محمد قواص نتعلم كل يوم وجوها جديدة لإدارة الصراعات في القرن الحادي والعشرين. نتعلم كيف يبرع أولي الأمر في رفع مستوى النزاعات من محلي إلى إقليمي، وترقيته ليصبح هماً كونيا يطال الإنسانية جمعاء. نتعلم كيف يغيّر الغرب أدواته، وكيف يتطورها متأقلما مع حال الضغوط المضادة التي تمارسها هذه الحالة أو تلك. هكذا في حال دارفور، تمّ لنا أن نواكب خطاباً غربياً عدائياً تصعيدياً، يتحوّل إلى لغة أخرى تستمع إلى الخرطوم وتحترم إرادته. وربما في هذا أمثولات ودروس، لا بد من ملاحظتها، تحرياً لفهم أزمة العقل الغربي في التعاطي مع قضايا العالم. أفاق الغرب يوماً على ما يجري في دارفور. إنتبهت واشنطن وحلفاؤها إلى نزاعات الإقليم، وكأن الحدث لافت إستثنائي وفوق الطبيعة. منذ أن كان السودان سودانا، تشتعل نزاعات قبلية في ذلك الإقليم بسبب مسوّغات تتعلق بتقاسم المراعي والتنافس على موارد المياة، أو لأسباب تقليدية لطالما خبرها أهل الدار. وتتسبب تلك النزاعات بإراقة دماء وسقوط ضحايا وبممارسات يفرضها منطق الحروب والنزاعات. والأمر ليس تبريراً، بل تفسيراً لحالة عيش ولناموس تعايش. وكانت كافة النزاعات تنتهي، كما تنتهي النزاعات القبلية، عبر وسطاء قبليين ومفاوضات عشائرية، فتُدفع الديّات، ويُعاد الإتفاق حول حلّ لمواطن الخلاف، وينتهي الأمر متواكبا مع طقوس محلية، قلما تتدخل الدولة المركزية بها. وبالإمكان أن يسيل مداد كثير لإستنكار ذلك السلوك التعايشي التاريخي، ولإدانة هذا الجمود المدني في معالجة الأزمات وتجنب الصدامات، ولإستغراب ضمور دور الدولة المركزية في هذا المضمار. وبالإمكان التنطح للكلام عن قيم الحداثة وحقوق الإنسان والسلوك الحضاري في القرن الحادي والعشرين. بيد أن ذلك لن يغيّر من واقع الحال، كما أنه سيكون ضرباً من ضروب المناظرة الفولكلورية الإستعلائية. فنزاعات العالم في أشكالها البدائية أو تلك الحضارية، ما زالت عصيّة الفهم، صعبة الحلّ، معقدة التركيب حتى في القرن الحادي والعشرين. خصصت صحافة العالم الغربي خلال السنوات الماضية صفحاتها الرئيسية للإسهاب في الكلام عن المجازر التي أودت بحياة أكثر من مئتي ألف شخص وسببت في ترحيل أكثر من مليونين من أهل الإقليم (حسب الأرقام المعتمدة والمكررة). وإعتمدت الحملة الغربية الرسمية والإعلامية على شهادات وتقارير صادرة عن الجمعيات الإنسانية الدولية (أو بعضها) التي تعمل في ذلك الأقليم. وكان لبّ الأمر يروم الخروج بمحصلة واحدة: تحميل الحكومة السودانية مسؤولية تلك المجازر، تصعيد الضغوط الدولية بهذا الإتجاه، محاصرة الخرطوم بسلسلة من القرارات الأممية والعقوبات والمواقف الدولية العازلة، الإنتهاء إلى فرض شروط العالم الغربي السياسية من بوابة دارفور الإنسانية. خاض السودان حربا كبيره في الجنوب بين الحكومة المركزية في الشمال والحركة الشعبية (الجيش الشعبي) لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق. إمتدت الحرب لعقود إستخدمت فيها أسلحة الحروب، فأهلكت ودمرت وسببت وبالاً وكارثة للبلاد، إلى أن تمّ توقيع السلم وعقد الإتفاق. وطوال تلك العقود لم يتحرك العالم بالقدر الذي إستنفر فيه قواه بالنسبة لدارفور. صحيح أن حركة الجنوب حظيت بدعم وتعاطف دوليين، إلا أن الأمر بقي محدودا، بل أن الولاياتالمتحدة، أهملت آنذاك مصالحها الإقتصادية، فأنهت شركة شيفرون النفطية الأميركية مشاريعها في السودان ورحلت عن البلاد دون عودة. يُعيد الغرب من جديد، ووفق إيقاعه ومزاجه، إكتشاف السودان كمصدر خير وميدان إستثمارات وساحة مصالح. يكتشف الغرب، منذ الإتفاق الشمالي الجنوبي، وبروز عوامل النمو بدل عوامل الحرب، ما يملكه السودان من إمكانيات إقتصادية متوفرة وواعدة وكامنة. فالأمر يتعلق بموارد نفطية ومعدنية وزراعية وصناعية تم إغفالها غرباً، وتم الإنتباه لها شرقا من خلال إستثمارات هائلة مصدرها الهند والصين. وربما أن الصين إستغلت الغياب الغربي، فراحت تمعن في حضورها الإقتصادي الإستثماري في السودان، على نحو لا يمكن إلا ملاحظته للدارس للشأن السوداني. وربما هذا ما يفسر الدور الرئيسي الذي تلعبه الصين حالياً للوصول إلى التسوية المنشودة، بعد عقلنة الإندفاعة الغربية، وبعد الأخذ ملياً بالإعتبار مصالح وقراءة الحكومة السودانية لطبيعة المعضلة. تطورَ الموقف الحكومي السوداني من ثوابت تم ترديدها على مدى الأعوام الماضية. والثوابت تتأسس على إعتبار المشكلة داخلية سودانية لا يُسمح بحلّها إلا من خلال المؤسسات السودانية والإرادة السودانية وضمن شروط السيادة في البلاد. ويعترف الموقف الرسمي في الخرطوم بوجود مشكلة في دارفور، لكنه ينفي ما تردده الدوائر الغربية من حدوث ممارسات ترقى إلى حدود الجرائم ضد الإنسانية. وتقتنع الإدارة السودانية بأن الوضع ما كان له أن يتدهور على هذا الشكل، لولا تدخل قوى إقليمية ودولية جعلت من أي حلّ أمرا مستعصياً و مستحيلاً. وقد ذهب الموقف الرسمي إلى حدّ التحدي والتلويح بالويل الثبور وعظائم الأمور في ردّ على أي تدخل عسكري غربي محتمل . وإقتصرت ليونة الحكم في الخرطوم لاحقاً في عملية القبول بإشراك الإتحاد الأفريقي دون غيره في تحري منافذ المشكلة، وهضم تواجد قوات تابعة لهذا الإتحاد على أراضي دارفور. خيّل للمراقب أن الأزمة في دارفور يُراد لها أن تبقى جرحاً نازفاً من جروح العالم التي تنزف هنا وهناك. فالمواقف متضادة، وتوازن القوى لا يسمح بتحقيق أي إختراق. لكن شيئاً ما قد تغيّر، وربما من المبكّر المغامرة في تفسيره أو الكشف عن أسبابه. لكن الثابت أن العالم يتجه نحو حلّ نهائي للمشكلة في دارفور. أضحى الملف ملحاً على ما لاحظناه من خلال «رحلة الحج» التي قام بها الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان ودول الجوار، وعلى ما لمسناه من إيكال لعملية التفاوض إلى الجار الليبي، وعلى ما تشي به رحلة الرئيس السوداني إلى الفاتيكان وروما للقاء البابا ورئيس الوزراء الإيطالي، وعلى ما صدر عن إجتماع نيويورك الأخير بشأن دارفور من تهديد بتدابير وعقوبات ضد الفصائل المتمردة التي ترفض المشاركة في مفاوضات طرابلس المقبلة. بضغط من الصين، تعترف به واشنطن، على لسان الموفد الأميركي إلى دارفور أندرو ناتسيوس، وافقت الخرطوم على نشر قوات أممية مختلطة (من الإتحاد الأفريقي ودول أخرى). وبتطور لافت يعتبر موفد واشنطن أن معوقات السلم تتمثل في بعض الفصائل المتمردة وليس في سلوك الخرطوم. وبغرابة مدهشة يستهجن ممثل الإدعاء في المحكمة الجنائية الدولية (لويس مورينو أوكامبو) إهمال إجتماع نيويورك لمطلب تسليم المطلوبيّن السودانيين. وبثقة العارف يعلن مستشار الرئيس السوداني د. مصطفى عثمان إسماعيل، أن مفاوضات طرابلس هي آخر المفاوضات. وبلغة اليقين يتم الإعلان عن عقد مؤتمر عربي لمساعدة أهل دارفورعلى مستوى وزراء الخارجية في الخرطوم نهاية تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. لا بد أن تمر مفاوضات طرابلس بمخاض عسير قبل ولادة الحلّ. فإذا ثبت أن إرادة دولية عليا وجامعة قررت طيّ الملف، فإن تفاصيل مرهقة قد يشهدها الميدان الدارفوري، كما كواليس المفاوضات في العاصمة الليبية. غير أن الثابت أن تعابير المناورة السياسية تستند على قيّم السلم والصلح والتسوية وتلفظ نهائياً قيّم تم ترويجها في السنوات الأخيرة كالحرب والصدام والنزاع والعقوبات. واللغة في السودان حاليا تتكلم لهجة التنمية والإستثمارات، وهي لهجة لا بد أنها تأخذ بالإعتبار مصلحة السودان كما مصلحة دول مستقرة في السودان إستثماريا كالصين، كما تحضرّ لتقدم إستثماري غربي بإتجاه السودان ضمن قواعد سودانية لا تجاوزا لها. *صحيفة الحياة