[email protected] 25/ أُكتوبر/ 2016م قبل أن يبسط فيلسوف الائتمان المُتخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق الدكتور طه عبد الرحمن نقده للشرود من الأخلاق ، خصص جهده لزلزلة لائحة من القراءات المُشتغلة على مفهوم العَلمانية ، مُتخذاً في ذلك النقد من غير تشنيع ، والبناء من غير ترقيع ، ومُتحدياً المُسلمات المُقررة والاعتقادات المُرسخة عبر مؤلفه (روح الدين .. من ضيق العلمانية إلى سِعة الائتمانية) إذ اهتدى الدكتور طه إلى مُقاربة ليست من جنس المُقاربات المعهُودة لأنها لا تخاطب العقل المُجرَّد وإنما خاطبت العقل المُؤيَّد بالروح فتعرض بمُقاربته هذه لمختلف الدعاوى علمانية كانت أو دنيانية قبل أن يُقدم الحلّ لهذا الإشكال الذي لا يتمثل في وجود ضيق يفصل بين الدين والسياسة ، وإنما في تجاوز الضيق إلى فضاء وجودي غاية في السِّعة يتداخل فيه المرئي والغيبي ؛ فهنالك أي في السِّعة لا فصل ولا وصل . جاء كتاب روح الدين بمُقاربة روحية لحل إشكال الصلة بين الدين والسياسة ، بحيث لا تفصِل الدعوى الائتمانية بينهما الفصل الذي تُحدثه الدعوى العلمانية ولا تصل بينها وصل الدعوى الدُنيانية ، وإنما تنزل رُتبة سابقة على الفصل والوصل وهي رتبة الوحدة الأصلية التي منشؤها العالم الغيبي وتتمثل في الأمانة التي تحملها الإنسان باختيار منه . لهذا اقتضى مبدأ النسبة الائتمانية على خلاف مبدأ الوضع العلماني بأن يكون الإنسان بحسب المؤلِف لا مُتسيِّداً وإنما مستودَعاً لا ينفك يرعى حقوق الوديعة .. وعلى هذا النسق جاء كتابه التالي لروح الدين يحمل عنوان (بؤس الدهرانية .. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين) حيث بيّن الدكتور طه في نقده الائتماني لفصل الأخلاق من منبتها الأصلي وهو الدين ، أن بؤس الدهرانية يتمثل فُي مروقها من الدين على وجه العموم لإساءة فهم الدهرانيين للآمرية ، رادين منشأها إلى إنكار آمرية الإله ، إثباتاً لآمرية الإنسان بحُجة أن الآمرية الإلهية تسلُط من خارج على الإرادة الإنسانية. على ذات الأنساق السابقة جاءت آخر إصدارات فيلسوف الائتمان والأخلاق الدكتور طه عبد الرحمن ( شرود ما بعد الدهرانية .. النقد الائتماني للخُروج من الأخلاق ) تتِمة لبسط المزيد من النقد للدُنيانية ، كاشفاً عن صورة أُخرى من الدنيانية تجاوزت كما قال المؤلف رُتبة المُروق إلى رُتبة أبعد منها وهي الخروج من الأخلاق بالكُلِّية ، وهو ما اصطلح عليه ب (الشرود) مؤكداً بأنه ( إذا كان الدهراني مارقاً ، فقد أضحى ما بعد الدهراني شارداً) . وعليه يجد القارئ الكريم في هذه المساحة مُقتطفات من كتاب الشرود ، نبيِّن خلالها كيف بنى هذا الفيلسوف المُعجزة نقده لشرود ما بعد الدهراني من الأخلاق . إشتغل فيلسوف الائتمان الدكتور طه عبد الرحمن في إصدارته الأخيرة ( شرود ما بعد الدهرانية .. النقد الائتماني للخُروج من الأخلاق ) الصادرة عن المُؤسسة العربية للفكر والإبداع ( بيروت ، ط 1، 2016، في 560 صفحة) إشتغل ببيان أن منشأ ما بعد الدهرانية هو إنكار شاهدية الإله إثباتاً لشاهدية الإنسان … والمُراد بالشاهدية الإلهية بحسب المؤلِف هو صِفة الشهادة التي يتجلى بها الحق سبحانه وتعالى على عباده ، شاهداً على أفعالهم وأحوالهم بالحسن أو السوء . وفي ذات السياق أوضح الدكتور طه أن هذا الرفض للشاهدية الإلهية من قِبل ما بعد الدهرانيين نتج عنه أسوأ شرود اتخذ وجهين اثنين : أحدهما ، رفض إشهاد الإله الذي يستتبع رفض الائتمار بأمره ، ومّثَّلت هذه الصورة فئة فلاسفة ما بعد الدهرانيين ؛ والثاني ، رفض إشهاد الإله الذي لا يستتبع رفض الائتمار بأمره ، ومّثَّلت هذه الصورة فئة التحليليين النفسانيين ما بعد الدهرانيين . ولما كان الشرود كما بيَّن طه خروجاً من الأخلاق ، فقد اتخذ هذا الخروج عند فئة فلاسفة ما بعد الدهرانيين وفئة التحليليين النفسانيين ما بعد الدهرانيين ، صورتين إثنتين بحسب المؤلِف إحداهما ، ترك اعتبار القِيم الخُلُقية ، بحُجة أن للأخلاق المعهُودة توجُهاً وعظِياً وقهرياً تجاوزته الحداثة ؛ أما الصورة الثانية فتمثلت في الأخذ بالقِيم المُضادة للقِيم الخُلُقية ، بحُجة أن البلى أصاب هذه القِيم ، فأصبحت جالبةً للتخلف ، أو بحجة أن ظروف الحياة تبدَّلت رأساً على عقب فأصبحت هذه القِيم عائقاً للتقدُّم .. لذلك جاءت اجتهادات د. طه في هذا المؤلف للوقوف على مظاهر قلب القيم الأصلية التي اتبعتها الفئتين في إنتاجاتها ونتائجها فضلاً عن إهمالهما للقيم الخُلُقية ، حتى يتبين مدى الشرود الذي تُفضي إليه الصورة ما بعد الدهرانية من الدُنيانية المُعاصرة . أسس الدكتور طه نقده لما بعد الدهرانية مُنطلقاً من أرضية فلسفته الائتمانية ، ومُستنداً على حقائق إنسانية كونية سماها ب ( الحقائق الحدِّية الأصلية ) وهي : حقيقتا حفظ الحدود ومُحصلتهما أن الإنسان الآدمي محدود ومحفوظ أي أنه محدود بحدود تحفظه من عدوّه ، فيُعرِّف طه الحد بأنه الحاجز الذي يفصل بين الإنسان وبين أذى الشيطان .. وحقيقتا ستر السوأة ومُحصلتهما أن الإنسان الآدمي مستور ومرحوم ، مستور من لدن ربِّ كساه أكثر من لباس ، ومرحوم من لدن ربِّ آتاه أكثر من رحمة . وهكذا يُبيِّن الدكتور طه أن الشاهدية الإلهية التي تضمنتها قصة النهي الأول عن الأكل من الشجرة تؤسس لأخلاق تنبني على مبدأين جامعين ، هما مبدأ حفظ الحدود ومبدأ ستر السوءات .. ولما كانت ما بعد الدهرانية تنبذ الشاهدية الإلهية لزم أن ينبني شرودها كما يتصوَّره المؤلف على مبدأين مضادين هما : مبدأ تعدِّي الحدود ومبدأ كشف السوءات . خصص الدكتور طه الفصل الأول من كتاب (الشرود) لنقد إنكار الشاهدية الإلهية للأنموذج ما بعد الدهراني الذي مثلته فئة الفلاسفة ، كما خصص الفصلين الثاني والثالث لنقد إنكار الشاهدية الإلهية الذي مثلته فئة التحليليين النفسانيين ، إثباتاً لشاهدية الإنسان .. وهذا ما نخصص له المقال القادم إن أجرى الله القلم على النحو الذي نرغب .