قوة (إيسفا) أخيراً تم التوصل في العشرين من الشهر الجاري في أديس أبابا إلى اتفاق بين شمال وجنوب السودان بخصوص منطقة أبيي المتنازع عليها. وقضى الاتفاق الذي أطلق عليه الترتيبات الإدارية والأمنية المؤقتة لمنطقة أبيي على نشر قوات أثيوبية قوامها (800) فرداً أطلق عليها القوة الأمنية الانتقالية لأبيي، ايسفا (ISFA)، في غضون ثلاثة أسابيع للقيام بمهام حفظ الأمن والنظام في المنطقة إلى حين التوصل إلى حل نهائي لمشكلة أبيي بطريقة سلمية، وإزالة أية مظاهر عسكرية في المنطقة وإعادة انتشار الجيش الشعبي والقوات المسلحة السودانية خارج المنطقة التي حددتها المحكمة الدائمة للتحكيم في يوليو 2009م على أن يتم نشر قوة ال(ايسفا) بمجرد موافقة الأممالمتحدة عليها. ونصت المادة (5) من الاتفاق على مهام القوة الأمنية المؤقتة لأبيي وتنحصر مهامها في الآتي: المراقبة والتحقق، حماية فرق المراقبة، توفير الأمن في منطقة أبيي، حماية حدود أبيي من الدخول غير الشرعي لبعض العناصر غير المصرح لها، دعم وبناء قدرات جهاز شرطة أبيي، تسهيل المساعدات الإنسانية وحمايتها وأخيراً حماية المدنيين من التهديدات الوشيكة. قشة الغريق: يرى مراقبون أن توقيت التوصل إلى الاتفاق له عدة دلالات منها: أن الحركة الشعبية كانت مضطرة إلى اتفاق وبأي ثمن، بعد فشل محاولاتها المتكررة إعادة السيطرة على المنطقة بالقوة بعد أن دخلها الجيش السوداني بالقوة في الحادي والعشرين من مايو المنصرم بعد أيام فقط من اعتداء قامت به قوات من الجيش الشعبي على (سرية) من الجيش السوداني كانت تعيد انتشارها شمالاً بمقتضى اتفاق كادقلي الذي توصل اليه الطرفان في فبراير 2011م بعد تصاعد موجهات العنف والتوتر الذي ازدادت وتيرته بعد ظهور نتيجة الاستفتاء لصالح الانفصال وطالت حتى جنود القوات الأممية. وكذلك كانت الحركة الشعبية في حاجة ماسة إلى الاتفاقية لأنها بصدد التحضير للإعلان الرسمي لولادة دولة جنوب السودان وهي تحاول قدر جهدها تبديد المخاوف الرائجة عن الدولة الوليدة التي تحاصرها الأزمات من كل جانب بشهادة المنظمات الإنسانية العاملة في الجنوب ومراكز الأبحاث الغربية والتي أكدت جميعها أن الدولة الوليدة تنطوي على مقومات الفشل أكثر من النجاح وأنه من الصعب على الإقليم الذي تكاد تنعدم فيه البنية التحتية الأساسية ويكثر فيه التمرد والنزاعات القبلية ويعتمد سكانه على غوث المنظمات الإنسانية الدولية أن يقف على قديمه ويأسس دولة قابلة للحياة بالاعتماد على إمكانياته الذاتية. ويُلقى ذلك على كاهل المجتمع الدولي الذي تبنى قادة الدولة الوليدة ومد لهم يد العون والمساعدة أعباءً مضاعفة فحالة الجنوب ليست ولادة طبيعية لدولة جديدة وإنما تأسيس دولة وأمة من الصفر. وفي الحالات التي ساعدت فيها الأطراف الدولية وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية الأقاليم والدول الوليدة على النجاح عبر تقديم المساعدات المالية الضخمة والدعم الفني لبناء المؤسسات (خطة مارشال) وجدت نواة محلية تم البناء عليها وهو ما لا يوجد في الجنوب. أطماع إقليمية: وتفتر همة الأطراف الدولية عن المضي قدماً بمد يد المساعدة إلى الجنوب إلى ما لا نهاية في ضوء الحقائق التي تقول إن نفط الجنوب على أقصى تقدير لا يشكل أهمية تذكر في خريطة (أمن الطاقة العالمي) وأن كلفة استغلاله أكبر من العائد المرجو منه وبالتالي تتضاءل الأهمية الجيواستراتيجية للجنوب. وإذا كانت الأطماع والدوافع الاقتصادية هي ما تدفع الأطراف الدولية إبداء الحماس للدولة الجديدة في الجنوب كدولة نفطية فإن الأطراف الإقليمية الأخرى خاصة أثيوبيا وكينيا ويوغندا هي الأخرى تسعى لتنال نصيبها من (كيكة الجنوب) وتنظر هذه الأطراف الإقليمية إلى الجنوب باعتباره دولة حبيسة ليست لها موانيء ومنافذ بحرية، بالتالي تحتاج حتى على المدى الطويل إلى توفير احتياجات سكانها عبر المنافذ الحدودية لجيرانها وما يوفره ذلك من فرص وصفقات لصالح هذه الأطراف لذلك تسعى جاهدة إلى سد الفراغ الذي تشهده هياكل الدولة الوليدة خاصة القطاعات الإنتاجية. وفي ظل المعطيات الراهنة فإن نشوء رأسمالية وطنية وطبقة وسطى جنوبية تشكل رافعة تدعم الاستقرار السياسي والاقتصادي للدولة الوليدة لهو عملية تستغرق أجيال عديدة لأن الأفراد ذوو المهارات العالية من التكنوقراط والخبراء من أبناء الإقليم نفسه الذي يحتاجهم يأنفون العمل في بيئة شديدة التعقيد تكون بمثابة كابح لطموحاتهم في الوقت الذي تتاح أمامهم فرص عديدة تحقق طموحاتهم في الرقي والنجاح في بيئات أخرى. وهذا يعني أن الفوائد المترتبة على الانفتاح على دولة الجنوب الوليدة يحقق للأطراف الإقليمية فوائد كبيرة جداً. مكاسب سياسية: ويرى مراقبون أن المؤتمر الوطني قد حقق عدة مكاسب سياسية من هذا الاتفاق فبعد أن برهن على قدرته على الحسم العسكري فيما لو استمرأت الحركة الشعبية ذلك في محاولة لفرض أمر واقع بالقوة. وكذلك إعادة موضعة النزاع حول أبيي في المسار الطبيعي بعد أن أكد الاتفاق على عدم المساس بحدود الأول من يناير 1956 بين الشمال والجنوب إلا إذا تم تغييرها تبعاً لنتائج الاستفتاء المرتقب بموجب بروتكول أبيي أو بقرار من الأطراف حول الوضع النهائي لمنطقة أبيي. الجدير بالذكر هنا أنه بحسب بروتكول أبيي كان من المفترض أن يجرى استفتاء في أبيي بالتزامن مع استفتاء شعب جنوب السودان الذي أجري في التاسع من يناير 2011م لمعرفة رأي سكان المنطقة ما إذا كانوا يريدون البقاء ضمن الشمال أم الانضمام إلى دولة الجنوب ورفضت الحركة الشعبية مشاركة المسيرية في هذا الاستفتاء وهو ما يصر عليه المؤتمر الوطني. وحقق المؤتمر الوطني أيضاً مكسباً كبيراً آخر هو أن لا حل عسكري أو غير متفاوض عليه كما تحاول بعض الأطراف التي تشعر بالحرج من موقف المؤتمر الوطني الذي يصر على عدم التمييز بين مواطني المنطقة في المشاركة في استفتاء أبيي وهو حجة دامغة وتسعى هذه الأطراف بدلاً من ذلك إلى المقايضة والمساومة أو حتى اطلاق التهديد والوعيد مثلما دعا مؤخراً (روجر وينتر) مستشار حكومة الجنوب وصوتها النافذ لدى صناع القرار في واشنطن، والذي دعا إلى توجيه عمل عسكري ضد الخرطوم لتعديل ميزان القوة لصالح الحركة الشعبية وحلفاؤها بعد أن تلقوا ضربات موجعة في أبيي وجنوب كردفان وغيرها. ومن مكاسب المؤتمر الوطني أيضاً أنه قد أعاد التأكيد على موقفه السابق بخصوص إنهاء تفويض بعثة الأممالمتحدة في السودان (اليوناميس) بحلول التاسع من يوليو القادم. وكانت بعض الأطراف الدولية تريد الالتفاف على هذا القرار بأن تكون قوة ال(ايسفا) ضمن قوات (اليوناميس) وهي تفويض بموجب الفصل السابع بحجة حماية المدنيين، والتذرع بذلك لتمديد أجل تفويض (اليوناميس). ونصت المادة (5) من اتفاق أديس أبابا على أن يتم تشكيل لجنة مشتركة من الحكومة السودانية والحركة الشعبية والأممالمتحدة والحكومة الأثيوبية تقوم بصياغة تفويض القوة الأمنية وتقديمه إلى مجلس الأمن الدولي. وتطلب كل من الحكومة السودانية والحركة الشعبية من مجلس الأمن تفويض قوة (الايسفا) في إطار التفويض المتفق عليه بين الأطراف كما ورد في المادة (5) الفقرة (27) وليس أي تفويض آخر بما يعني سد أي ذريعة قد تسعى أطراف دولية تجيير التفويض لأغراض أخرى خاصة إذا علمنا أن التفويض المتفق عليه هذا لا يتم تغييره إلا بموافقة حكومة السودان والحركة الشعبية والحكومة الأثيوبية. سابقة إقليمية: مثلما أنطوى الاتفاق على مكاسب سياسية لطرف وخسارة لطرف آخر انطوى كذلك على سابقة إقليمية كانت مجرد فكرة حبيسة أضابير المنظمة الأممية ولأول مرة يتم تفويض طرف إقليمي من مجلس الأمن والأممالمتحدة للقيام بمهام تتضمن حفظ أمن وسلام كاملة وبتمويل من الأممالمتحدة. وكانت الدول الغريبة بالذات تصر دوماً على أن يكون لها نصيب الأسد من الهياكل والسلطات والصلاحيات وحتى الصفقات والعطاءات لتنفيذ مهمة ما ضمن الأممالمتحدة وإلا سوف تحجم عن توفير التمويل أو المشاركة خاصة بالجنود والآليات. وفي حالة هذا الا تفاق دعت سوزان رايس المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن إلى الإسراع بنشر القوة الأثيوبية المقترحة. وكما يرى الكاتب الصحفي السر سيد أحمد فإن السيد الأخضر الإبراهيمى وفي خضم الجدل الدائر حول إصلاح المنظمة الأممية بما يتناسب وتطورات القرن الحادي والعشرين وخاصة بعد أن تعاظمت المشكلات المهددة للسلم والأمن الدوليين. وتعرضت الأممالمتحدة لانتقادات حادة من تيارات ومؤسسات المحافظين الجدد واليمين الأمريكي تدعو إلى تجاوزها لأنها من مخلفات الماضي والاستعاضة عنها بقوة القطبية الأمريكية. واقتراح السيد الإبراهيمي مؤداه أن الأممالمتحدة تنوء بأعباء ثقيلة وأنها لا تستطيع بمفردهاب القيام بذلك ولكي ترتقي المنظمة الأممية إلى مستوى هذه التحديات لابد من إيلاء الأطراف الإقليمية دول أو منظمات مسؤوليات أكبر في معالجة القضايا الإقليمية ولكن في إطار الأممالمتحدة.