نائب رئيس مجلس السيادة يلتقي رئيسة منظمة الطوارئ الإيطالية    ردًا على "تهديدات" غربية لموسكو.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية    مستشار رئيس جمهورية جنوب السودان للشؤون الأمنية توت قلواك: كباشي أطلع الرئيس سلفا كير ميارديت على استعداد الحكومة لتوقيع وثيقة إيصال المساعدات الإنسانية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    حزب الأمة القومي: يجب الإسراع في تنفيذ ما اتفق عليه بين كباشي والحلو    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دارفور .. يا دار ما دخلك شر

حسين المزداوي في اليوم الأول من الشهر الأول من العام الأول من العقد الأول لتسعينات القرن العشرين كانت طائرة الفوكر تحلق بنا فوق مطار الفاشر عاصمة إقليم دارفور ، كان مهبط المطار ترابياً غير مسفلت .. غبار يرتع في السماء ويحجب الرؤية ، ولا طريقة ( حديثة وحضارية ) لتحديد مكان المبهط سوى الرجوع إلى مطار الكفرة والسلام. الطيار الليبي ذو الأصول ( البدوية ) حدد مكان المهبط الذي نزل فيه ذات مرة سابقة يتيمة .. فقد تعرف على موقعه وضبطه ببعض شجرات الطلح.. هي. هي . هي. هوب، ها هي ذي الطلحات، وهاهو المهبط شمالها.. لم تمضِ لحظات إلا وعجلات الطائرة تلامس التراب الدارفوري .. فكان لاستخدام تقنيات ( البداوة ) والإمكانيات المحلية كالفراسة والطلح الحل الناجع لقصور (الحداثة والتكنولوجيا ) . كنا وفداً شعبيا ، ووفداً رسمياً .. جئنا لتوقيع وثيقة الوحدة بين إقليم دارفور وبلدية خليج سرت.. بيدي حقيبة بها نسختا الوثيقة التي كتبتُ ديباجتها، والأوراق التي سيتم التوقيع فوقها والحوافظ ونسخاً عن بعض الاتفاقيات الموقعة بين البلدين .. استقبلتنا دارفور بالأهازيج والأغاني والرقصات؛ التقت السحن والوجوه والعادات العربية والأفريقية .. أقنعة ووجوه أفريقية، وأهازيج عربية .. ثم كانت لنا جولة في (المدينة) ذات التاريخ العريق والواقع الكئيب؛ مدينة ليست كالمدن، فلا تزال الحمير أهم وسيلة مواصلات فيها ، مجموعة من الحواكير تحت اسم مدينة ، فعرفت أن النسيان ينام ويصحو في الإقليم . بوصلة الذاكرة مثل شعاع ليزري يكنس بضوئه جغرافية ( الدار ) ومرابعهما وقراها التي توزعت عليها قبائل وأقوام تعايشوا على مدى مئات السنين .. هناك في شرق جبل ( مَرّة ) الشهير حيث تعيش قبائل البرقد والتنجور وكبقة والميمة والمسبعات .. وفي غرب الجبل وشماله الغربي قبائل المراريت والغورة وسميار والمساليت والقِمر وتامة والجبلاويين وأب درق وحوجه وأسمور ؛ أما في الشمال والشمال الشرقي فهناك زغاوة كبا والميدوب ، ويقابلهم في الجنوب والجنوب الغربي البيقو والداجو ورنقا .. ناهيك عن القبائل العربية من هبانية ورزيقات ومسيرية وتعايشة وبني هلبة ومعاليه وحمر وزيادية وماهرية ومحاميد وبني حسن ؛ كما نستطيع أن نسمي في بلاد الفراتيت : الكارة ودنقو وفنقرو وبِنه وفروقي وشالا .. قبائل اختلطت دماؤها ، وامتزجت ثقافاتها ، وعاشت وتعايشت ، وجاء الإسلام ليلبسها لباس الأخوة ، ومع ذلك فقد حدثت بينها احتكاكات بسبب المرعى وبسبب النفوذ والسيادة ، فكان لابد من قوة وأداة تضبط إيقاع تعايشها ، وتحافظ على التناغم بين أصواتها المتعددة ، وراؤها المتباينة ؛ فتحكي السيرة الهلالية في السودان حكاية ( أحمد المعقور ) العربي العباسي الذي عصف به انهيار الدولة العباسية ، فجاء إلى دارفور من تونس مروراً بليبيا مع شقيق له متزوج بفتاة آية في الجمال. أحمد سفيان المعقور وهو يرفع عقيرته المغدور بها عبر مكر الأنثى اللعوب .. وأي أنثى إلا أن تكون زوجة الشقيق ( علي ) بعد أن اشتهته فأبى ، فكان الثمن الوشاية المسمومة ، فينفرط عقد الأخوة وعقد الساقين ليبقى ( أحمد ) بساق واحدة معقورة ، يحملها عنواناً للخيانة التي رآها أخوه (علي) في حق شرفه ، ورآها الآخرون في حق (أحمد المعقور ) الذي صان عرض أخيه فدفع الثمن من ساقه. مع أحمد كانت بداية التحضر ، بالتسمية ( بسم الله ) عند تناول الأكل .. ليتبارك الرزق ، فأكل الناس لأول مرة وشبعوا واكتفوا ، ومن هنا كانت البداية الحقيقية لأسرة ( كيرا ) التي استمرت ما يقرب من خمسة قرون وهي تدير هذا الإقليم بإمكانيات الإقليم ذاته ، حتى أجهز الإنجليز على آخر سلاطينها عام 1916 نتيجة لصراعاتهم مع الألمان ؛ الكيد نفسه الذي مس الجبهة الشرقية لليبيا ، فتوقف المدد عن المجاهدين الليبيين وخرج المجاهد أحمد الشريف ؛ وعلى جبهة دارفور حيث قُتل السلطان البطل علي دينار. خمسة قرون على وجه التقريب كان فيها سلاطين دارفور منذ ( سليمان صولونج ) يديرون هذه الأطراف المترامية التي تعادل مساحتها مساحة فرنسا وما يعادل ثلث المساحة الشاسعة لليبيا ، كان الإقليم متعايشاً ، وكانت المرأة تقوم بدورها جنب الرجل: " وأعلم أن أهل دارفور لا يستقلون بشيء في أمورهم بدون النساء ، بل إنهن يشاركنهم في جميع أحوالهم إلا في الحروب العظيمة ، ولذلك فإن عرساً لا يتم إلا بهن، أو حزناً كذلك ، ولولاهن ما استقام لأهل دارفور شيء ، فترى النساء يحضرن في الأمور المهمة." من كتاب تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان هذا وصف لوضع المرأة منذ مئتي سنة كما جاء على لسان محمد عمر التونسي ؛ ومع هذا التعايش ، لم تكف تدخلات ودسائس وأطماع الغير ، ناهيك عن الصراعات المحلية التي عادة ما تقوم عائلة (كيرا) بوضع حد لها ؛ فالحروب والقضاء على التمرد يتركان كثيراً من الجراح والأسر المحتاجة، فكان لابد من مد يد الإغاثة لملء البطون الفارغة على المدى القريب ، ويد التنمية لنشر الرخاء على المستوى البعيد. " واستتب الأمر للسلطان محمد الفضل ، ولم يعد له معارض ، فتفرغ لتأديب العرب الذين خرجوا عن طاعته وهم بنو هلبة والعريقات والرزيقات .. أما بنو هلبة والعريقات فقد أخضعهم بالسهل، وأما الرزيقات فكانوا قبيلة قوية .. طالما عصوا سلاطين الفور واستقلوا عنهم، فصمم السلطان على الإيقاع بهم ، فجمع جيشاً عظيما، وأحاط ببلادهم إحاطة السوار بالمعصم ، وحصرهم وأثخن فيهم ، وقتل كل رجل فيهم، ولم يستحي إلا النساء والأولاد، فقسمهم نصفين، فأرسل النصف الواحد إلى أرض العريقات وأسكنهم إياها ؛ وأبقى النصف الآخر في أرضهم ، وأعاد لهم قسماً من ماشيتهم ، فأعطى لكل أرملة قتل زوجها بقرة حلابة وثوراً." من كتاب تاريخ السودان القديم والحديث ، ج 2 ومع ذلك، ومع ما يبدو من حكم مطلق للسلطان، إلا أن هناك أعرافا وقوانين محلية؛ فقد كان القضاء شرعياً، وقد جمعت الأحكام العرفية كلها في كتاب واحد عرف (بقانون دالي) وهو بمثابة قانون العقوبات. كان القائم بتنفيذه المقاديم ومن هم دونهم من الحكام، إضافة إلى رؤساء الحواكير والقبائل .. وهو لسان السلطان وأوامره، بل أن البعض يرى أن (دالي) هذا هو أحد سلاطين الفور المتقدمين. ومن أحكام هذا القانون أن قصاص السارق غرامة ست بقرات أو ما هو بثمنها، فإذا لم يقدمها حُبس إلى أن يفتديه أهله ؛ وقصاص القاتل القتل إذا كان القتل عمداً، وإلا فدفع الدية مئة بقرة ، إذا كان من البقّارة، أو مئة بعير إذا كان من الأبّالة؛ وأما الزاني بمحصنة فغرامته ست بقرات، وإذا كان بأيم فبقرة واحدة؛ أو ببكر فكل منهما يغرم بقرة ؛ وقصاص الضارب إن كان في الضرب جرح ثوب من الدمور ، وإن لم يكن جرح فنصف ثوب، وهكذا جزاء الشاتم. وخلال فترة سلاطين (الفور) لم تتوقف الدسائس والألاعيب والتدخلات الخارجية، فإذا نجا الإقليم من الغزو الخارجي كان لابد من تحريك رؤوس داخلية أو مجاورة لها مطامع ومصالح شخصية .. فعندما فر الأمير أبو مدين ، وكان ذلك قبل منتصف القرن التاسع عشر بقليل حاول (الألباني) محمد علي باشا أن يتبنى قضيته ضد أخيه السلطان محمد الفضل بن السلطان عبد الرحمن الرشيد .. وبعد رحلة طويلة تخللتها مغامرات ومناوشات ، وصل أبو مدين إلى القاهرة ليجهز له محمد علي جيشاً من جنود الأرناؤوط غير المنضبطين، فتفانوا قبل تنفيذ مهمتهم ، وصدرت الأوامر برجوع بقاياهم ، حيث لم يعد إلى القاهرة إلا ثلثهم الناجي من الهلاك والأمراض. وتحت أسباب إنسانية للقضاء على تجارة الرقيق يتعرض الإقليم إلى ضغوط قوية يمسك بأطرافها الغرب النهم لاستعمار الكون بأسره ، وهو في أوج تلهفه الاستكشافي الاستعماري ؛ ومن هنا حُركت هذه الخيوط ، مثل ما قام به الزبير رحمت باشا التاجر الجعلي صاحب النفوذ، وصاحب التجارة الواسعة التي تضررت من اعتداءات قبائل الزريقات ( جنجويد ذلك الوقت ). فوجه إنذارا للسلطان في الفاشر، أشبه بقرار لمجلس الأمم يتهدد دارفور .. وتم الهجوم. " في 23 أكتوبر 1874 بدأت حملتي لاحتلال دارفور تقترب من نهايتها ؛ ففي ذلك اليوم خرجت من ( دارا ) بعد أن تحطمت على أسوارها أمواج المهاجمين الذي ساقهم السلطان إبراهيم لطردي منها .. في اليوم التالي أدركته في بلدة (منواشي) الواقعة على مسيرة يومين إلى الجنوب الشرقي من الفاشر، ومعه من الجند حوالي 30 ألفاً .. في يوم 25 من أكتوبر كنت أستطيع أن أرى السلطان إبراهيم من مكاني المشرف على المعركة وهو يجول ويصول وسط المعمعة ويقاتل في عزم الأسد الجريح الذي يعمل جاهداً لكي يغسل عن عزته ما أصابها من ذل وهوان ؛ وأشهد أنه قاتلَ في هذا اليوم ببأس وشجاعة حتى خرّ قتيلاً هو ومن معه من الفرسان والشجعان، وفيهم الكثير من أولاده وأشراف دولته .. فكان هذا إيذاناً بانتهاء المعركة التي انجلت عن نصر مبين لنا ". من كتاب الزبير رجل السودان ولا ينسى الزبير باشا رحمة في نسخة مذكراته الشخصية ( التي أشرف على نشرها وطبعها ابنه القائمقام سعد الدين الزبير، وهي نسخة نادرة مهداة من سعد الدين هذا إلى الأستاذ "سيد هاشم" بخط يده ، وقد وصلت إلى حوزتي), فنراه يضفي على عمله هذا بعداً إنسانياًً: " لم يبقَ إذن شيء بعد هذا، ولقد محا الموت ما بيننا من عداء؛ لذا فإنني لم أتردد في الاحتفاء بجثته ، فكفنتها بالأنسجة الفاخرة ، ودفنتها في جامع (منواشي) باحتفال عظيم، اجلالاً لمقامه، وإقراراً ببسالته، ثم دفنت بعد ذلك القتلى من أولاده وأكابر دولته، وعفوت عن جميع الأسرى ، وسمحت لهم بالذهاب إلى حيث يشاءون؛ وغنمت في هذه المعركة ثمانية مدافع وسبعة وعشرين جملاً محملة بالذخيرة والعتاد، بل لقد غنمت شيئاً آخر .. مملكة دارفور بأسرها ". من كتاب الزبير رجل السودان بانتهاء حكم إبراهيم بن محمد حسين بن محمد فضل ( 1873 - 1874 ) لم تنته السلطنة .. فيكتب التاريخ انه تم القضاء في مرتين متباعدتين على ابني عمه : الأول الأمير هارون بن سيف الدين (75- 1879 ) والأخير السلطان علي دينار بن زكريا (1896 - 1916 ) . ومرة أخرى كأن التاريخ يعيد نفسه.. فها هي قوات الضابط النمساوي المرتزق (سلاطين باشا) الذي اشتغل تحت إمرة الإنجليزي (غوردون) وحكم دارفور، فعندما قاد الثورة الأمير هارون ، تعقبته في النهاية جيوش سلاطين باشا مسافة يومين إلى الجنوب الشرقي من الفاشر: "فمزقناهم شر ممزق واستولينا على مقادير كبيرة من الأسلحة ، وأفرجنا عن السبايا اللواتي كن في حوزتهم، وقتل جواد هارون ولكن هارون مع بضعة من أتباعه تمكنوا من الهرب، وبعد أيام قلائل انهزموا أمام جيوش " كلكل " التي كان يقودها (نور عنقرة) وقتل هارون ، وبقتله عاد السلام إلى البلاد ، وانتهت الثورة " . من كتاب السيف والنار في السودان ولا ينسى سلاطين باشا وهو يقضي على دولة لها جذور ضاربة في التاريخ أن يلتقط صورة إنسانية ليدونها في سجل مذكراته كما فعل سابقوه ، ويغطي بهذه الملطفات الإنسانية جريمة اغتيال دولة قائمة ، وجريمة الفتك بالكثير الكثير من الأرواح: " وكان رجالي تمكنوا من القبض على نحو ثلاثين امرأة سرن معنا مدة قصيرة ؛ وقد فوجئ أهالي إحدى القرى بنا ، فلم يتمكنوا من الهرب ، ولما رأيت أن جميعهم من النساء ، أمرت الجنود بالوقوف حتى أتيح لهن الفرصة للفرار .. ثم أمرت الجنود أيضاً بأن يسيروا صفاً واحداً حتى لا يتفرقوا في القرى ويعيثوا فيها فساداً. ومما حدث أن أماً مسكينة كانت تحاول الهرب منا فباغثناها ، ففرت تاركة وراءها طفلين على صخرة ، وأخذت تعدو كالغزال على سند الجبل ، فذهبتُ إلى حيث الطفلين ، فوجدتهما عاريين ليس عليهما شيء سوى عقد من المرجان حول عنقيهما، وحزام من المرجان أيضاً حول وسطيهما ، وكان كلاهما أسود كالغراب ، والأرجح أنهما كانا توأمين يبلغ عمر كل منهما 18 شهرا، فنزلت عن الجواد، وذهبت إليهما فأخذا في الصراخ ، وكل منهما ممسك بالآخر، فحملتهما وأمرت خادمي بأن يحضر شيئاً من السكر ، فسكتا في الحال، وصارا يبتسمان من خلال الدموع ، ويقرضان السكر الذي كان في الأرجح أحلى ما ذاقاه مدة حياتهما الصغيرة الماضية؛ وكان عندي مناديل حُمر أحملها على الدوام معي لكي أقدمها هدايا، فلففت كل منها في منديل ، ووضعتهما على الصخرة كما كانا، وسرت بعيداً عنهما ، ونظرت إليهما بعد مدة ، فرأيتُ إنسانا هو أمهما يزحف على الصخر إليهما ، فلما
بلغتْهما عانقتهما ودغدغتهما، بعد أن كانت قد يئست من حياتهما، وأخذتْ هذين الولدين في لباسهما الجديد ، وعلى شفتيهما أثر السكر الحلو". من كتاب سلاطين باشا - السيف والنار في السودان . . . ما أشبه الليلة بالبارحة الآن تتكرر الصورة بشكل أكثر جلاء ودهاء ومكراً ، فوسائل الإعلام أصبحت بما تملكه من تقنيات وإمكانيات تستطيع أن تتسلل بين الظفر واللحم ، وأن تُقنع بما تريد أن تقنع به ، فصورة السير صمويل بيكر وغوردون التي أرادت التدخل في الشأن السوداني ، وفي دارفور بالتحديد هي صورة تحالف الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ، وأهدافهما ( الإنسانية ) النبيلة فيها ، والتقاء سكرهما الحلو على شفاه أطفال السودان البائسين ، تماماً مثل التقاء أهداف ( حكومة الخديوي والمتطوعين ) الذين شكلوا محوراً من الشرق ، مع أهداف الزبير رحمت باشا من الجنوب ( مع الفارق ) للقضاء على (جنجويد) ذلك الزمان ، وهم عرب الرزيقات ؛ وقد سبقتهما بعثات أشير إليها بأنها تمارس مهمة علمية إنسانية، وهي في الأصل جاءت لوضع التقارير الجاسوسية ، مثلما حدث مع بعثة ( القائم مقام محمد نادي باشا ) الذي قدم تقريراً في 12 صفحة حول أهم مسالك الإقليم ، وقراءته الشخصية الاستخبارية للوضع العسكري والسياسي والاجتماعي لدارفور ؛ مع حقيقة أن لمصر آنذاك أهدافاً شرعية في وحدة الوادي ؛ لكن الأمر لدى الرحالة الغربيين مثل ناختيجال هو تقرير مفصل، بل يصل الأمر إلى محاولة التأثير في الثوابت الاجتماعية والثقافية ، ومحاولة زرع ( طابور خامس) ، والعمل على انشطار ثقافي وحضاري بين السكان: " وكان في منزلي عدة أولاد من الذين استخلصناهم من أيدي النخاسين، ولما لم يكن للدكتور ( فلنكن ) خادم يخدمه ، فقد اقترحت عليه أن يأخذ معه أحد هؤلاء الأولاد، فقبل ذلك مسروراً، وأعطيته صبياً من الفرتيت (قبائل سودانية ) يدعى ( كبسون ) ، وكان ذكياً ؛ فعزم الدكتور على أن يربيه في أوربا ؛ وبعد سنتين ونصف السنة ، وأنا بالفاشر جاءني خطاب مكتوب بالإنجليزية من كبسون هذا ، يشكرني فيه لأني أذنت له بالسفر مع الدكتور فلنكن إلى (بلاد كل من فيها طيب القلب رؤوف) ... ويقول انه تنصّر، وانه أسعد الأولاد، وأرسل مع الخطاب صورته في ملابس إفرنجية ". من كتاب السيف والنار في السودان. الآن تفوح رائحة النفط من المنطقة ، وبدلاً من أن يترك لهذا النفط المجال للمساهمة في حل مشكلة تنمية الإقليم ، وتنمية السودان بشكل أشمل ، أصبح اكتشافه مبرراً لتدخل الغربيين في المنطقة، رغم الأغطية الإنسانية (النبيلة) و(سكر) الإغاثة الأبيض الحلو على الشفاه السوداء؛ صحيح أن المنطقة تعاني من تخلف شديد ، ومن صراعات قبلية ، ومن تأثير انعكاسات معارك الجنوب والغرب السابقات ، وتسرب الأسلحة ، وما عرف في الثمانينات بالنهب المسلح الذي نما وترعرع حتى أصبح القول " اللي عندو كلاش ياكل ببلاش " من الأقوال الشائعة في الإقليم ، والتي تجد لها أذاناً صاغية ، وقلوباً متحجرة وبطوناً فارغة وإدارة ضعيفة ؛ كما أن وصف المشكلة بأنها بين عرب وأفارقة أمر يثير ويؤجج النعرات ، أكثر منه لتوصف المشكلة ووضع الحل الناجع لها ، فالمعروف أن الاختلاط بين قبائل الإقليم أخذ أبعاداً وتشعبات كثيرة ، وأن المشكلة ليست في حقيقتها في وجود قبائل من أصل عربي، وأخرى من أصول أفريقية ؛ وإنما المشكلة في إن المنطقة ( وهذا يحز في النفس ، ويدمي القلب ) لاشك تعاني ... فالفتنة القبلية عمياء لا تنظر للحاضر، ولا للمستقبل؛ وقاسية كافرة ذات جبروت، لا ترحم.. كما أن للفقر والجهل وتفشي الأمية وسوء الإدارة وضعفها في إقليم شاسع يضم ما يقرب من 7 ملايين نسمة ، يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم ، نحو تنمية شاملة ، في إطار حل شامل يرعاه الاتحاد الأفريقي ، وتشارك في دعمه دول الجوار ، وتساهم في تمويله الدول العربية الغنية .. ولا أراها إلا غنية بالنوم والبخل القاتل . أما أن تستفرد الولايات المتحدة والدول الغربية بالسودان من خلال حالة الهوان ، لفرض شروط معينة ومجحفة عليها ، فهو أمر في غاية الخطورة ، وأمر لن يؤدي إلى حلول شافية على المستوى البعيد ؛ ونحن نقول ( ليس من باب النصائح، فأفكار وقدرات وإمكانيات أهل السودان وأبنائه عظيمة وكافية ) نقول أن على السودان أن تنسق مع إطارها الجغرافي والإقليمي والأفريقي لكي يكون لها سنداً؛ و أن يكون الحل في إطار أشمل ، يجتمع فيه السودانيون شرقاً وغرباً ، شمالاً وجنوباً ليتدارسوا مستقبلهم في إطار خطة إستراتيجية ، تلقى الدعم والتأييد والمساندة من الاتحاد الأفريقي ؛ أما الحلول المسكنة والصفقات الاستخبارية إذا جاز أمرها فلن تحل المشكلة ، بل تعقدها . . . . . ما أشبه الليلة بالبارحة . . وعوضاً عن التهديد بفرض عقوبات ، ومحاولات الناتو للتدخل العسكري ، كان الأجدى وضع برنامج إغاثة ، وخطة تنمية للإقليم على المستويين القصير والطويل ، والأموال التي كانت ستصرف على الجيوش تصرف على التنمية . كما أن الصورة التي تحاول وسائل الإعلام الغربية رسمها عن سوء الوضع في الإقليم أمر لا يخلو من تضخيم وتهويل ، والحديث عن الحجم الكبير والمهول لمعسكرات الإغاثة ليست إلا قراءة قاصرة لطريقة محلية معروفة عند السكان ، وعند المحتاجين عموماً للاستفادة من المعونات والدفء الإنساني ، مقابل شح الموارد وشظف العيش .. فيا بقائي في دار أخوالي ، إذا كان في الدار الخبز والراحة . إن أية خطة إقليمية أو دولية لا تراعي مرتكزات أساسية وعامة ، سوف لن يجلب لها النجاح ، حتى وإن بان تسكين ألمها ، فاستقلال السودان ووحدة ترابه ، وتعايش وانسجام سكانه تحت سقف (المواطنة) أمر يأتي في أولوية السلم. ثم إن مشاكل السودان وتركيبته السكانية المعقدة عرقياً وطائفياً وجغرافياً تحتاج إلى إيجاد صيغة للحكم والإدارة تناسب هذا التنوع الذي يمكن أن يثري تجربته باتفاق الأطراف المختلفة في الشمال والجنوب والشرق والغرب ، وتشترك فيه القوى التقليدية من شيوخ قبائل ، وزعماء طوائف ، ونظار وعمد ، كما تشترك فيه القوى الحديثة من مثقفين ومفكرين وسياسيين ، ويتم الاتفاق على برنامج وخطة يُبحث فيها الوضع السياسي والاقتصادي واقتسام الثورة بتنمية المناطق المحرومة .. ومن في السودان من هو ليس محروماً . بعد شهر من رحلة ( الأوائل ) تلك .. شهر بالتمام دُعينا مجموعة تعد على أصابع اليد الواحدة.. كان معنا ( رامبو ) وهو مسؤول سوداني اشتهر بأنه رجل المهمات البلدية العاجلة ، فأخذ شهرة ، ثم انطفأ نجمه .. ذهبنا إلى دارفور نحتفل بمرور شهر واحد على توقيع وثيقة الوحدة تلك .. بعد الاحتفال كانت طائرة الخطوط السودانية تغادر بنا مطار الفاشر ... كنت أرنو ببصري بعيداً، ونحن نترك خلفنا إقليما كم تمنيت لو جست بقدمي الحب والعشرة قراه واريافه كرحالة شغوف .. لم أفكر إنني لن أراه ثانية ... والآن تمضي أكثر من 14 سنة على رحلتي تلك لهذه ( الدار ) .. كنت قبلها أعرف أن الدار هي الغرفة الواحدة ، بل مربع لعبة ( الخربقة ) الصغير الذي يرسم على التراب ، ثم كبرت أثناء أول زيارة لي لتونس لتصبح (البيت) بكامله، وها أنا أراها قد زادت اتساعاً باتساع اللغة العربية ، فها هي دار تامة ، ودار قِمر، ودار مساليت ، ودار صليح ( واداي ) ؛ بل أن الإقليم الواسع بحاله أصبح (دار) فور تعميماً ، حتى أننا نرى البعض يفلق العالم بأسره إلى دارين ، دار الكفر ودار الإسلام . كانت الطائرة تعلو ، وقلبي ينقبض وهو يودع تلك القرى والحواكير والبلدات التي تتوزع على خريطة الاقليم : كتم ، مليت .. وارا .. منواشي .. سرف الجُداد ( الدجاج) .. عد الغنم .. أم دافوق .. أم كدادة .. كوبية ..كبكابية .. نيالا .. حيث تقف سكة الحديد ولا تتقدم منذ عقود وعقود .. الإقليم شاسع ممتد ، ويتألم من ظلم تاريخي كبير ، وأنا أدعو من أعماق قلبي : يا دار ما دخلك شر.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.