لم يخف قادة العملية الاستخبارية الهجومية على بعد 15 كيلومترا جنوبي ميناء بورتسودان منتصف الأسبوع الماضي سعادتهم بنجاح العملية في إطار الخطة المحدودة، والدقة المطلوبة فالإسرائيليين على أية حال دأبوا على التباهي والافتخار (باليد الطولى) لهم كما كانوا يطلقون على عملياتهم الاستخبارية منذ أن تأسست دولتهم المغتصبة العام 1948م. فهم الذين نفذوا عملية الضربة الاستباقية الجوية على المطارات المصرية فيما عرف بنكسة يونيو 1967 وهم الذين نفذوا ضربة المفاعل النووي العراقي 1981، وهم الذين نفذوا ضربات متعددة في داخل العمق المصري حتى طالت ضرباتهم المدارس مثل مدارسة بحر البقر الشهيرة ولم يردعهم عن ذلك حينها إلا عندما أكمل الجيش المصري بمعاونة السوفيت إنشاء حائط الصواريخ والذي تساقطت بعده الطائرات الإسرائيلية كما الذباب واضطرت لوقف غارات العمق. إسرائيل إذن يمكن وصفها بأنها دولة مغامرة من طراز غريب، فهي تتجاوز كل المحاذير والخطوط الحمراء التي عادة ما تضع لها الدول – حتى ولو كانت كبرى وقادرة – ألف حساب. وقد قامت إستراتيجيتها – كدولة مرعوبة باستمرار – على عنصر ملاحقة كل هواجسها ومخاوفها أينما وجدت وضربها. ولعل أضعف عنصر في هذه الإستراتيجية غير المألوفة دولياً والمستهجنة حتى من أصدقائها وحلفائها أنها تطال الأشخاص، هكذا فعلت مع قادة حماس، الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وعياش، وحاولت مع الدكتور خالد مشعل في سوريا ولكنها هناك أخفقت وكان الاخفاق مريراً بل ومهيناً كونها افتضحت وفي الوقت نفسه لم تحقق هدفها. من هنا يمكن قراءة غارتها الصاروخية المحددة – التي اتبعت ذات الأسلوب – جنوبي مدينة بورتسودان مؤخراً، فالجهد الذي بذل والعمل الذي جرى تخطيطه كله كان بهدف ضرب سيارة بها شخصين وقد راجت أقوال – لم تثبت حتى الآن بصفة رسمية – أن أحد المستهدفين يعمل في تهريب السلاح وبالطبع من الصعب أن يتصور عاقل أن استهداف مهرب للسلاح يستحق كل هذا العناء وتتم تصفيته بهذه الطريقة المدوية. أغلب الظن أن العملية كانت تفترض وجود شخصية أخرى لها أهميتها في تقدير الاستخبارات الإسرائيلية. ومن البديهي هنا بالنسبة لنا أن التحقيقات التي عكفت على إجرائها السلطات السودانية هي التي سوف تشكل طبيعة الرد، والثمن الذي سوف يتعين على الدولة العبرية أن تدفعه، غير أننا ننظر باتجاه زوايا حادة أخرى في الواقع هي التي سترسم سيناريو المرحلة المقبلة وهو سيناريو – لمفارقات القدر وسخرياته – كررته إسرائيل أكثر من مرة، وحصدت ثماره حنظلاً مراً ومع ذلك لم تكف عن تكراره كلما دعت الحاجة فهي قادرة على توجيه الضربات، ولا تتورع عن ذلك غير عابئة بالمواقف الإقليمية والدولية وغير هيَّابة كما هو معروف من قرارات مجلس الأمن أو الجامعة العربية أو الاتحاد الأفريقي أو أي مؤسسة دولية أخرى، ولكن في الجانب الآخر لا تحتمل إسرائيل ردود الفعل الأمنية فعلى سبيل المثال حين كان يحلو لها الإغارة على لبنان لم تكن تحفل بما قد يترتب على ذلك من نشوء لمقاومة تمرغ أنفها بالتراب، وجاء حين على إسرائيل أصبحت فيه رغم كل قوتها وجبروتها تفر فرار الأجرب من جنوب لبنان وتحسب حساباتها ألف مرة قبل القيام بإطلاق طلقة واحدة على بلد يصنفه العالم كله أنه ضعيف ولا يملك جيشاً يستطيع مواجهة الآلة الحربية الإسرائيلية الشعواء. غير أن المفاجأة كانت أن حزب الله لقّن إسرائيل من الدروس ما لم تلقنه لها كل الحروب التي خاضتها في المنطقة وأصبح مجرد حديث أو تصريح صادر عن أمينه العام الشيخ حسن نصر الله يقيمها بكافة أجهزتها ولا يقعدها – الأمر نفسه كررته إسرائيل – بغباء مماثل في هجومها البشع على غزة، فعلى الرغم عن كل ما فعلته في غزة على مدى أشهر مستخدمة اسوأ أنواع الأسلحة المحرمة دولياً إلا أنها لم تستطع كسر شوكة حماس والأدهى وأمر أن حرب غزة رغم طول العهد بها – قبل أكثر من عامين – قادت في النهاية إلى سقوط نظام الرئيس مبارك الذي كان عنصراً مهماً في تحمس إسرائيل لها ومن ثم أصبح الطريق ممهداً – من الآن فصاعداً – لاستحالة تكرار تلك الحرب واستحالة ملاحقة قادة حماس بل على العكس صارت الجبهة المصرية أكبر مهدد للأمن الإسرائيلي بالنظرية التي تتبعها إسرائيل بشأن أمنها كون أن أحداً – بعد الآن – لن يحول دون أخذ المقاومة لحقوقها وامتلاك زمام المبادأة. الآن خلقت إسرائيل عدداً غير قليل من المخاطر على أمنها بما اقترفته في حادثة بورتسودان هذه المحاذير يمكن قراءتها بمعزل عن الرد السوداني الرسمي على الفعلة النكراء. في مقدمة هذه المخاطر أن إسرائيل تجتذب العديد من خلايا المقاومة والجهات التي تعمل عادة ضدها إلى المنطقة خاصة المنطقة المتنازع عليها بين مصر والسودان ما بين حلايب وشلاتين، وهذا الاجتذاب من المؤكد أنه سوف يشتت جهود إسرائيل ويبعثر قدراتها في التصدي لمهددات أمنها، فهذه الدولة في النهاية ذات قدرات محدودة استطاع حزب الله وحده مرمغة أنفها بإذلال تام في حرب 2006 ثاني هذه المخاطر أن إسرائيل حتى الآن رغماً عن كل شيء لم تدخل في مواجهة مع خلايا القاعدة وهي خلايا استعصت على الولاياتالمتحدة نفسها، وشتت جهودها في أفغانستان وباكستان منذ سنوات ومن المؤكد أن (رائحة الحرب) التي وصلت إلى أنف خلايا القاعدة في ضربات الناتو في ليبيا قد اجتذبت قدر منها حول المنطقة، وسيكون امتحاناً عسيراً على إسرائيل وعلى الولاياتالمتحدة نفسها خوض مواجهة كهذه في منطقة صعبة كهذه في ظل المعطيات الماثلة حالياً. ثالث هذه المخاطر أن الحراك الثوري المتفاعل حالياً في المنطقة العربية – في ظل هذا الأسلوب الإسرائيلي الاستفزازي – سوف يفضي عملياً إلى نشوء أنظمة حكم شديدة العداء لها بل قد ينتج عن ذلك أنظمة ليس لها من هدف سوى ملاحقة إسرائيل كنتيجة حتمية لحالة الموات والسكون العربي الطويلة التي سادت المنطقة منذ أن أبرمت مصر السادات معاهدة كامب ديفيد عام 1977 وخرجت من المواجهة ، مصر الآن وبصرف النظر عن كامب ديفيد ليست مصر ما قبل ال25 من يناير 2011م، وإسرائيل بهذه المثابة تستثير دول المنطقة ضدها في مبادرة خالية تماماً من أدنى درجات الذكاء. وأخيراً – فإن كبرى مخاطر الحادثة أن إسرائيل لفتت انتباه السودان إلى لعبة جديدة التمعت كوميض البرق في أذهان صانعي القرار في السودان، من المؤكد أنها سوف تظهر للعيان قريباً وستصرخ إسرائيل جرائها صرخة المستغيث!