إن أسوأ ما يمكن أن تحدثه الحروب العسكرية في المجتمعات البشرية قد لا يتعدى حد الانهيار أو الدمار الشامل للبنيات والحضارة المادية وتعطيل عجلة البناء والتنمية ،غير أن الخطر الأكبر والانهيار الحقيقي الذي يمكن أن يصيب المجتمعات البشرية عندما تكون الحرب في شكل ثقافات وغزو فكري وسلوكي ففي هذه الحالة تتأثر المجتمعات بكل ما هو وافد عبر الحدود وعبر الفضاء (المفتوح) وقد تظهر بين الحين والآخر (مجموعات) بشرية تتخذ من حياتها سلوك أو ممارسات يومية تتنافى مع ماهو موجود في محيطنا الاجتماعي. ومبعث هذا الحديث ما برز من ظواهر سلوكية في المجتمع السوداني، تم رصدها عبر الأجهزة الإعلامية والرسمية التي تحدثت مطلع العام الماضي عن مجموعات بشرية تسمى (بالنيقرز) قامت بسلوك غير إنساني وارتكبت جرائم قتل ونهب وترويع للآمنين في عدد من مدن وأرياف السودان وبشكل لافت أثار حساسية الأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة والمجتمع على حد سواء. والذين رصدوا حقيقة هذه الظاهرة قالوا إن (النيقرز) هم مجموعة من الأفراد مميزون بالملبس يتحركون في مجموعات .. ويعترضون المواطنين بشكل عشوائي فيما تشير الترجمة الصحيحة لكلمة (نيقرز) إلى الناقمين وليس الزنوج وهي تعنى بالمعنى العملي (مجموعة أشخاص يجمع بينهم غضب وحمق على المجتمع الذي يعيشون فيه أو حوله بسبب حالة الفقر أو الإهمال أو التهميش).. البعض يربط هذه الظاهرة إلى انفتاح الشمال السوداني وتحديداً ولاية الخرطوم وبشكل أتاح الفرص الكبيرة للنازحين أو بالأحرى الوافدين للتمركز في أطراف ولاية الخرطوم خصوصاً في مناطق جنوبالخرطوم والحاج يوسف ودار السلام وسوبا ومايو والسامراب والأزهري وغيرها من المناطق التي شهدت نشاطا مكثفا وجرائم متكررة قامت بها مجموعات (النيقرز) ويبدو أن الأجهزة الأمنية والشرطية انتبهت مبكراً لخطورة هذه الظاهرة وانعكاساتها على المجتمع السوداني كافة في ظل أجواء من السلام والتعايش السياسي والديني بين الفرقاء الشماليين والجنوبيين عبر شرعية (نيفاشا) ولهذا شرعت الأجهزة الأمنية ومباحث الشرطة في قيادة حملات واسعة على عصابات (النيقرز) بعد أن تكررت الشكاوى من المواطنين والجرائم التي ترتكب بواسطة هذه المجموعات حيث تم القبض على مجموعات كبيرة منهم. وفي مدينة جوبا أيضاً شكلت هذه المجموعة خطراً كبيراً على أمن المواطنين هناك وتقول تقارير الشرطة بحكومة الجنوب أن مجموعة النيقرز قامت بعمليات قتل ونهب وهجوم على المواطنين والمحال التجارية خاصة التي يمتلكها تجار شماليين .. وطالت هذه العمليات أيضاً البنوك والصرافات والفنادق وبحسب البلاغات والتقارير فإن هذه المجموعات قتلت الشاب سليمان مصطفى رمياً بالرصاص داخل منزله واعتدت كذلك على وكيل عصائر كريستال بمدينة جوبا واستولت على مبلغ (143) مليون جنيه والسطو على منزل وكيل مؤسسة البرير الغذائية ونهب (80) مليون بالإضافة إلى نهب (22) مليون دولار من فندق صحارى بجوبا. وفي غضون ذلك أصدرت السلطات الأمنية والشرطية حزمة من الأوامر والإجراءات المشددة والرقابة المستمرة بهدف القضاء على هذه الظاهرة. ورغم أن التقارير تشير إلى أن هذه المجموعة هي في الأساس مجموعات عسكرية سابقة كانت ضمن قوات الجيش الشعبي إلا أن الشرطة هناك نفت بشدة أية صلة للجيش الشعبي بهذه المجموعات كما أنه لا علاقة لها بالمليشيات أو القوات النظامية الأخرى، ولكنهم في حقيقة الأمر ينتمون إلى بعض القبائل الجنوبية، وحكومة الجنوب نفسها تبرأت من هذه الظاهرة وقالت إنها سلوك وافد اتهمت عبره جهات غربية بمساندة (النيقرز) والتأثير عليهم ثقافياً وفكرياً بهدف زعزعة الأمن والاستقرار حيث بدأت الظاهرة تنتشر وبشكل مخيف حسبما أكد ذلك مسئول جنوبي بارز هو وكيل وزارة الشباب والثقافة والرياضة بحكومة الجنوب بيتر باتستابكر والذي قال إن حكومته بصدد مواجهة هذه الظاهرة بسياسات وبرامج خاصة للحد من اتساع نشاط مجموعات النيقرز بالجنوب. وهناك تبرير قد يبدو منطقياً أو هو الأقرب إلى الحقيقة .. فالبعض ينظر إلى أصل الظاهرة بأنها نتاج طبيعي لمستقبل ومصير مجموعات كبيرة من الشباب الذين ينتمي معظمهم إلى قبائل جنوبية و النوبة ، والذين وجدوا طريقهم إلى خارج السودان عبر هجرات عشوائية وغير مشروعة قامت بها شبكات تهريب دولية بعد أن استغلت هذه المجموعات قضية دارفور كذريعة لطلب حق اللجوء السياسي في بعض البلدان الأوروبية. ولعل حادثة ميدان التحرير (الشهيرة) بالقاهرة وما صاحبها من تداعيات والهجرة (المجهولة) عبر بوابة القاهرة في سبيل تلبية رغباتهم والتعايش مع ثقافات خارجية. ولذلك فإن الذين يحاولون البحث عن جذور لظاهرة (النيقرز) يعتقدون أن هؤلاء اللاجئين السودانيين حينما وجدوا الأبواب أمامهم موصدة وانهيار رغباتهم وتطلعاتهم وأمنياتهم وجدوا أنه لا سبيل أمامهم سوى العودة إلى بلادهم .. فتم لهم ذلك ولكنهم عادوا وصدورهم مليئة بالغضب والأحقاد ضد مجتمعاتهم .. فسعوا في الأرض فساداً وتخبطاً وإجراماً وهم لا يبالون.ولكن ما حدث في إحدى الكنائس المسيحية بمدينة جوبا من هجوم قامت به مجموعة النيقرز الأيام الماضية يعتبر مؤشرا خطيرا في تطور منهج وسلوك (النيقرز) بعد أن كان ينحصر هذا السلوك في ارتياد مناسبات الأفراح والتجمعات العامة بهدف إحداث نوع من الهلع والهرج ومن ثم نهب الأموال والممتلكات .. إلا أن التطور الجديد في منهج النيقرز تعدى هذه المناسبات إلى الهجوم على دور العبادة كما حدث في أحداث كنائس جوبا وهذا التطور يجعل المجموعة تحولت إلى مجموعة إرهابية لا يهمها دور العبادة أو الذين يرتادونها خاصة أن الكنيسة التي هاجموها كان بها عدد كبير من المسئولين وبعض السياسيين الجنوبيين بمناسبة الاحتفال بأعياد الكريسماس. إذن الحادثة أعطت أيضاً مؤشراً بأن (النيقرز) ليس لها بعد ديني بدليل أن في عضويتها من هم على المسيحية وهذا ربما يفتح الباب أمام التساؤلات والاستنتاجات بأن هذا العمل تخطط له جهة ما لم تتكشف ملامحها حتى الآن.