ونظر الغربيون وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى الدولة الوليدة كتجربة تعكس نجاح السياسات الغربية في حل النزاعات المزمنة والحروب الأهلية الطاحنة يمكن تقديمها كنموذج يحتذى به لبقية الدول التي تعيش حالات مماثلة. وتعددت أشكال الدعم التي انهالت على هذه الدولة الوليدة ولكن بعد مرور عام كانت الصورة صادمة للجميع كأنما كان الاستفتاء بمثابة عملية ولادة قيصرية نتج عنها وليد مُشوه لا يكاد يقوى على الاستمرار دون مساعدة ورعاية الآخرين. وأقر مؤخراً لوكا بيونق مسؤول ملف أبيي بحكومة جنوب السودان بأنهم قد تفاجأوا بالسرعة التي حدث بها الانفصال، وإذا كان من درس يتعلمه دعاة تفكيك الدول من تجربة دولة جنوب السودان خلال عام واحد فقط من عمرها، أنه ليس كل من يطالب ويتمسك بحق تقرير المصير يجب مجاراته في ذلك فالمقومات الضرورية لاستمرار ونجاح الدولة تبدأ من البنية التحتية والحد الأدنى من القدرة على توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية للمواطنين دون الاتكال على هبات الآخرين. فساد كبير وجاء الكشف عن اختلاسات ضخمة في الدولة لتعكس صورة أخرى من أزمات الشعب المنكوب في جنوب السودان حيث كشفت التقارير سرقة ونهب (4) مليار دولار، وأقر سلفاكير علناً بأن (75) مسؤولاً متورطون في العملية واكتفى فقط بمناشدتهم بإعادة الأموال المنهوبة. وشكل حجم الفساد المكتشف صدمة للمجتمع الدولي الذي سكب أموالاً طائلة في سبيل بناء مقومات الدولة الوليدة، إلا أن الفساد الذي أزكم الأنوف جعل حلفاء الحركة الشعبية المقربين يجأرون بالشكوى، جيرارد برونييه الخبير الفرنسي المختص بشؤون السودان والذي عمل مستشاراً لدى حكومة جنوب السودان عقب إعلان الدولة قبل أن يقدم استقالته وصف المسؤولين بها قائلاً: (هؤلاء بلهاء إنهم فاسدون حتى النخاع)، وكذلك أُجبر (تيد داقاني) خبير الشؤون الأفريقية لدى الكونغرس الأمريكي وأحد أخلص حلفاء الحركة الشعبية في واشنطن الذين عملوا من أجل انفصال جنوب السودان، أجبر على مغادرة أراضي دولة الجنوب حيث كان يعمل مستشاراً هو الآخر وأُتهم بتسريب اعتذار رئيس دولة جنوب السودان لأوباما عن دعمه لمتمردي السودان إلى وسائل الإعلام الأمريكية ويقال إن (داقاني) أبدى تذمره من استشراء الفساد. والفساد في دولة جنوب السودان حسب تصنيف منظمة الشفافية الدولية هو من نوع (الفساد الكبير) الذي يرتبط بكبار المسؤولين الذين يسخرِّون الأموال والقروض وموارد الدولة لمصالحهم الشخصية. وكشف مراسل صحيفة (التايمز) البريطانية قبل الانفصال بأشهر قليلة حيث كان الجنوب يتمتع بنظام إقليمي شبه مستقل عن المركز عن بيع 10% من الأراضي الخصبة لمستثمرين أجانب بأسعار رمزية وتقاضى مسؤولو الحركة الشعبية عمولات ورشي مقابل ذلك ولم تمض إلا بعضة أشهر قبيل إعلان دولة جنوب السودان في التاسع من يوليو في العام 2011م حتى كشفت هيئة معونة الشعوب النرويجية عن تأجير (2,6) مليون هكتار من أكثر القطاعات خصوبة ووصفت تلك الأرقام بأنها صادمة، ويكشف كل ذلك عن حجم الفساد الذي ينخر في جسد هذه الدولة حيث بُددت أموال المانحين التي خُصصت لعمليات الإعمار وإعادة الإنعاش الاقتصادي وطال الفساد أيضاً أموال تسريح وإعادة إدماج المقاتلين، كما أن الأسماء الوهمية أمر شائع بغرض الاستيلاء على المال العام ويقول أندرو ناتسيوس المبعوث الأمريكي الأسبق إلى السودان ساخراً "قوائم الرواتب تضم حتى أسماء الأبقار في جنوب السودان". كما يقول موظفون دوليون إن الفساد بات تجارة رابحة في الدولة الجديدة ويندرج في هذا الإطار إعلان مسؤول كبير بالدولة عن عزمهم إنشاء عاصمة جديدة (رامشيل) تبلغ تكلفتها حوالي (10) مليار دولار. مؤشرات سيئة وانعكس الفساد على تأسيس البنية التحتية وتوفير الخدمات العامة للسكان حيث تبلغ نسبة الأمية وسط السكان 80% كما أن معدلات وفيات الأمهات هي الأعلى في العالم وينتشر سوء التغذية الحاد وسط الأطفال والحوامل بمعدلات مخيفة وتحصر الأوبئة أرواح الآف الناس وتناولت وسائل الإعلام مؤخراً أخبار انتشار وباء (ايبولا) القاتل. وقالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بيان لها إن (البلد معرض للأمراض) وأن مجموعات كبيرة تعجز عن الحصول على الخدمات الصحية. وأشارت أرقام الأممالمتحدة إلى أن (4,7) ملايين نسمة أي نصف عدد السكان ليس لديهم ما يكفي من الطعام أو يتعرضون لأزمة غذاء حادة في دولة جنوب السودان وفي يوليو الماضي ذكرت منظمة (اوكسفام) البريطانية أن جنوب السودان يواجه أسوأ أزمة إنسانية منذ اتفاقية نيفاشا عام 2005 بسبب الانهيار الاقتصادي والصراعات المستمرة وقالت المنظمة أيضاً أن جهود الإغاثة الطارئة لما يقارب نصف عدد السكان قد تخرج من مسارها جراء خروج الاقتصاد عن دائرة السيطرة حيث وصلت معدلات التضخم 80% وفي الوقت الذي تحدث البنك عن ارتفاع أسعار الذرة البيضاء – الغذاء الرئيسي لغالبية السكان – إلى 220%. ورسم آلان بوسيل وهو صحفي أمريكي يراسل صحيفة (ماكلاتشي) الأمريكية صورة قاتمة للأوضاع في دولة جنوب السودان فالدولة الوليدة التي أغدقت عليها أموال المانحين وعائدات النفط التي بلغت قبل إغلاق الخط الناقل له عبر التصدير عبر السودان في 20 يناير الماضي حيث قال لوسيل إنه في هذه الدولة رغم مضي عام على إعلانها يوجد بها طريق أسفلت واحد وثلاث أرباع المواطنين أميون والفقر المدقع في كل مكان. وفي مايو الماضي أعد بوغوس غوكاسيان، مدير الأبحاث بمجلة (البيئة والتنمية) تقريراً مطولاً عن الأوضاع البيئية بدولة جنوب السودان واستغرق إعداد التقرير ستة أشهر واستطلع فيه آراء مسئولين حكوميين وموظفين دوليين ونشطاء سياسيون إلى جانب المواطنين العاديين، وجاء فيه ان دولة جنوب السودان (متهمة بأنها تنفق على قواتها العسكرية وليس على الاستثمار البشري وتشيع اتهامات واسعة النطاق بالفساد وسوء استغلال العائدات النفطية) ويكاد يتحول النفط إلى لعنة بدلاً من أن يكون نعمة على شعب الدولة. دولة فاشلة ما أن عاين الخبراء والمسئولين والسياسيين الدوليين بأم أعينهم الأوضاع على الأرض حتى قبل إعلان الدولة الجديدة حتى أطلقوا سيلاً من التصريحات المتشائمة عن مستقبل هذه الدولة ونقل موفد منظمة (مراسلون بلا حدود) إلى جوبا عن ديبلوماسي غربي هناك قوله إن الإقليم كان معرض لأن يتحول إلى دولة فاشلة حتى قبل ان تنشأ، وعلق أيضاً مواطن غربي يقيم بجوبا بالقول (أنه أسوأ مكان في الأرض)، بينما أطلقت مجلة (فورين بوليسي) الأمريكية على حلفاء وداعمي الدولة الجديدة داخل واشنطون (لوبي الدولة الفاشلة)، وقال موظف دولي آخر، (نشهد الآن ولادة أول دولة فاشلة في العالم)... وتعرَّف الأدبيات الدولة الفاشلة بأنها تلك التي تشهد نزاعات وحروب داخلها أو مع جيرانها ولا تستطيع حماية حدودها أو توفير الخدمات العامة لمواطنيها أو تنهار فيها القوات النظامية أو تبقى عاجزة كما يغيب فيها فرض القانون وتتواجد على أراضيها القوات الأجنبية، وينتشر فيها الفساد .. الخ وتكاد جميع مواصفات الدولة الفاشلة تنطبق على دولة جنوب السودان وأن الدول التي صنفت فاشلة أحسن حالاً منها بكثير. وحتى قبل الإعلان الرسمي للدولة الجديدة انتشر العنف والفوضى وذكرت (جولي بريتفليد) والتي عملت مستشارة لبناء السلام في الأشهر الأولى من إعلان الدولة أي العام 2009م شهد مقتل (2.500) شخص في ولاية جونقلي وحدها نتيجة للنزاعات القبلية حول الماشية والأراضي وأعقب إجراء الانتخابات العامة في أبريل 2010م موجة شديدة من الاقتتال أدت إلى كوارث إنسانية، حيث برزت (7) حركات مسلحة متمردة تحمل السلاح ضد حكومة جوبا حسب احصائيات مشروع (مسح الأسلحة الصغيرة)، تحولت ولايات واراب وأعالي النيل الكبرى وبحر الغزال والاستوائية والوحدة إلى ساحات حرب حقيقية مع الجيش الشعبي. وقال مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأممالمتحدة (أوتشا)إن الاقتتال بين النوير والمورلي بجونقلي في الفترة ما بين يناير و أكتوبر 2011م أسفر عن (ألفي) قتيل و (1300) نازح، ذلك عندما قاد (الجيش الأبيض) التابع لقبيلة (النوير) أواخر ديسمبر الماضي حملات تطهير عرقي منظمة عندما هاجم حوالي (8) آلاف مسلح قرى ومدن المورلي، ولم يستطع الجيش الشعبي وقف المجازر بسبب عجز حكومة جنوب السودان عن إحداث إصلاح أمني فعّال واتهم تقرير للأمم المتحدة في يوليو الماضي حكومة جنوب السودان بالفشل في وقف العنف أو التحقيق بشأنه مما أذكى دورة العنف، وقال الصحفي الأمريكي ألان بوسيل إن الجيش الشعبي الذي تدعمه الولاياتالمتحدة جزءاً من المشكلة هناك. الحرب بالوكالة وساور القلق المسئوليين الدوليين جراء نزعة التسلح المفرط لدى قادة جنوب السودان وحذر تقرير للبنك الدولي من (العسكرة المفرطة في الجنوب السوداني بميزانية تعد الأكبر في دول المنطقة وتتعدى 2.7 مليار دولار سنوياً) وكشفت الولاياتالمتحدةالأمريكية النقاب عن عقود مع شركتي أسلحة أمريكية لتحديث الجيش الشعبي وتحويله من مليشيا إلى قوات نظامية محترفة وظلت الولاياتالمتحدة تقدم إلى الجنوب مبلغ (500) مليون دولار سنوياً منذ العام 2005م بينما تقول نادية سعد الدين الباحثة الأردنية ان المعطيات تشير إلى أن جنوب السودان تلقى زهاء مليار دولار سنوياً من واشنطون بينما بلغت المساعدات الإسرائيلية للجيش الشعبي نحو (500) مليون دولار) وتقدر الأوساط أعداد الجيش الشعبي ب(200) ألف جندي، بينما يشير مشروع (مسح الأسلحة الصغيرة) إلى (140) ألف جندي، ورغم كل ذلك الدعم يبقى الجيش الشعبي يتصرف كمليشيا أكثر من كونه جيش دولة مسؤولة . واتهمت بعثة الأممالمتحدةبجنوب السودان مؤخراً الجيش الشعبي بالقيام بانتهاكات خطيرة في ولاية جونقلي وارتكاب أعمال تعذيب واغتصاب خلال حملة لنزع الأسلحة قام بها في الفترة ما بين 15 يوليو و 20 أغسطس الماضيين وان معظم الضحايا من النساء والأطفال وتأثرت حملات تحرير المواطنين من الأسلحة بكون الجيش الشعبي تعصف به التقاطعات القبلية وذكرت تقارير أن جنوده يتراخون ويخشون من أن يطالهم الثأر إن هم شاركوا في نزع أسلحة القبائل الأخرى، وقال موفد منظمة (مراسلون بلا حدود) أن غالبية من قابلهم لتقصي أوضاع الحريات الإعلامية، قد شكوا له من وحشية القوى الأمنية وقوات الجيش الشعبي حيث تمارس بحق الصحفيين الضرب والتوقيف التعسفي والترهيب والعنف. وغضت الولاياتالمتحدة الطرف عن عمليات تسلح دولة الجنوب رغم أن التنمية والخدمات العامة هي الأولوية ، وذلك لإستخدام جيش دولة الجنوب ليحارب بالوكالة عنها سواء ضد السودان أو اعداؤها في المنطقة وكان جون برندر غاست مؤسس منظمة (كفاية) واندرو ناتسيسوس المبعوث الأمريكي سابقاً قد دعيا بلدهما لتسليح الجيش الشعبي بمضادات الطائرات للتصدي لهجمات الجيش السودانى ولكن رغم كل هذه الأموال التي انفقت على الجيش الشعبي فأنها لم تسفر عن شيء. شفا الكارثة توصلت دولتا السودان وجنوب السودان في 5 أغسطس الماضي إلى اتفاق بينهما حول ملف النفط وجاءت الخطوة عقب اغلاق دولة جنوب السودان لخط الأنابيب في 20 يناير الماضي وخسرت بذلك (650) مليون دولار كانت تدخل خزينتها العامة شهرياً وتعتمد دولة جنوب السودان على النفط بنسبة 98% وأدى إغلاق النفط للتضخم الحاد ، وأزمات إنسانية وتدهور الأمن، وارتفاع أعداد الضحايا جراء ذلك. ووُصف قرارالإغلاق بأنه انتحار اقتصادي لدولة جنوب السودان كما وصف بالخطوة غير المبررة وتساءل أحد الدبلوماسيين البريطانيين (كيف تقدم دولة على ايقاف مصدر دخلها الوحيد وتطلب من الآخرين مساعدتها؟). وقضى اتفاق النفط الأخير بأن يكون رسم تصدير برميل النفط الجنوبي عبر الموانيء السودانية (25) دولارا و(80) سنتاً وتدفع دولة الجنوب مبلغ (3) مليارات دولار كتعويض للسودان على فقدانه عائدات النفط لمدة ثلاث سنوات وتشمل هذه التعرفة رسوم الترحيل وسعر الخام ورسوم عبور الأراضي السودانية ورسوم المعالجة المركزية. وكان إنتاج السودان من النفط قبل انفصال الجنوب حوالي (500) ألف برميل يومياً. ومارست الدول الغربية ضغوطاً مكثفة على دولة جنوب السودان للتوصل إلى اتفاق معقول حول النفط وكان مفاوضوها قدموا مقترحاً ب(1) دولار للبرميل الواحد وناشدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون حكومة جنوب السودان على الموافقة على مقترح الوساطة للخروج من هذا المأزق من أجل شعب جنوب السودان وتوقعت دوائر غربية حدوث كارثة في جنوب السودان ما لم يتم التوصل إلى الاتفاق حول النفط في ظل ارتفاع الأسعار وشبح المجاعة والنزاعات المسلحة وانعدام الخدمات العامة على خلاف التقديرات التي استندت عليها قيادات دولة جنوب السودان بتوقع حدوث انهيار للاقتصاد السوداني بخسارته لنفط الجنوب أولاً ثم عائدات تصديره تالياً وباتت دولة جنوب السودان على شفا كارثة حقيقية مما أثار حفيظة حلفاؤها. تعافي اقتصادي خطط مسؤولو دولة جنوب السودان لايجاد بدائل للخط الناقل إلى موانيء التصدير على البحر الأحمر والذي يبلغ طوله (1610) كيلومترا وجرى الحديث عن بناء خط يصل من حقل الإنتاج إلى مينائي (ممبسا ولاموا) في كينيا على المحيط الهادي ولكن بناء هذا الخط الفي كيلومتر يحتاج لثلاث سنوات على الأقل ويكلف حوالي (3) مليارات دولار وهو مبلغ لا يمكن توفيره من قبل حكومة الجنوب أو المانحين الدوليين في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي تعيشها، كما أن عقبات فنية تعوق إنجاز المشروع، أما الخط الناقل للتصدير عبر ميناء جيبوتي ماراً بالأراضي الأثيوبية (ألف كيلومتر) فيتهدد عامل الأمن سواءً في مناطق الإنتاج أو أراضي إقليم قمبيلا خاصة الذي تقطنه قبائل (الأنواك) ويشهد اضطرابات وأحداث عنف منذ عدة أعوام فدولة جنوب السودان سواء صدرت نفطها عبر السودان أو كينيا أو جيبوتي يتحتم عليها في الحالتين دفع رسوم التصدير.