محمد جمال عرفة هل ينهي التوقيع على بروتوكول الثروة 12 عاما من التمرد في شرق السودان؟باكتمال ثلاثية اتفاقات السلام السودانية الداخلية مع أطراف متمردة في الجنوب (يناير 2005)، والغرب (مايو 2006) ثم الشرق (أكتوبر 2006)، فضلا عن توقيع تفاهمات مع قوى سودانية شمالية معارضة خصوصا التجمع الوطني المعارض، يمكن القول إن كل أسباب الهدوء والاستقرار والسلام قد تحققت للسودان "ظاهريا"؛ حيث لم يتبقَ عمليا سوى فصائل لم توقع هذه الاتفاقات في المناطق الثلاث تعول الخرطوم على ردعها من قبل الموقعين. وبانتهاء أسرع اتفاق سلام في شرق السودان (اتفاق أسمرة) والذي استغرق قرابة 4 أشهر فقط، مقارنة باتفاق الجنوب (نيفاشا) الذي استغرق عامين، واتفاق دارفور (أبوجا) قرابة عامين أيضا، ربما يتوافر للسودان العديد من المزايا التي لم تتوافر له منذ استقلاله قبل أكثر من 50 عاما، والذي سيؤدي -في حالة تطبيقه- إلى استقرار إحدى أشد مناطق السودان أهمية من الناحية الاقتصادية. فليس سرا أن اتفاق الجنوب يواجه عقبات في جدوله الزمني، وهناك تكهنات بتسريع قيادة الجنوبالجديدة بقيادة سلفاكير لخط الانفصال عن الشمال، كما أن اتفاق الغرب في دارفور لم ينفذ حتى الآن، وإذا كانت التدخلات الدولية في هذه الاتفاقات، والمتصلة بمصالح سياسية واستخباراتية وتبشيرية واقتصادية، كانت وراء عرقلة وعدم إنجاز هذه الاتفاقات، فهناك آمال كبرى في أن ينجح اتفاق الشرق؛ لأن الدول الأجنبية لم تشارك فيه. فقد أنهى اتفاق نيفاشا الذي وقع في يناير 2005 نحو 21 عاما من الحرب الأهلية في جنوب السودان، ونص الاتفاق على مرحلة انتقالية مدتها 6 سنوات يتم بعدها تحديد مصير الجنوب بالوحدة أو الانفصال عن الشمال واقتسام السلطة والثروة، بيد أن الخلافات بدأت تظهر بين حكومة الجنوب والشمال بشأن العديد من الملفات القومية وحتى توزيع الثروة رغم تسليم الخرطوم عوائد النفط لحكومة الجنوب بشكل منتظم. أيضا قضي "اتفاق أبوجا" في مايو 2006 بشأن دارفور بتقاسم السلطة والثروة بحيث يتم تمثيل أهل دارفور في مستويات الحكم كافة في السودان وفي الخدمة المدنية والقضاء والقوات المسلحة وقوات الشرطة والأمن والمخابرات، بيد أن رفض فصيلين رئيسيين هما "العدل والمساواة" و"جبهة الخلاص" التوقيع على الاتفاق جمده تقريبا، وحتى "مني أركون ميناوي" الذي وقع فصيله (حركة تحرير السودان) الاتفاق لم يتسلم بعد مهام منصبه كرئيس للسلطة الانتقالية في درافور وكبير مستشاري الرئيس البشير. أما اتفاق شرق السودان (ولايات البحر الأحمر – القضارف - كسلا) الذي وقعه متمردو الشرق مع حكومة الخرطوم والذي أنهى بدوره 12 عاما من التمرد في شرق البلاد الغني بالثروات الطبيعية، فيكاد يكون أسهل وأسرع اتفاق سلام وقعته حكومة الخرطوم، ربما لأن التفاوض جرى بوساطة دولة جارة (إريتريا) التي كانت تنطلق من أراضيها قوى التمرد، وربما لعدم تدخل الدول الكبرى في الاتفاق، وبالتالي عدم تشجيعها قوى التمرد للمطالبة بمطالب تعجيزية. ففي اتفاق الجنوب (نيفاشا) كان هناك تدخل من الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا "إيجاد" وهي منظمة إقليمية، إضافة إلى تدخل مبعوثين من 7 دول أجنبية على رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية وقعوا كضامنين للاتفاق، وفي اتفاق (أبوجا) ورغم أنه ارتكز على وساطة الاتحاد الإفريقي، فقد تدخل فيه عشرات الدول الغربية والمنظمات والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية. مكاسب مهمة للخرطوم بشكل عام يمكن القول إن اتفاق شرق السودان حقق جملة مكاسب لحكومة الخرطوم على النحو التالي: 1- أظهر الخرطوم بمظهر الدولة التي تستطيع وحدها -دون تدخل دولي- إبرام اتفاقات سلام مع القوى المتمردة على الحكومة، ومن ثم حفظ السلام وحدها دون حاجة لتدخل قوات دولية، كما هو الحال في دارفور. ولهذا لوحظ حرص الخرطوم على تحويل احتفال توقيع اتفاق الشرق إلى مظاهرة سلام كبيرة بغرض إظهار قدرتها وحدها على حل مشاكلها دون تدخل دولي. 2- بتوقيع هذا الاتفاق تكون الخرطوم قد سحبت من يد عدوها التقليدي "أسياسي أفورقي" رئيس إريتريا ورقة ضغط ظل يستخدمها طوال 12 عاما ضد حكومة السودان، خصوصا أن إريتريا ظلت تحتضن النشاط العسكري لمؤتمر (البجا) أكبر فصائل جبهة الشرق المتمردة على أراضيها منذ انطلاقه في عام 1994، ولحقت به ميليشيا (الأسود الحرة)، وهذا يعود لأسباب جغرافية؛ حيث ترتبط ولايات الشرق الثلاث بحدود مع إريتريا من البحر الأحمر حتى منطقة الحمرة، كما أن هناك تداخلا عرقيا على الحدود بين قبيلتي "بني عامر" و"الحباب"، وقبيلة "الرشيدة" التي ينتمي لها الأسود الحرة، وربما سهل هذا أيضا رغبة إريتريا في الحصول على البترول السوداني وزيادة التبادل التجاري، فضلا عن توقيع حلفاء أفورقي في المعارضة السودانية (قرنق والميرغني) اتفاقات سلام مع الخرطوم. 3- أرجع اتفاق السلام مع الشرق حدود السودان البحرية على البحر الأحمر (ولاية البحر الأحمر)، وأعاد بالتالي الاتصالات الحيوية المقطوعة بالموانئ السودانية هناك التي كانت تتعرض دوما لمخاطر قطع الطريق بينها وبين الخرطوم وعزل السودان عن البحر الأحمر كمنفذ وحيد له؛ حيث كانت أي مجموعة مسلحة صغيرة قادرة على غلق الطريق إلى هذا المنفذ البحري المهم. 4- حيد اتفاق الشرق "الجنوبيين"، وأخرجهم فعليا وعمليا من الشرق الذي تحالفوا معه خلال فترة النزاع مع الخرطوم بعدما سبق لهم التحالف مع متمردي الشرق (مؤتمر البجا) عام 1996 ونقلوا قوات من الجيش الشعبي لتحرير السودان إلى شرق السودان، خاصة أن اتفاق سلام الجنوب نص بدوره على أن يسحب متمردو الجنوب قواتهم من الشرق إلى جنوب الحدود الفاصلة بين الجنوب والشمال (كما كانت) في الأول من يناير 1956 (تاريخ استقلال السودان) خلال سنة واحدة من بداية تنفيذ اتفاق السلام. 5- يضم شرق السودان أكبر منجم ذهب في البلاد ومصادر الماس والميناء الوحيد في البلاد وهو بورسودان، حيث أنابيب النفط الرئيسية تغذي الصادرات إلى العالم الخارجي، وكل هذه مكاسب تضمن لحكومة الخرطوم ضمان مصادر مهمة للثروة دون أن تعرقل حركات التمرد الاستفادة منها. عوائق منتظرة قد تبدو الصورة وردية عقب توقيع اتفاق سلام الشرق واكتمال ثلاثية سلام السودان، بيد أن حقيقة الأمر أن هناك عوائق كثيرة لا تزال قائمة ربما تجعل سلام واستقرار السودان الحقيقي أمرًا لا يزال بعيد المنال. ويأتي على رأس هذه العقبات والعوائق التدخلات الأجنبية الغربيةوالأمريكية التي تتصل بمصالح إستراتيجية في القارة الإفريقية وفي السودان تحديدا؛ حيث بدأت أصوات غربية تقول إن مساحته الضخمة واتصال حدوده مع 9 دول إفريقية بات أمرا غير مقبول، ومن المهم إعادة تقسيم أو توزيع هذه المناطق الشاسعة للسودان على أقاليم محددة. وهنا تثار مسألة للإستراتيجية الأمريكية لخلق قرن إفريقي كبير موازٍ للشرق الأوسط الجديد، يتم تقسيم السودان بينهما.. شمال عربي وجنوب إفريقي!. أيضا يأتي ضمن هذه العقبات تدخلات المنظمات الإنسانية والتبشيرية الأوروبية التي يعتبر الكثير منها واجهات لأجهزة الاستخبارات الغربية، والتي تلعب بسلاح جديد هو سلاح "الذريعة الإنسانية" كمدخل جديد يبرر التدخل الأجنبي في شئون السودان. أما العقبة الثانية تتمثل في استمرار بقاء بعض القوى المتمردة خارج اتفاقات السلام في الجنوب والغرب والشرق أيضا، وهي فصائل متمردة -إن لم تكن مؤثرة حاليا وتترك الخرطوم أمر حسمها للقوى التي وقعت معها اتفاق السلام- فهي تشكل صداعا في رأس الخرطوم وأداة ربما تلعب بها القوى الأجنبية في حالة الرغبة في ذلك. وعلى سبيل المثال، لم يكد اتفاق سلام الشرق يوقع حتى أعلنت ما تسمى (الحركة الوطنية لشرق السودان) تحفظها؛ حيث أعلن أمين محمد طاهر عضو القيادة العليا وأمين الاتصال التنظيمي والسياسي بهذه الجبهة أن اتفاق أسمرة لا يشكل إلا خطوة جزئية في اتجاه الحل السياسي الشامل لمشكلة شرق السودان، وأن ما تم وفقه لن يؤدي إلا إلى تهميش قطاعات مهمة من الرأي الشعبي السياسي والاجتماعي العام في شرق السودان بحيث يقصيها ويعزلها على نحو شبيه بما حدث في دارفور بفعل عدم إشراك حركات سياسية ذات حضور على الأرض. ومعروف أنه توجد حركات مشابهة لم توقع اتفاقات سلام في الغرب أو الجنوب مثل حركة تحرير السودان -جناح عبد الواحد محمد نور، وحركة العدل والمساواة بقيادة دكتور خليل إبراهيم، والتي انضمت فيما بعد لكيان أوسع اشتمل على تنظيمات سياسية أخرى، وعرف باسم "جبهة الخلاص الوطني"، وذلك فضلا عن مجموعة ال 19 المنشقة عن حركة تحرير السودان (جناح مساعد رئيس جمهورية السودان مني أركون ميناوي). والأهم هنا أن هناك تداخلا بين حركات التمرد الثلاث (الجنوبيةوالغربية والشرقية) في منطقة شرق السودان؛ فحركة (العدل والمساواة) الناشطة في دارفور، غرب السودان، تلعب دورا في شرق السودان، وهي لم تدع إلى مفاوضات أسمرة، وسبق لها رفض التوقيع على اتفاق السلام حول دارفور في أبوجا في مايو 2006 مع حركة تحرير السودان لعدم تلبية مطلبها بتعيين نائب لرئيس السودان من المنطقة، والجبهة الشعبية في جنوب السودان لا يزال لها قوات في الشرق لم تنسحب. أما العائق الأكثر خطورة فهو استمرار التنازع والخلافات بين أبناء الشمال أنفسهم والقوى السودانية الحاكمة في الخرطوم، فرغم وجود اتفاقات بين الحكومة (حزب المؤتمر الوطني) وبين التجمع الوطني السوداني وحزب الاتحاد والتوافق بينهما على رفض دخول قوات دولية للسودان، فلا تزال هناك قوى أخرى مثل حزب الأمة والشيوعي والمؤتمر الشعبي تعارض الحكومة وتشكل صداعا في رأسها وقوى تستند إليها الجهات الخارجية في الضغط على الخرطوم بدعاوى الديمقراطية والحريات. هذا غير خلافات أخرى في رأس الدولة بين الرئيس البشير ونائبه الجنوبي سلفاكير، وأخرى يشاع أنها بينه وبين نائبه الثاني أيضا علي عثمان محمد طه، وكلها تحديات أمام الحكومة ليست سهلة. سلام السودان الحقيقي ربما قطع بالتالي نصف الطريق نحو الحقيقة عقب توقيع ثلاثية السلام في نيفاشا وأبوجا وأسمرة، بيد أن نصفه الثاني يتوقف على توقف التدخلات الخارجية من جهة، وتوحد أبناء السودان وقواه السياسية نحو خطر التقسيم الخارجي من جهة أخرى!.