مجرد ذكر اسمه فقط بات يثير الرعب فى الجنوب، خاصة أنه اشتهر بالشراسة فى القتال والصبر الطويل على المعارك، وتميز بالقدرة الفائقة على قيادة العمليات العسكرية فى الأدغال. لكن من العجيب ان تلك الصرامة العسكرية تختفى تماماً عندما يكون خارج ميادين الحرب، فتجد شخصيته تتسم بالبساطة والتواضع، وكذلك المعاناة من عدم القدرة على التحدث باللغة العربية إلا بصعوبة واضحة ابعد ما تكون عن ( عربى جوبا )، ولا يكاد المستمع اليه يفهم حرفاً واحداً إلا من خلال حركات فمه وخلجات وتقاسيم وجهه وتعابيره، ولكنه في ذات الوقت يجيد التحدث باللغة الانجليزية بطلاقة تامة. وبجانب معاناته مع اللغة العربية فإنه يعانى من آثار واصابات المعارك العسكرية التى تركت على وجهه ورأسه ما تركت. تقلبات الحرب فى الجنوب جعلته يتخذ مواقف متناقضة حولته اخيراً إلى مقاتل يؤرق منام قيادات الجيش الشعبي الذي طالما قاتل فى صفوفه، فمن هو بيتر قديت.. وما هي قصته بالضبط؟ تقول سيرته الذاتية انه خرج للحياة من قبيلة النوير فى العام 1962م عند ما اطلق صرخة ميلاده لتعلن وجوده فى قرية (دورشين) مسقط رأسه بمركز مانكين بمقاطعة ميوم بولاية الوحدة. لم يهتم كثيراً فى صباه بالسير في خط والده السلطان قديت، ليسلك طريق العلم خاصةً عندما ارسله لمدرسة المسالمة الاعدادية بأمدرمان وهو فى الثامنة من عمره والتى قضى فيها ثمانية سنوات، لم يكن قديت مهتماً بالتحصيل بقدر تعلقه بحياة الجندية، وعليه فقد التحق بالقوات المسلحة فى عهد الرئيس المشير جعفر نميرى وانتظم بكتيبة تمساح بمنطقة (تومات) الواقعة بين مدينتى خشم القربة والقضارف، ليبدأ مشوار القتال دون ان يدرى انه سيكون بهذا الطول، ولكن تقلبات الحياة دفعته الى ترك القوات المسلحة التى شكلت محطة مهمة فى حياته، حيث اتخذ القرار الصعب عندما انتقل الى بانتيو فى العام 1984م ومنها إنضم للجيش الشعبي. ومن داخل الجيش الشعبى شارك فى عمليات عسكرية كبيرة فى الجنوب خاصة فى كبويتا وتوريت وغرب الاستوائية . وتعود تقلبات الحياة من جديد لتدفع بيتر قديت للخروج من صفوف الجيش الشعبى الى مجموعة ابن قبيلته د. رياك مشار إثر الانشقاق الشهير للحركة الشعبية فى العام 1991م. ولكن بعد توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام يعود قديت من جديد الى صفوف الجيش الشعبى والذى نال فيه مكانة كبيرة، حيث تمت ترقيته كقائد للمنطقة العسكرية الممتدة من الرنك الى اثيوبيا وأبيي من قبل وزارة الدفاع بحكومة الجنوب، ثم عين لاحقاً قائد لسلاح المدفعية والقوات الجوية فى اللواء الثالث بالجيش الشعبى وفى العام 2009م، وتم نقله إلى ولاية شمال بحر الغزال وراجا وأبيي . وفى تطور جديد انشق قديت قبل (9) أشهر من الجيش الشعبي. وبدأ يحارب من جديد فى مسلسل التقلبات الذى لا ينتهى عنده، ليكون احد القيادات العسكرية ذات الوزن الثقيل التى تنشق من جيش الحركة الشعبية بدعاوى الظلم الذى تمارسه حكومة الجنوب لتغطية فشلها فى تحقيق التنمية والعدالة. فى وقت اعتبره المراقبون أن تمرد قديت جاء في وقت قاتل، لأنه يأتي قبل وقت وجيز من اعلان ميلاد الدولة الجديدة، والذي يؤكد بصورة واضحة سوء الأوضاع الإنسانية والأمنية بالجنوب، فى ظل انشقاقات كبيرة تمثل قنبلة موقوتة قابلة لإشعال نيران الحرب والجحيم التى لا تبقى ولا تزر . ويرى قديت أن الحركة الشعبية والجيش الشعبى قاما بظلم وتهميش مواطن الجنوب، وامتد الظلم حتى الى افراد الجيش الشعبى انفسهم؛ إذ ظلوا يواجهون ظلماً وإضطهاداً من قبل ضباطهم الأمر الذى جعلهم مجموعة عصابات للنهب والسلب . ويرى أن حكومة الجنوب حاولت استهدافه فى مسلسل الظلم والإضطهاد للأصوات التى ترفض سياستهم المجحفة، لذا قامت بإرسال قوة من الجيش الشعبى قامت بضرب أولاده والتسبب فى إعاقتهم، وهو ما دفعه لاتخاذ قراره بالدخول في مواجهات ضد الجيش الشعبى لرفع هذا الظلم، خاصةً وأن الحركة الشعبية فشلت فشلاً ذريعاً فى بسط العدالة. وفى منحى آخر يفصح قديت عن اطروحته لقضية البترول الموجود فى ارض النوير بأنه سيكون ضمن خططه لمحاربة حكومة الجنوب، وتكهن أن يكون هنالك صراع حول عائداته بعد الانفصال، لاسيما وأنه يستخرج من ارض النوير. مشيراً إلى انه يمكن ان يؤدى الى مشاكل قبلية خاصة وان 50% من عائداته تسيطر عليها حكومة الجنوب رغم انها ليست ملكاً لها، لأنها حق عام لذا – والحديث لقديت – سنأخذ نسبتنا منه سواء وافقت حكومة الجنوب أم لم توافق، وهى نسبة 20% باعتبار أن اى نفط يتم استخراجه من محافظات الجنوب يكون لديها فيه نسبة معلومة، والآن معظم البترول الذى يتم استخراجه فى الجنوب فى ولاية الوحدة لذا سيكون للنوير حصة مقدرة منه، ويؤكد قديت أنه يقوم حالياً بإعادة ترتيب وتنظيم لقواته وأن لديه جيشا جديدا بصدد ترتيب أوضاعه للقيام بعمليات واسعة تستهدف مدن ومواقع مهمة بالجنوب أولها مدينة جوبا، ولكن الانطلاق سيكون من ولاية الوحدة . ويقول قادة سياسيون وعسكريون جنوبيون إن القائد بيتر قديت يتميز بالصدق والشجاعة وانه مثّل إضافة حقيقية للجيش الشعبي إبان فترة الحرب، خاصةً في عهد الدكتور جون قرنق الذى كان يعتبره احدى الدعامات الرئيسية فى الجيش الشعبي. واستطاع بيتر قديت ان يظهر شجاعة كبيرة فى تلك العمليات العسكرية الأمر الذى منحه شعبية كبيرة بين مقاتلى النوير الاشداء الذين اشتهروا بالقتال الشرس. ويعتبر هؤلاء تقلباته المستمرة بين القوات المسلحة والجيش الشعبى طبيعية وانها نتاج للشخصية الصارمة التى ترفض الخضوع والنفاق، وان الحركة الشعبية خسرت كثيراً عندما فشلت فى احتوائه وتحييده بعيداً عن مكامن ضعفها. وهى تدرك مسبقاً بأنه لا يرضى بالظلم والتهميش لأنه قائد عسكرى خطير ولا يشق له غبار. ويرى مراقبون آخرون بأن انشقاق قديت وانسلاخه من الحركة الشعبية خطأ سياسى وقعت فيه الحركة بسذاجة، لأنه لا يمكن لسياسى عاقل ان يفرط فى ولاء شخص مثل قديت، فمجرد وجوده في الحركة الشعبية يحفظ توازن معادلة القبيلة والجيش فى الجنوب، خاصةً وان النوير يمثلون قوة كبيرة لا يستهان بها بجانب انهم يسيطرون على مناطق انتاج البترول فى ولاية الوحدة، لذلك فإن مجرد التفكير فى معاداته يعتبر مخاطرة سياسية وعسكرية غير محسوبة العواقب، وان قيادة الحركة الشعبية عندما هاجمته لم تفكر فى أنها تهورت، وهي الآن تدفع نتائج فعلتها . ويعتبر أكاديميون جنوبيون أن قديت شخصية عسكرية من الطراز الأول ويستطيع ان يغير مسار العمليات العسكرية فى أى حرب يخوضها، ويمثل مكسباً كبيراً للمنشقين الجنوبيين. وستكون له ادوار كبيرة فى مسرح العمليات فى الجنوب بعد الأنفصال، وغالباً ما سيقوم بإسناد ظهر د. رياك مشار إذا انشق من الحركة الشعبية أو أطاح به خصومه من مجموعة أولاد قرنق من المسرح السياسى بالجنوب، بعد الإطاحة بالفريق سلفا كير. وتنبأوا بأنه سيصبح رقماً خاصاً فى معادلة الحركات العسكرية المنشقة فى الجنوب، بالذات وأنه على وفاق كامل مع د. رياك مشار الذي يعتقد بأنه شخصية مثالية وقيادى متزن يحمل هموم كل المواطنين الجنوبيين . ولكن خصوم ومنتقدي قديت يرون انه لا يمثل تهديداً عسكرياً حقيقياً وحده لحكومة الجنوب، ولكن تحالفه مع المنشق الفريق جورج أطور وبقية المنشقين سيجعل موقفه خطيراً ويتهمون الخرطوم بأنها تمده سراً بالسلاح والمؤن. وينفي قديت مزاعم أعدائه ويقول بأنه لا يتلقى اى دعومات من أى جهة، وان سلاحهم يأتى فقط من الجيش الشعبى نفسه، حيث أنهم يستولون على كميات كبيرة منه عقب هروب افراد الجيش من الميدان ومطاردة فلولهم . ورغم اتفاق الجميع على مهارة قديت فى القتال فى الجنوب الا انهم واثقون من قدرته على اجتياح الجنوب بقواته إذا واتته الفرصة المناسبة، ولكن إلى حين حدوث ذلك يبقى بيتر قديت يشكل رُعْباً حقيقياً للجيش الشعبى الذى يدرك قدرات قديت العسكرية جيداً، ويعرف بسالة جيشه من النوير لا سيما بعد التاسع من يوليو الذي قد تبدأ بعده المعركة الحقيقية .