تزامنت القرارات الجذرية التي اتبعها سلفاكير ميارديت رئيس دولة جنوب السودان ، والتي أحال بموجبها عدد من الوزراء وقيادات الحركة الشعبية إلى المحاكمة ، وأيضاً إقالة نائبه مشار، وحاكم ولاية الوحدة تعبان دينق بجانب حل الحكومة، وتشكيل لجنة للتحقيق مع باقان أموم، أمين عام الحركة الشعبية، وإعلان التشيكلة الحكومة الجديدة ، تزامنت مع مناسبة مرور عامين على إعلان دولة جنوب السودان ، ومع أن تلك الخطوات جاءت مفاجئة لدى البعض ، إلا أنها كانت متوقعة من قبل العديد من المراقبين، بعد أن بلغت مؤخراً وتيرة الصراع السياسي على السلطة بين النخبة بالدولة الوليدة مراحل خطيرة ، مما حدا بحلفاء ها إلى توجيههم انتقادات عنيفة لانتهاكات حقوق الإنسان والممارسات التي ترتكبها عناصر الجيش الشعبي بحق المدنيين، خاصة في ولاية جونقلي ،التي تشهد لفترات طويلة موجات من العنف والصراعات القاتلة التي تشنها مليشيا تسمى (الجيش الابيض) المكونة من قبائل (اللاونوير) ضد عرقية (المورلي)، كما أن الجيش الشعبي الذي نفذ حملات لجمع الأسلحة من أيدي المواطنين وتورط خلالها في ممارسات خطيرة بحسب مسؤولين في الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة. خرق الاتفاقات ويرى مراقبون أن التوتر في العلاقات مع السودان قد لعب دوراً في دفع سلفاكير لاتخاذ تلك الإجراءات الجريئة في حق بعض المسؤولين في حكومته ، وأخيراً حل الحكومة وإعلان تشكيل حكومة جديدة. ويجأر المسؤولين بالسودان بالشكوى من عدم التزام دولة جنوب السودان بالتفاهمات والاتفاقيات الموقعة بينهما والتي من شأنها تطبيقها أن تمهد السبيل لإقامة علاقات تقوم على التبادل والاعتماد المتبادل.. وآخر تلك الاتفاقيات (اتفاقية التعاون المشترك) والتي وقعت بين الطرفين في 27 سبتمبر الماضي ، وتضمنت حزمة قضايا (تسع اتفاقيات) عالجت الحدود والأمن و التجارة والنفط والحريات الأربع والديون...الخ، ولكن ونتيجة لعدم التزام دولة جنوب السودان بتطبيق ما يليها من تلك الاتفاقيات ، رغماً عن التوقيع -لاحقاً- على مصفوفة وضعت جداول زمنية لتطبيق تلك الاتفاقيات ، واضطر السودان إلى الإعلان على نيته وقف تصدير نفط جنوب السودان الذي يمر عبر أراضيه إذا ما أستمرت دولة جنوب السودان فى دعم وإيواء الحركات المتمردة وعد الجدية فى التطبيق الشامل للإتفاقيات دفعة واحدة . و كانت دولة جنوب السودان قد أعلنت – من جانب واحد – وقف ضخ النفط عبر السودان في يناير 2012م. عقلية الغاب خيبت النخبة السياسية بدولة جنوب السودان الآمال التي علقت عليها عقب انفصال الجنوب وقيام دولته المستقلة في التاسع من يوليو 2011م ، وبدل أن تركز تلك النخبة على إدارة الدولة ، وفق منطق جديد ، بالتحول من عقلية رجل الغابة إلى عقلية رجل الدولة ، وأن تضع مصالح شعب الجنوب في سلم أولوياتها ، اتجهت بدلاً عن ذلك إلى سياسة التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة ، وبالتورط في دعم المتمردين على السودان في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان ، وأدت تلك التدخلات السالبة من قبل الجنوب إلى تدهور في العلاقات مع السودان ، حيث يتمسك الأخير بضرورة وفاء "جوبا" بالتزاماتها من أجل إقامة علاقات طبيعية تخدم مصالح الشعبين ، وذلك بتطبيق ما تبقى من بنود اتفاقية السلام الشامل ، خاصة تلك البنود التي تعالج وضع المقاتلين السابقين في الجيش الشعبي من الفرقتين التاسعة والعاشرة، وإكمال ترسيم الحدود الذي بلغ التنفيذ فيه قبيل الانفصال نسبة 80% ، وحل قضية أبيي وفق برتكول أبيي ، وحكم محكمة التحكيم الدولية بلاهاي فى العام 2009م، فضلاً عن التفاهمات والترتيبات ذات الصلة المتعلقة بالقضايا السياسية والأمنية. ويرى مراقبون أن مرد تدهور العلاقات بين السودان وجنوب السودان ، على الرغم رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الآلية الأفريقية رفيعة المستو برئاسة ثامبو امبيكي، والتي تتولى الوساطة بين الطرفين ، هو الدور السلبي الذي يلعبه بعض النافذين داخل حكومة وجيش جنوب السودان ، ممن لهم صلات بدوائر ومجموعات ضغط معادية للسودان، خاصة في الولاياتالمتحدةالأمريكية ، وتتقاطع مصالح هذين الطرفين في ضرورة الإبقاء على السودان في حالة من عدم الاستقرار السياسي ، وجعل دولة الجنوب قاعدة انطلاق نحو تهديد أمن واستقراره. دوائر خارجية يبدو أن سلفاكير قد تشكلت لديه قناعة ، مفادها أن تجربة العامين الماضيين من حكم الحركة الشعبية ووصمة الفشل التي ارتبطت بها ، من الصعب الاستمرار في تبني نفس السياسات العقيمة ، خاصة تجاه السودان ، وأن اختطاف ورهْن مصالح شعب الجنوب بنزوات فئة من السياسيين والعسكريين الذين لديهم ارتباطات بدوائر خارجية لا تهمها مصالح الشعب الجنوبي ، بقدر ما يهمها تحقيق أجندتها انطلاقاً من تحالفات إقليمية ودولية ، وأن الفوائد التي تعود على جنوب السودان حكومة وشعباً من إقامة علاقات متميزة مع السودان، أكبر من فوائد العلاقات مع أي طرف آخر ، كما أن الفئة القليلة من المتنفيذين داخل أضابير دولة جنوب السودان لا تهدد مصالح دولة جنوب السودان ، وأمنها القومي في الحاضر فحسب ، وإنما في المستقبل أيضاً، إذ تفيد المتابعات أن مسؤولين نافذين في دولة جنوب السودان، استمروا في تقديم أشكال الدعم لمتمردي ما تسمى بالجبهة الثورية في السودان ،حتى بعد أن قام السودان بتمليك المسؤولين في دولة جنوب السودان ، وعلى رأسهم سلفاكير كافة الوثائق التي تثبت أن مصدر الدعم الرئيسي لهؤلاء المتمردين يأتي من داخل جنوب السودان. الفرصة الأخيرة ويرى مراقبون أن تشكيل حكومة جديدة في جنوب السودان، والتي أعلن عنها سلفاكير الأسبوع الماضي بعد إقالة الحكومة السابقة وتكليف وكلاء الوزارات بتسييرها فى السابع والعشرين من الشهر الماضى،تعدُ الفرصة الأخيرة لتصحيح الأوضاع وإعادة ترتيب الأولويات وتقويم السياسات ، وتقدير المصالح بما يخدم مصلحة شعب الجنوب بالدرجة الأولى. وتكونت الحكومة الجديدة من 17 عشرة وزيراً, وشملت توسيعاً للمشاركة فى الحكم بإدخال كيانات سياسية عير الحركة الشعبية التى أحتكرت السلطة بعد إعلان الدولة الوليدة ، وتعتبر الحكومة الجديدة ، الأوسع تمثيلاً لتوسيع قاعدة الحكم والمشاركة ، وتأتي في طليعة أولويات تلك الحكومة التصدي للأزمة الاقتصادية الطاحنة ، والتي يمكن أن تتفاقم إذا ما أقدم السودان على تنفيذ تهديده بوقف تصدير نفط جنوب السودان بحلول السابع من الشهر الجاري، إذا لم توقف الأخيرة دعم وإيواء المتمردين عليه، وارتفعت الاصوات المحذرة من خطورة الأوضاع الاقتصادية السائدة في جنوب السودان ، والذي يعتمد في موازنته العامة على النفط بنسبة 98% ، وأشارت تقارير متعددة وجود مؤشرات على انعدام الأمن الغذائي لحوالي 4 ملايين مواطن ، مع العلم أن نصف عدد السكان البالغ 12 مليون نسمة يقعون تحت خط الفقر. ويرى بعض الوزراء المشاركين في حكومة جنوب السودان الجديدة أن مطالب السودان عادلة في ضرورة فك الارتباط والوقف الفوري لدعم وإيواء الحركات المتمردة وذلك لأجل إقامة علاقات تخدم المصالح الحقيقية لشعبي البلدين. ولا توجد بدائل اقتصادية أخرى في حالة وقف تصدير النفط عبر السودان ، وقال سلفاكير في الذكرى الثانية لإعلان الدولة الجديدة (إن بلاده لا تملك خيارات بديلة في حال إصرار الخرطوم على المضي قدماً في تطبيق قرارها بمنع مرور صادرات النفط بعد انتهاء المدة التي حددتها في وقت سابق). الأمن أولاً وأكد السودان أن موقفه الثابت، هو إقامة علاقات حسن جوار مع دولة جنوب السودان تقوم المصالح والمنافع المتبادلة ، و توقع د. نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية أن يتجه مسؤولو دولة جنوب السودان بعد إعلان الحكومة الجديدة إلى قطع علاقاتها مع المتمردين وقف أشكال الدعم والإيواء إليهم. من جانبه قال الدكتور مصطفى عثمان وزير مجلس الاستثمار ، أنه ليس من مصلحة السودان تدهور الأوضاع في جنوب السودان ،أو حدوث حالة من عدم الاستقرار فيه. وربما يدفع ثبات موقف السودان وعدم تزحزحه انطلاقاً من مبدأ (الأمن مقابل النفط)، حكومة الجنوب الجديدة إلى الرضوخ للضغوط الداخلية والخارجية ، والتي تطالبها بمراعاة مشاغل السودان وهواجس أمنه القومي ، حتى يتم ضمان استئناف ضخ النفط عبر أراضيه لوقف المصاعب الاقتصادية التي يعانيها الجنوب والتي ستزداد بالوقف الكامل لتصدير النفط. كما أن بعض الأصوات الشعبية داخل دولة جنوب السودان بدأت في الازدياد مطالبة بمعالجة ملف النفط مع السودان، باعتباره السبيل الوحيد لتحسين أوضاعهم وستمارس ضغوطاً كثيفة على سلفاكير، وأشار استطلاع للرأي أجري في يوليو الماضي من قبل المعهد الجمهوري الدولي ، أن 82% من السكان قد تأثروا بقرار حكومتهم وقف تصدير النفط عبر الأراضي السودانية في يناير 2012م ، وأن 90% يرون أن استئناف تصدير النفط سيحسن أوضاعهم. محاولات العرقلة ولكن بحسب المتابعين ، من المتوقع أن تحاول التيارات التي تم اقصاؤها عبر قرارات سلفاكير الأخيرة عرقلة أي تقدم قد يطرأ على العلاقات مع السودان، من منطلق أن المستفيد الأكبر من تلك العلاقات – حتى قبل قرارات سلفاكير الأخيرة – هو السودان ، والذي سيضمن القضاء على مصادر تهديد أمنه القومي التى تنطلق من جنوب السودان، كما أن فوائد وعائدات رسوم تصدير النفط ستساهم في التقليل من الآثار المترتبة على فقدانها ، وإن كان السودان قد شرع فعلاً في تدبير بدائل اقتصادية اثبتت جدواها الاقتصادية خلال العامين الماضيين، فضلاً عن أن نفط الجنوب لم يضمن في الميزانية الحالية من الأساس، كما يرى الفريق السياسي الذي أطاح به سلفاكير مؤخراً وحلفاؤهم بالخارج ، أن إقامة علاقات طبيعية مع السودان سيساعد سلفاكير في تقوية موقفه ، لا سيما في الانتخابات العامة المزمع اجراؤها في 2014، كما تمكنه أيضاً من إحكام سيطرته على مخرجات المؤتمر التأسيسي للحركة الشعبية (أو مجلس التحرير القومي)، وبالتالي العمل على إضعاف هذا الفريق وفرض العزلة السياسية عليه، لا سيما وأن الرهان على الضغوط الخارجية الأمريكية والأوربية تحديداً ليس في محله ، لجهة أن تلك الدول تريد منع الأمور من الانزلاق في مزيد من التدهور في الدولة الوليدة وليس من يحكم. ودفعت السياسات العدائية التي تبناها مسؤولو جنوب السودان تجاه السودان طوال عامين بالأخيرة إلى حافة الهاوية ، وإذا لم تتحل حكومة جوبا الجديدة بالمسؤولية ، وتعمل على تنفيذ كافة الاتفاقيات مع السودان حزمة واحدة ، وضمان انسياب النفط فإن دولة جنوب السودان ستكون على شفا الانهيار في ظل المشكلات والمصاعب المتراكمة في داخلها.