قد لا يجد المرء كبير عناء في تفسير سر الرضوخ المفاجئ للحركة الشعبية للقوى السياسية الجنوبية الأخرى التي أدارت لها ظهرها منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل في 2005م، ما عدا محاولات خجولة تمثل مساحيق لم تغط ضيقها ذرعاً بالآخرين. ويبدو أن ما انتهجته الحركة الشعبية من انفتاح جاء نتيجة وصفة أمريكية قدمتها الولاياتالمتحدة لها خلال اجتماعات نيويورك التي عقدت أواخر سبتمبر الماضي، وذلك بعد أن أصبحت واشنطن هي الموجه لبوصلة الحركة الشعبية في الوقت الحاضر. ومرد النصيحة الأمريكية ليس هو الحرص على مستقبل الجنوب بقدر ما هو الحرص على مصالح الولاياتالمتحدة في الجنوب، فالولاياتالمتحدة التي لم تخف خوفها من قيام دولة هشة في الجنوب على لسان مسئوليها تضع في تقديرها أن الجنوب سيذهب للفشل في ظل سيطرة الحركة الشعبية على مقاليد الأمور فيه، وحتى تستطيع واشنطن ترتيب أوراقها فهي تبدي حرصها على إشراك الحركة للقوى الجنوبية الأخرى في أمور الجنوب. ويدرك المراقبون أن أمريكا عادت لتسليط الأضواء على د. لام أكول مجدداً فيما لا تريد خسارة سلفاكير في هذه المرحلة، فالأول يبدو أكثر مقبولية بالنسبة لها فهو دبلوماسي من الطراز الأول وله صفات قيادية تؤهله للعب دور في المستقبل، أما الثاني فهو يمثل القيادة العسكرية التي تحتاجها واشنطن في التعاون العسكري الذي رحب به قادة الحركة وأبدوا أنهم يتطلعون لدعم أمريكي حتى يكون الجنوب مقراً لأفريكوم ومعاوناً للولايات المتحدة في ملاحقة الإرهاب. ولعل د. لام أكول قد أدرك هذه الحقائق لذلك لم يمانع من الجلوس مع غريمه سلفاكير في اللقاء الذي رتبت له قيادات جنوبية من بينها د. بونا ملوال، وتحدث أكول عن مخرجات الحدث بدبلوماسية من لا يريد أن يضخم من شأن اللقاء مع رئيس الحركة بالقول (اتفقنا على الاحترام المتبادل بين الحزبين وعدم مضايقة النشاط السياسي للتغيير الديمقراطي بالجنوب) وأنه (تم الاتفاق على تصحيح الأوضاع التي سادت بعد تكوين حزبه) بما في ذلك إطلاق سراح منسوبي حزبه الذين اعتقلتهم الحركة بالجنوب، وكان أكول واضحاً وهو يتحدث عن عدم إمكانية عودة حزبه لصفوف الحركة التي انشق عنها بعد مضايقات كبيرة تعرض لها من قبل قيادات أخرى لم يتدخل رئيس حكومة الجنوب لإيقافها. وسيناقش مؤتمر القوى الجنوبية حسب أكول الوضع في الجنوب والاستفتاء على حق تقرير المصير، وهذا يعني أن الحركة بدأت تستجيب لمخرجات مؤتمر كنانة الذي عقد مطلع أكتوبر 2009م ورفضت الحركة نتائجه جملة وتفصيلاً، فقد عبر القادة المشاركون في المؤتمر عن استيائهم من التهميش الذي تمارسه ضدهم الحركة الشعبية وعدم إشراكهم في شأن الجنوب، معبرين عن قلقهم تجاه القضايا التي تهم مواطني الجنوب وعلى رأسها اتفاقية السلام. وأكد القادة أن الجيش الشعبي أصبح المهدد الرئيسي للأمن في الجنوب بدلاً أن يكون الحامي لأمن كل الجنوبيين. وكان مؤتمر كنانة ناقش أربعة محاور هي المحكمة الجنائية، الانتخابات، الاستفتاء والوضع السياسي والأمني في الجنوب وخرج برؤى واضحة في الوقت الذي كانت الحركة تمارس فيه سياسة المراوغة وعدم وضوح الموقف. وكان بونا ملوال واضحاً في قوله (إن على الحركة الشعبية أن تدرك جيداً أن ملتقى كنانة مثل نقطة مفصلية، ولن نصمت على ما يدور في الجنوب) وفي ذات اليوم رد الأمين العام للحركة باقان أموم بالقول (القيادات التي شاركت في الملتقى هم أعداء الجنوب الذين يعملون على أجندة مشبوهة). وتبع المؤتمر تحرك آخر وهو مؤتمر الحوار الجنوبي الجنوبي الذي عقد بالخرطوم في نوفمبر 2009م أعلن خلاله قيام (تجمع الأحزاب السياسية الجنوبية) الذي قرر خوض الانتخابات العامة ككتلة واحدة وجدد مطالبته للحركة بإتاحة حرية العمل في الجنوب. وحاولت الحركة الشعبية حينها الرد بنفس طريقة القوى الجنوبية بدعوة أحزاب شمالية وجنوبية لتحالف جوبا الذي عقد في سبتمبر 2009م تحت شعار (نحو تنفيذ كامل للاتفاقية والتحول الديمقراطي في السودان). ولعل انشغال الحركة الشعبية بالتحالف مع المعارضة في الشمال أكثر من أحزاب الجنوب جعل (6) أحزاب جنوبية تقاطع المؤتمر احتجاجاً على عدم تكافؤ الفرص خلال جلسات الملتقى بجانب تحفظات على الدعوات والمشاركين، ولعل هذا كانت أول فشل للحركة التي اعتمدت على المعارضة في معركتها مع المؤتمر الوطني وكانت نتيجة ذلك أن الحركة فشلت في استخدام القوى الشمالية ضد المؤتمر الوطني خاصة في الانتخابات، مما جعلها تتخلى عنها وتخذلها فيما بعد لينهار تحالف جوبا من قواعده بعد أن اتهمتها القوى الشمالية بممارسة أقصى أنواع الانتهازية خدمة لأهدافها. وما يمكن قوله الآن أن مؤتمر كنانة الذي لم تشارك فيه الحركة الشعبية أفرز واقعاً جديداً ضد الحركة التي ظلت متعنتة تجاه القوى الجنوبية الأخرى لفترة طويلة، وبغض النظر عن الضغوط الأمريكية على الحركة لتغيير مواقفها، فالقوى الجنوبية التي ضيقت عليها الحركة بالطرد والتصيُد والاعتقال استطاعت ومن الشمال أن توحد رؤاها وتنتظر تحقيق مطالبها التي تطرحها الآن بلا مواربة أمام مؤتمر جوبا الذي يشكل اختيار جديد ومحك حقيقي للحركة في أن لا يكون مؤتمراً للعلاقات العامة، وإلا فإن القوى الجنوبية تدرك أن أمامها المزيد من كروت الضغط التي يمكن أن تواجه بها الحركة.