مدخل: قدّم تقرير أعدته مدرسة العلوم السياسية والاقتصادية ومعهد دراسات التنمية بلندن بعنوان (جنوب السودان يختلف مع نفسه) المعلومات التي توضح الصعوبات التي تواجه التنمية وتزايد العنف البيني بالجنوب، ويشير التقرير إلى أن العنف من أكبر التحديات لمواطني جنوب السودان، فهنالك سببين شائعين للعنف المحلي في الجنوب، أولهما أن الجنوبيين وقادتهم يرغبون في تحميل كل العلل والظواهر المحلية غير المعروفة إلى أيادي الخرطوم الخفية. ومن خلال هذا البحث عبر الكثير عن تنامي الكراهية والعنف في الجنوب بدون تشجيع من الشمال. وهذا يقود إلى السبب الثاني الأكثر شيوعاً وإيضاحاً، فاندلاع مظاهر العنف المحلي في الجنوب تغذية الصراعات بين القبائل، فمظاهر الصراع القبلي علي كل شئ ابتداء من الصراعات الأسرية إلى الصراعات داخل القبائل حتى هجمات العصابات الإجرامية أو غارات الجنود السابقين. نمولي: خلاف حول ماذا؟ كمدينة حدودية ونقطة دخول وخروج يقطنها نازحون من الدينكا وعائدي قبيلة المادى الذين كانوا يعملون في قوات الجيش الشعبي، بهذه الوضعية تعتبر نمولي نموذج يثير التوترات الناجمة من بعد الحرب وإعادة التوطين، ويمكن خفض هذه التوترات بشكل سطحي بالقول أنها صراعات قبلية، وطبقاً لحوار مع أحد المواطنين القدامى فإن نمولي سقطت بيد الجيش الشعبي عام 1989. قبل ذلك كان تسيطر علي المدينة مليشيات مادى المعارضة للجيش الشعبي. لقد وصلت معارضة المادى للجيش الشعبي ذروتها عندما قتل نائب برلماني يدعى جوزيف كيبولو أثناء حملته الانتخابية في طريقه من توريت إلى أوبارى. وقد خلفت الحادثة انقساماً بين الأشولي والمادي إلى يومنا هذا خاصة في أوباري. وقد أدى سقوط نمولي في يد الجيش الشعبي في عام 1989 إلى هجرة المادى إلى يوغندا. وخلال التسعينات بدأت مجموعات من الدينكا الهرب من ولاية جونقلي وجاءت واستوطنت في نمولي. وطبقاً لسلطان جالية دينكا بور أن الهاربين استوطنوا في الفترة من عام (1991-1993) بعد هجمات شنتها عليهم مجموعة مليشيات الجيش الأبيض التابع لرياك مشار في بور بدعم من الخرطوم. صراع المادي والدينكا وقال عدد من الدينكا الذين تم استطلاعهم بأنهم أُبلغوا أن مدينة نمولي قد سكنها اللاجئين اليوغنديين منذ عهد حكم إيدى أمين وعادوا إلى يوغندا مخلفين وراءهم أرضاً خالية. وأصبحت نمولي حامية يسيطر عليها جنود الجيش الشعبي ونازحي الدينكا. وبعد اتفاقية السلام بدأ العائدين من المادى الاستيطان ثانية في نمولي وتزايدت تبعاً لذلك التوترات. وأوضح أحد كبار المادى التعبير الشائع الذي يستخدم لتوضيح الخلافات حول الأرض، فعندما يري شخص من المادى شخص آخر يجلس تحت ظل شجرة المانجو (زرعتها أنا ويقوم هو بحصاد ثمارها) .. نمولي ليست مدينة جاذبة فقط باعتبارها منطقة تبادل تجاري واقتصاد نامي، لكنها أيضاً لوضعيهما الإستراتيجي المميز كمدينة حدودية قريبة من إجراءات السلامة ولسهولة الوصول منها إلى المؤسسات التعليمية في يوغندا. وتعتبر اتفاقية نمولي (تمت بوساطة خدمات الإغاثة الكاثوليكية والمنظمة الدولية للهجرة) التي صممت للمساعدة في عودة نازحي الدينكا اتفاقية ناجحة نسبياً في خفض التوتر، لكن جالية المادى يشعرون أن قضية الأرض لم تحل، لأنهم لم يستطيعوا شغلها، وهذا حقهم التاريخي وفقاً لعينات عشوائية استطلعت في مدينة نمولي. قضية الأرض لم تحل والسلام بالنسبة للمادى سيأتي عندما يغادر الدينكا، ليس لك حقاً إذا لم تقاتل، لذلك هم مقيمون ويعملون بالتجارة ويطالبون بالأرض. وعلي الرغم من التصريحات الرسمية التي تتحدث عن الانتقاد السلس للسلام، ما زال الوضع تحت درجة من التوتر والغليان. ما بين الهوية والموارد والحرب تستمر التوترات في الحدوث بين لو نوير وجيكاني نوير في جنوب أعالي النيل، ويبدو في السطح أن الصراع بين لو وجيكاني حول السيطرة علي الموارد. ويربط نهر السوباط وأنهر البيبور (التي تفصل الحدود مع اثيوبيا) مدن الناصر في الركن الجنوبي الشرقي وأكوبو في الجزء الشمالي الشرقي من جونقلي. وقبل بداية الصراع تمتد منطقة جيكاني إلى أقصى الجنوب علي طول نهر البيبور إلى قرية واندينق بالقرب من حدود ولاية جونقلي وأكثر قربا إلى أكوبو منها إلى الناصر، تقليدياً أثناء موسم الجفاف الذي يوافقه المحليين من الجيكاني يأخذ أو لو مواشيهم من شمال أكوبو إلى واندينق حيث المرعى والمياه العزيره. أول ما بدأ الصراع بين القبيلتين كان ذلك عام (1993) بتضافر العديد من العوامل، أولها سقوط منقستو في أثيوبيا عام (1991) الذي عنى خسارة مفاجئة للجيش الشعبي لملاذ آمن في غرب أثيوبيا. وخلال أيام أفرغت معسكرات اللاجئين هناك حيث عبر مئات الآلاف من لاجئ جنوب السودان الحدود، وخلق التدفق المفاجئ للاجئين علي مقاطعتي الناصر وأكوبو ضغوطاً علي الأراضي والموجود من الغذاء المحلي. تزايد الضغط السكاني مقروناً مع كارثة إنسانية حادة بسبب الجفاف عام (1992و 1993) وهو ما قاد بعض من اللو لمحاولة الاستقرار بشكل دائم في واندينق. وبوقوع الجيكاني تحت ضغوط مشابهة تزايدت التوترات وتحولت إلى عنف، وأسهمت انشقاقات الجيش الشعبي عام (1991) أيضا في تصاعد التوترات بين المجموعتين، فالانقسام داخل الجيش الشعبي مقروناً بالضعف الإداري لكل من ريك مشار ولام اكول وقوردن كونج أدي إلى انعدام الأمن في المنطقة بسبب رئاسة فصيل الناصر. وساعد ضعف سيطرة القادة المحليين إلى تصاعد أمراء الحرب، وبمجرد اندلاع القتال وتفكك السلطة بالمنطقة نتيجة الانقسام الذي حدث للجيش الشعبي، بدأ من الصعب مخاطبة الصراع وحماية المواطنين المحليين. وفي السنوات القليلة الماضية طرد الجيكاني تدريجياً إلى خارج واندينق، ولكن اللو لم تكن بصدد اغتصاب الأراضي. تراكم الصراعات أصبحت الأرض جنوبأكوبو في ولاية جونقلي تتغير تدريجياً خلال العقود العديدة الماضية، من حيث إمدادات المياه حيث انعدمت المياه السطحية في موسم الجفاف، ونتيجة لذلك بدأ المورلى يتجولون بشكل واسع من مكان إلى مكان في المنطقة، ويدفعون بالأنواك باتجاه أثيوبيا ويضغطون علي اللو. وأثر انعدام الأمن أيضاً أثر علي حركة النقل عبر الأنهر إلى الأرض المغلقة "أكوبو". وبالنظر إلى طرقهم غير المعبدة والوعرة وضعف الحركة النهرية لمشاكل بأعلى النهر أحس اللو بالعزلة والحصار وإبعادهم من بناء جنوب السودان الجديد. أن قضية ال واندينق نفسها لم تحل وإدارتها أرجعت إلى مقاطعة الناصر بولاية أعالي النيل في احتفال يناير(2009). والملاحظ أن هذا الصراع يتغذى علي العديد من القضايا التي تشمل الضغوط السكانية، والنزوح والحصول علي المياه وتبدل الانتماءات السياسية وتاريخ أمارة الحرب. أضف إلى هذه التوترات انعدام السلطة المحلية، نتيجة لتراكم الصراع وتغيير البيئة، وانعدام البنية التحتية، وانعدام المشاركة السياسية الواسعة الخاصة بمحاولة بناء الدولة. وبالنظر إلى التعقيد والانقسام حول القضايا المذكورة أعلاه يتضح أن تصنيف الصراع باعتباره كنماذج للعنف الاثني والقبلي قد ينجم عنه تبسيط شديد لفهم القضايا غير الواضحة التي تحتاج إلى اعتبار عميق. أن استخدام القبلية أو الكراهية علي أساس قبلي كأداة لتوضيح العنف المحلي يضاعف الأثر التدميري، بحيث يعمل علي أخفاء حقائق الصراع ومحاولات وضع الحلول. ويشير التقرير أن تعريف العنف في جنوب السودان علي أساس أنه صراع قبلي أدي إلى طغيان المنطق الضعيف، وأصبح هذا المنطق القاعدة المعرفية لمبادرات السلام المحلي، والتي تركز علي القضايا القبلية والمصالحات القبلية بقيادة السلاطين، وهم بدورهم يكتسبون سلطاتهم بالتركيز علي مثل هذه الانقسامات القبلية. فتحديد القضايا السياسية والقبلية التي أصبح لها وجود نتيجة المجال الذي فتحته اتفاقية السلام الشامل لم يتم مخاطبتها بشكل كامل. استكمال الهياكل الإدارية رحلة جنوب السودان عندما بدأت مفاوضات السلام في عام (2002) إلى عام (2010) كانت ملحوظة، فقد انتقل الجنوب من منطقة حرب مشتعلة إلى إقليم يتمتع بشبه الحكم الذاتي، وحقق منجزات تمثلت في إقامة حكومة جديدة وإقامة بنية تحتية، وإنهاء حالة الحرب والقتال بين الشمال والجنوب عموماً. تمت كل هذه التطورات تحت ظروف صعبة للغاية، ومن المهم جداً وضع هذا الأمر في الذهن عند مخاطبة العديد من التحديات الماثلة وعند تحليل أسباب العنف المستمر. وفي الحقيقة واحد من الأسباب التي أدت إلى ازدياد العنف المحلي تكمن فيما يتم فعله في جنوب السودان، وأن بعض تلك الأفعال خلقت تناقضات غير مقصودة أكثر من كونها ناجمة عن العنف. يمر جنوب السودان حالياً بتجربة الربط ما بين الترتيبات لإقامة تنمية والمساعدات العاجلة ومناشط بناء السلام وإقامة هياكل حكومة جديدة مع تقوية أنظمة الحكم القديم، هذا التباعد بين المناشط خلق تنافس أو عدم وضوح في الأفكار وماهية الأهداف التي يجب إنجازها من خلال كل منشط حتى يتحقق في نهاية الأمر مستقبل الجنوب، وانعدام وضوح المستقبل ليس بالشئ المفاجئ إذا أخذنا في الاعتبار أن اتفاقية السلام الشامل قررت بشكل كبير حول هذا الأمر. السلام انعدام الرؤية وتكمن العبرة في الكيفية التي جاءت بها اتفاقية السلام، فاتفاقية السلام كوثيقة لم تؤسس لطريقة محدودة، ووقع عليها من جانب الجنوب الحركة الشعبية التي لم تكن موحدة وبها أفكار مختلفة وتحت ضغوط دولية كثيفة. ويوضح التقرير حقيقة أن كل المشاركين في اتفاقية السلام الشامل بما في ذلك الدول المانحة والوكالات المنوط بها تنفيذ الاتفاقية أو المنظمات غير الحكومية، ظلوا غير واضحين في ما يتعلق بأهداف ما وراء الموضوعات المهمة المضمنة في اتفاقية السلام الشامل، مثل التعداد السكاني والانتخابات واستفتاء، وأرجع التقرير ذلك لسببين مختلفين، فتعقيدات الأوضاع في جنوب السودان وضعت تركيزاً كبيراً علي الموضوعات المهمة المضمنة في اتفاقية السلام، باعتبار أن تنفيذ تلك القضايا أكثر سهولة من عمليات التنمية المتنوعة. والاتفاقية تمثل معيار الحد الأدنى المشترك لما تم الاتفاق عليه ليس فقط بين الشمال والجنوب، لكن علي الرغم من الميول الماركسية ظل انعدام الوضوح الفكري سائداً بالحركة الشعبية، غير أن قيادة جون قرنق أدخلت علي الحزب ما يشبه وحدة الهدف العام. ومنذ أن رحل قرنق أضحى انعدام الفكرة من أكثر الموضوعات أهمية. أن الانتقادات التي صاحبت العملية الانتخابية أعادت للأضواء أن الخطة الرئيسية للحركة الشعبية هي تعزيز وفرض سلطانها، فيما ظل مسار الديمقراطية غامضاً.