مياه كثيرة جرت تحت الجِسر فيما يلي العلاقات السودانية المصرية ذات الخصوصية الجغرافية والتاريخية، إلا أن الشد لم يولِّد القطع، كما أن البسط لم يُفرِّخ التلاحُم الكامل بين البلدين رغم ما يمثله أحدهما من عمقٍ إستراتيجي للآخر، وليس أدل على الرباط المصيري بين البلدان غير النيل الذي يُستمد منه الحياة .. فقديماً قال الفراعِنة (مصر هِبة النيل) ، وقال أهل السودان (نحن النيل أبونا والأصِل سوداني) .. ونظراً لما للنيل من أهمية فقد كان مِحور العلاقة بين البلدين : تلاطم أمواج كلما اشتدت الريح، وإبحار بأمان كلما هدأت العاصفة.. فما هي القصة ؟ ولماذا يحدث كل هذا؟ الظاهر من جبل الجليد في علاقات البلدين، مُحاولات هنا وهناك من الرسميين لتأكيد أنها (سمن على عسل) ففي فترة حكم الرئيس مُرسي تم توقيع عدد من مُذكرات التفاهم خلال انعقاد اللجنة السودانية المصرية المُشتركة بالخرطوم في مارس2011.. وبعد تولي الرئيس السيسي الحكم نشط الجانبان في الزيارات المُتبادلة لمُتابعة قضايا التعاون والعلاقات الثنائية مما أدى لتحسن ملحوظ، وتبادل رئيسا البلدين الزيارات وتم ترفيع مُستوى اللجنة الوزارية المُشتركة إلى المُستوى الرئاسي، بجانب افتتاح المِعبر الحدودي شلاتين قسطل والمِعبر الحدودي الثاني بأرقين . الظاهر من جبل الجليد كذلك الملفات الشائكة بين البلدين، إذ تمثِّل منطقتا (حلايب وشَلاتين) خميرة عكننة من حين إلى آخر .. حيث يُطالب السودان بالتحكيم الدولي بعد فشل جميع دعوات التّفاوض، بينما تنتهج مصر سياسة الأمر الواقع وتنشط في تقديم الخدمات الضرورية للمواطنين بالمُثلث وتسعى للسيطرة على المنطقة عسكرياً . أما ملف المياه فقد خصم هو الآخر من رصيد العلاقة بين البلدين, حيث ترفُض مصر التوقيع على الاتفاقية الإطارية لحوض النيل لعدم اعترافها بالحقوق التاريخية الواردة في اتفاقيتي 1929 و1959 كما هدَّد الإعلام المصري بالحرب للحفاظ على حصة مصر من المياه، وكثيراً ما صرخت الآلة الإعلامية بغضب نتيجةً لموقف السودان من سد النهضة مطالبين إياه بوضع مصلحة مصر كأولوية, وكأن السودان محافظة مصرية لا ينبغي له أن يكون له موقف أو رأي . هذا عن جبل الجليد .. فالمُتابع للإعلام المصري وحملته المُنظمة ضد السودان عبر عدد من الصحافيين يجد أنه يحاول (إثبات المنفي) وهو إيواء السودان لعناصر من جماعة الإخوان المصرية و(نفي المُثبت) وهو دعم مصر للكيانات السودانية المُعارِضة التي تتخذ من أرضها نشاطاً مُكثفاً لها ومنها على سبيل المثال حركة العدل والمساواة والحركة الشعبية قطاع الشمال وحركة عبد الواحد وغيرها من الروابط والجمعيات . إذ تستغل هذه الحركات مصر منطقة عبور لقياداتها ومكاناً آمناً لاجتماعاتها، وبالأمس القريب, كانت تحتضن القاهرة رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي، كما تحتضن الجبهة الوطنية العريضة وغيرها من الكيانات المناوئة, فلماذا إذن، تسعى الشقيقة لافتعال وخلق الأزمات؟ يعتقد كثير من المتابعين للشأن السوداني المصري, أن نظرية الكل والجزء حاضرة في المِخيال المصري القديم والحديث، إذ تنظر النخب المصرية التي تقود الإعلام والدولة للسودان كمحافظة مصرية, وترى في الشعب السوداني خادماً للخديوي المصري, وأنه يفترض أن يظل هكذا إلى قيام الساعة، فكيف للتابع أن يرفض الأطعمة المروية بمياه الصرف الصحي؟ وكيف له أن يطالب بحلايب وهو تابع بالكامل لمصر؟ ولماذا تُرفع عنه العقوبات وينطلق كجسم مُنفصل مستقطباً للدعم ومنتظماً في عقد شراكات إقليمية ودولية من شأنها أن تنهض باقتصاده ؟ إزاء ذلك، ليس على السودان اللجوء للحلول السهلة كالتعامل بمبدأ الندية والمُعاملة بالمِثل دون تعاطف أو مرتكزات تاريخية، أو مجابهة الحملة الإعلامية المصرية بخطاب إعلامي قوي، فهذه حلول العاجز الذي يركن للطُرق السهلة .. ذلك لأن الجانب المصري يحتاج لهزة عنيفة وإفاقة من غفوة وغفلة وسُبات عميق منذ الخديوية والباشوية .. الجانب المصري يجب أن يفهم أن تغييراً جذرياً يحدُث الآن، فالسودان لا يُطالب بحقوق بسيطة مثل حلايب وشلاتين , ولا يرفض فقط الأغذية المروية بمياه الصرف الصحي .. السودان يعمل لإعادة حضارات سُلبت وتاريخ تم تشويهه .. السودان الآن يتطلع إلى رد الحقوق، فكيف لجِرية النيل أن تتبدل؟ وكيف للحضارة أن تنتقل للاتجاه المعاكس لجريان النيل؟.