسوء المسكن وبكثرة الأمراض القاتلة فيه وأشياء أخرى تبعث في تفس المقبل الجديد قلقاً شديداً عن مستقبله وما يؤول به حاله بعد وصوله هنا، فكانت هذه الأمور تشغل بالي وتمنعني من الرقاد والقيلولة البسيطة قبل رحيلي إليها ولربما كادت تودي حلمي وأمنيتي لولا الثقة والثبات على العزيمة المسبقة!. وكغيري من المقبلين على قلعة العلم والمعرفة لم يكن لديّ معلومات مسبقة عن هذا البلد سوى تلك الأوهام المتراكمة والإشاعات الفاشية التى لاتوافق مع الواقع شيئاً وإن قلّ، وعلى الرغم من أنني كنت محظوظاً بإقبال هذا البلد المفضل لديّ منذ صغري إلا أن القلق والخوف من المستقبل كان أنيسي في رحلتي والتشاؤم ممايتباذر إلى ذهني غالباً اعتماداً على المعلومات الأولية!. وأثناء رحلتي الجوية بدأت أعاتب نفسي باختيارها السودان كقلعة مفضلة لديها رغم توفر بلدان أخرى أسمح منها، تتمتع برغد العيش وبهاء المنظر في القارة السمراء وغيرها من الدول الأوربية والآسيوية فلم أتمكن بالسهر والحديث مع صاحبي بالجنب أثناء الطيران!، حتى وصلنا الخرطوم في ساعة متأخرة من الليل فكان القلق يتغلّب على مشاعري آنذاك!، كانت أسئلة كثيرة تشغل بالي حتى تسببت لي بتقليل الفرحة العامرة مع خلاني وأترابي في صالة المطار الدولي للخرطوم، ولكن عاد الأمل والتفاؤل رويدا رويدا بعد إمعان نظر شديد لوجوه رفقائي -هناك- في المطار وكأنها تحكي لي بمقدمة شيءٍ جميل لم أعرف حقيقته بعد!، واليوم وبعد سنوات عشت في رحاب السودان فمن مسؤوليتي أن أحقق لقارئي الكريم: "بعد مجيئي هنا عاد الأمل والفرحة والإبتسامة التى فارقتني سنيناً طوالاً وبدأت حياتي تنتقل من الأحسن إلى الأفضل!". وكطيبة حياتها وعذوبة مائها فشعبها طيب للغاية حتى تتخيل في أن قدميك وطأت في بقعة من عالم الخيال أو في روضة من رياض الجنة –إن صح التعبير-، فمنذ إقامتي هناك أمعنت النظر فيهم وكأن الإبتسامة وبشاشة الوجه لم يخلق إلا لشخص قي أرض السودان!، في قارعة الطريق يبتسم، في المسجد يبتسم، في العمل والكد والمتاعب يبتسم، وكأنه خلق ليبتسم!، توارثوا كابراً عن كابر، وقد اشتهرت مقولة السيد عبدالله حسن عنهم "التقيت في السودان شعباً طيباً للغاية وشربت منها مياهاً عذباً للغاية"، هذه هي السودان التى تترد عن الوصول إليها!، أمّا (سخاؤهم الأزلي) ممايجعل السودان رمزاً من شعائر الإسلام المفقودة، تتميز بالجود والكرم والعطاء اللّامحدود والتسابق إليه في المناسبات العامة، وهناك حوادث عدّة يطيب لي أن أذكرها على سبيل المثال لا الحصر!. أولها: بعد صلاة المغرب وأنا في دكان بقربنا دخلت فتاة صغيرة لعلها في الخامس أو السادس من عمرها تريد شراء حلويات من صاحب الدكان كعادة الأطفال، وبعد شرائهابأشياء قد لايكفيها، أقبلتني ببسمة لطيفة وبانشراح صدر ينبض براءة الطفولة : "تفضل ياعم وكل معي"!، كادت عيناي تذرف دموعها الحارة لفعلة هذه الفتاة التى ترارعت في عالم يتصف بالسخاء الباهر، أمرت بصاحب الدكان بأن يزيد لها الحلويات وشكرت لها بفعلتها المثيرة!، وثانيها: كانت في رمضان حيث تفرش السجادة أمام كل منزل، ودأبت كل أسرة بالإفطار مع غيرهم من مشاة الطرق فلاتسمح لك الظروف بالوصول إلى منزلك بعد إقتراب الإفطار لكثرة عدد الأسخياء الذين ينشدونك بالله أن تفطر معهم فقط، وفي مساء اليوم السابع والعشرون من رمضان الماضي –تقريبا – استأجرت سيارة يقال لها (الأمجاد) في أرض السودان بعد إلحاح شديد لأصدقائي في الخرطوم؛ لأصل إلى مكان يفطر فيه عدد هائل من الصوماليين الذين يقيمون هناك ففوجئت – وأنا في طريقي إلى مقصدي- بفتاة محجبة، تتمتع بجسد رشيق وقد معتدل، فقامت أمامنا –وفي قارعة الطريق-!، ولم تكن من صنف العاريات العاهرات اللاتي يتاجرن بجسدهن الناعم، أقبلتنا –أنا وسائق السيارة المستأجرة- بأدب وحياء لا أصفه بسطور بسيطة كهذه، فأعطتنا تمرات من نوع العجين الراقي وأطعمة بسيطة وعسائر مشهورة في أرضية السودان ككركدي مثلاً وبعد إلحاحها وإصرارها الطويل قبلنا منها وشكرنا لها فانعطفت وهي تحمد الله على توفيق نعمة تراها بعين واحد وهي إفطار الصائم، وبدأت أتتبع أثرها وكأنه يحكي لي شيئاً من جمالها وطيبة قلبها، لاغرو إنها السلالة الطيبة!. وفي نهاية المطاف أحقق للطالب الجديد لامجال للخوف عن مستقبلك وحياتك في السودان، وهذه السطور البسيطة لم تخرج من ذهني لأزرع في قلبك شيئا من حبّ السودان وأهلها بالتقنيش والتجميل المزيف، بل جاءت لتحكي لك بأن للسودان وجه آخر غير الذي سمعناه عن السوق وماجاء بالقيل والقال، وهنا مايقرب بستة آلاف من الصوماليين الدارسين بكافة الجامعات السودانية وبكافة التخصصات ولولا طيبة السودان وأهلها لما توفرت لهم بهذه الأمور، هذا ينعكس على جمال السودان وطيبة شعبها الطيب، فعلى الطالب الجديد أن لايتردد بالوصول هنا، ومرحباً بالجدد وعاما دراسياً موفقاً للجميع.