ماذا أرادت أن تُؤسس له الدُول المُعلِنة انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية ؟ ماذا أرادت أن تُمسرِح على خشبة العرض وتقول ؟ في الواقع إن تفهُم قرار الانسحاب من ميثاق روما المُؤسس للمحكمة الجنائية لا يمكن أن يُفصِح عنه الغلاف أو العناوين العريضة ، إنما يقتضي الأمر إجالة النظر والإطالة في الصفحات والحواشي .. وعِندها يُكتشف أن كتاب منظُومة العدالة الدولية لا يحمل بين دفتيه عدالة يُنتظر أن يحتكم إليها أو تفصِل في أحكامها بالعدل . ذلك لأن المحكمة الجنائية الدولية منذ تأسيسها لم تُرفع لها القُبعات أو تُشكر في المجالس العامة إلا من بعض الذين ينتظرون منها إقعاداً للأنظمة التي يكنون لها العداء بل على العكس تماماً ارتبط الحديث عنها بموازين عرجاء تميل حيث يُراد لها أن تميل ، لا حيث يفترض أن تميل .. ارتبطت محكمة الجنايات الدولية بأجندة سياسية يُحاكم تحت سقفها كل من قوي عوده واستعصى عن الطوق ، ويُلاحق بالمثول أمامها كل من تمرَّد على التقليد وأطلق جناحه للريح .. مارست المحكمة تعسفاً واضحاً وخاضت معارك لا علاقة لها بالعدالة ضد العديد من الدول الأفريقية مما حده بهم إلى وصفها بأنها أضحت وسيلة استعمارية جديدة وأداء لتصفية عنصرية غير مسبوقة النظير . لم تفاجِئ كل من (جنوب إفريقيا، بورندي وغامبيا) العالم وهم يُسدِّدون الضربة القاضية للمحكمة بانسحابهم منها، إذ كان الأمر مُتوقعاً خاصة بعد تبني الاتحاد الإفريقي والدول المُشاركة في مؤتمر حقوق الإنسان الإفريقي بغامبيا ، مشروع العدالة الانتقالية كسياسة بديلة عن المحكمة الجنائية والشروع في وضع الإطار القانوني لها باعتبارها تتوافق مع المُجتمع الأفريقي لحل النزاعات الداخلية، كما قررت القمة الأفريقية مُؤخراً الجلوس مع مجلس الأمن الدولي لبحث انشغالات الأفارقة حيال سلوك الجنائية ، وقررت كذلك الانسحاب الجماعي حال لم تُعيد المحكمة النظر في قضيتي الرئيس البشير والرئيس الكيني كينياتا .. وفي هذا الإطار تستعد كل من يوغندا وكينيا وتشاد وإثيوبيا والكنغو برازفيل للانسحاب من المحكمة ، رغم الضغوط الدولية بغية العدول عن هذه الخطوة على اعتبار أنها تدعم الإفلات من العقاب وتُساعد على انتهاك حقوق الإنسان ! وهل هناك انتهاك لحقوق الإنسان أكثر من الذي تمارسه المحكمة الجنائية ضد خصومها بتلقيها رشاوى لتلفيق الاتهامات في الإدعاءات المنسوبة لهم ؟ وأية عدالة تنشُدها المحكمة وهي تستقبل الانتقادات اللاذعة من الدول الكبرى التي ترفض حتى التوقيع على ميثاقها خشية أن يخضع رعاياها لقانون الكيل بمكيالين.. وإن كانت المحكمة تنشُد العدالة فلماذا لم توقِع أمريكا على ميثاقها؟ ولماذا انسحبت روسيا منها مؤخراً ؟ ولماذا هدَّدت الفلبين بالانسحاب؟ وبماذا نُفسر مُباركة دولة مثل الصين للدول الأفريقية المُنشقة عن المحكمة وتشجيعها دول أُخرى للمضي في هذا الاتجاه ؟ نجحت الدبلوماسية السودانية في تشيِّيع المحكمة الجنائية الدولية إلى مقبرة الذين لوثوا التاريخ وأهانوا العدالة وحقوق الإنسان ، إذ تصدَّت للمؤامرة التي استهدفت صفَّها الأول بحِكمة وشجاعة وتحدتها وكسرت هيبتها ، الأمر الذي قاد (بنت السودا) لتبرير الفشل أمام الصمود السوداني بعدم القدرة على تنفيذ الملاحقات لعدم امتلاك أدوات الملاحقة ، وأرجعت الفشل لمجلس الأمن .. ولأن المجلس مُحيط بتفاصيل المؤامرة ، ومغض للطرف عن الجرائم الحقيقية التي لا تحتاج إلى تلقي الرشاوى لتلفيق الاتهامات الجرائم التي ترتكبها الدول الكُبرى صباح ومساء .. لكل ذلك قبلت اتهامها بالفشل. تبقى فقط أن نقرأ (الفاتحة) على روح الجنائية ، وأن نفوِّت الفرصة على أي مولود مشوه تنتجه الظروف الدولية المُعقدة ، وتفرضه الصراعات الداخلية التي لا تستوجب الإفلات من العقاب .. وفي هذا الصدد يمكن تسريع مشروع العدالة الانتقالية كسياسة بديلة عن المحكمة الجنائية والشروع في وضع الإطار القانوني لها باعتبارها تتوافق مع المُجتمع الأفريقي لحل النزاعات الداخلية، بالإضافة لزرع الثقة في الأجهزة العدلية الداخلية وتمكينها من إنجاز العدالة والفصل بين الخصوم .