ذكرنا في الحلقتين السابقتين في تحليلنا للوضع في مصر، أن هنالك قوى كثيرة داخلية وإقليمية تتصارع على أرض مصر. وذكرنا أن ناتج هذا الصراع هو الذي يحدد وجهة مصر. وعددنا من تلك القوى في الداخل، الأخوان والجيش المصري وبقايا الدولة العميقة والليبراليون واليساريون والعلمانيون وشباب الثورة. ومن العوامل الخارجية المؤثرة، الولاياتالمتحدة وإسرائيل ودول الممانعة (السعودية، الإمارات، البحرين، الكوريت، الأردن). وذكرنا أنه قد حدث تحالف بين كل القوى ضد الأخوان، وكان نتاج ذلك الإنقلاب الذي أطاح بالأخوان. وتناولنا بالتحليل معم تلك القوى، وحددنا أحجامها ومقدرتها وقوتها في التأثير على الوضع في مصر. لم يبق لنا من تلك القوى إلا الولاياتالمتحدة، والتي سوف نبدأ بها هذا المقال. القوة الدولية والمؤثرة في العامل المصري هي الولاياتالمتحدة ومن خلفها الدول الغربية. والولاياتالمتحدة كانت مترددة في البداية لدعمها لثورات الربيع العربي. وذلك لأنها أصبحت متجاذبة بين موقفين أولاهما أن معظم الأنظمة التي في منطقة الشرق الأوسط هي من صنع الولاياتالمتحدة. أما الثاني فإن قوى الثورة تدعو لإقامة أنظمة ديمقراطية وهي القيم التي تدعو لها الولاياتالمتحدة. ولكن بعد أن إستبان نجاح الثورات لم يكن أمام الولاياتالمتحدة من خيار سوى الإنحياز للثورات ولو مرحلياً. يحكم الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط نجاح المشروع الصهيوأمريكي والمتمثل في أرض الواقع في دولة إسرئيل، والذى يعمل هذا المشروع بصورة دائمة لتأمين إسرائيل. وكانت غايته كل المشاريع الإقليمية في الشرق الأوسط سواءاً أن كان في الشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الكبير، وغايته تأمين دولة إسرائيل. ما يميز سياسة الولاياتالمتحدة في منطقة الشرق الأوسط أن هدفها واحد وهو تأمين اسرائيل، ولكن الوسائل متغيرة وهي تتغير بتغير المعطيات. فكانت وسيلة ذلك فيما قبل الثورات العربية هي الأنظمة العربية الحاكمة. وبعد ثورات الربيع العربي تحاول الولاياتالمتحدة تجيير أنظمة مابعد الثورات العربية لهذا الغرض. أضف إلى ذلك أن الإدارة الأمريكية هي المعبِّر الرسمي عن الموقف الأمريكي. ولكنها ليست حرة في إتخاذ الموقف الذى تراه. وذلك لأن هناك قوى في داخل الولاياتالمتحدة، قد تختلف في رؤاها مع رؤية الإدارة الأمريكية وبما تملكه هذه القوى من أدوات تأثير تستخدمها بأن تكون رؤى الإدارة الأمريكية وفق رؤاها. وبما أن القوى كثيرة في داخل الولاياتالمتحدة فإن الإدارة الأمريكية تحاول أن تتخذ موقفاً يحاول إرضاء معظم القوى المؤثرة. هناك قوى في داخل الولاياتالمتحدة مواقفها ثابتة تجاه ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، وهي مع إسرائيل حتى النهاية على حساب أية قوى وقيم، وهي ضد الإسلام مهما كان شكله معتدلاً أو متطرفاً. وهذه من القوى المؤثرة جداً على الإدارة الأمريكية. هناك قوى في داخل الولاياتالمتحدة مع القيم الأمريكية ومنها الديمقراطية وحقوق الإنسان وهي كذلك قوى مؤثرة. ومع وجود هذه القوى ومع طريقة الولاياتالمتحدة في التعامل مع الواقع، كانت الإدارة الأمريكية تعتقد أنها يمكن أن تتعامل مع الإخوان ليس حباً في الإخوان، ولكن لإقتناعها بأنهم على الأقل الآن هم القوى الشعبية الرئيسية في المشهد السياسي المصري، ولكن إلى الآن الولاياتالمتحدة لم تحسم أمرها إلى أي فريق تنحاز. لذلك ظهر هذا لكافة القوى التي لا تفهم طبيعة عمل الولاياتالمتحدة وإدارتها للصراعات، بأن موقفها متردد ومتلبس. لذلك كانت السفارة الأمريكية في القاهرة مكاناً للعداء من قوى الإنقلاب ومن قوى الشرعية. الولاياتالمتحدة لم تصف الذي جرى في مصر إلى الآن أنه إنقلاب، ولكن أدان الرئيس ووزير الخارجية والناطق الرسمي أعمال العنف بقوة، وطالبوا بإطلاق سراح المتعقلين وعلى رأسهم الرئيس المصري، كما طالبوا بضرورة الحل السياسي. وفي نفس الوقت أوقفت الولاياتالمتحدة مناورات (النجم الساطع) التي كان مزمعاً إقامتها مع الجيش المصري، واوقف تسليم طائرات أمريكية إلى مصر، ولكنها إلى الآن لم توقف المساعدات للجيش المصري. نستطيع أن نقول أن الولاياتالمتحدة هي جزء من المشهد السياسي المصري اليومي، وتتابع الأحداث صغيرها وكبيرها، وتخطط وتنسق وفق تلك المعطيات. بهذا نكون قد حددنا القوى المؤثرة في الشأن المصري، وتفاعل تلك القوى هو الذي يحدد ما يمكن أن يحدث في مصر في المستقبل بأزمنته المختلفة. بالإضافة إلى معرفة الفاعلين لابد من معرفة المتغيرات والفاهيم التي تحدد قبول وأشكال الأنظمة منها: أولاً: قد ولت فكرة حكومة الرجل القوي، أو نظام الحكم القادر على الحفاظ على النظام. كما أن الشعوب تفتحت كثيراً لسهولة الإتصال وإانتقال الثقافات والمفاهيم، وأصبح الناس العاديين يريدون المشاركة في صياغة بلدانهم، فأصبح الخيار المتاح إما التطور أو الثورة. ثانياً: أصبحت الإنقلابات العسكرية غير مقبولة، وبالتالي فإستمرار أي إنقلاب في الحكم بات مشكوكاً فيه. على الرغم من أن المصالح هي التي تتحكم في العلاقات بين الدول، إلا أن الدول وعلى الرغم من تحقيق مصالحها مع أنظمة عسكرية إلا أنها تجد صعوبة بالغة في تبرير هذا العمل. ثالثاً: أصبحت حقوق الإنسان من القيم العالمية التي لا يمكن لأي نظام أن يتجاوزها في العلاقات بين الدول. لذلك ما إستطاع فعله جمال عبد الناصر بالإخوان في عام 1954م لن يستطيع فعله السيسي في عام 2013م. رابعاً: كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 تمريناً مهماً للمصريين لكسر حاجز الخوف، والذي كان السلاح الفعال للأجهزة الأمنية القمعية، وخاصة نظام مبارك. لذلك لن يستطيع السيسي ولا غيره أن يقهر الشعب المصري أو يخيفه. فإن ذلك لن يدوم طويلاً. خامساً: هنالك قبول متزايد لحقيقة أخرى مفادها أن الحريات الدينية تشكل جزءً ضرورياً في المجتمعات الحرة والمفتوحة. وعليه أصبح هناك قبول بوصول الأخوان تحديداً للسلطة بإعتبارهم الجناح الإسلامي المعتدل، ولأنهم قبلوا بالديمقراطية كوسيلة للتداول السلمي للسلطة. ولذلك لم تعد فزاعة (الأخوان) أو الإسلام السياسي لها رواج في سوق السياسة الدولي. وعليه ومما سبق يمكن أن نستخلص الآتي: أولاً: إن تحالف الجيش والفلول وبعض شباب الثورة لن يصمد طويلاً، لأنه لم يقم على فكرة أو مصلحة، إنما قام على (كره الأخوان)، وبالتالي لن يصمد طويلاً، وقد بدأ في التفكك فإستقال البردعي وإستقال خالد داوود، وأصبح إنتقاد حركة 6 أبريل للإنقلاب وقادته واضحاً. وذلك لأن شباب الثورة خدع في البداية، فظهر له واضحاً أن ما ثاروا عليه في 25 يناير قد عاد تقريباً، فكل رموز عهد مبارك الآن جزء من النظام، وأطلق سراح مبارك، وأبعد الثوار الحقيقيين من الواجهة وحل محلهم رموز عهد مبارك. ولذلك سوف يعود شباب الثورة إلى موقعهم في الشارع، وبالتالي لن يستمر الإنقلاب طويلاً. ثانياً: إن القوى الإقليمية وخاصة دول الممانعة (السعودية، الكويت، الإمارات، البحرين، الأردن) دعمها مهما كان فهو محدود. إضافة إلى أن إنحياز هذه الدول للإنقلاب له تأثير سالب على ثوار 25 يناير، خاصة وأن هذه الدول كانت ضد ثوار 25 يناير. مما يعني تأييدهم للإنقلاب يعني عودة مبارك. ثالثاً: إسرائيل من مصلحتها دعم الإنقلاب، وهي سوف تعمل على ذلك بكل ما أوتيت من قوة، وسوف تعمل على تسويق الإنقلاب لدى الولاياتالمتحدة والدول الغربية. ولكن دعم إسرائيل في أحسن الأحوال لا يتعدى النصح من الداخل والتسويق لدى الخارج. وإذا قامت بفعل فسوف يكون الذي يحقق مصلحة إسرائيل مباشرة، وخاصة التعامل العسكرى المباشر مع المسلحين في سيناء. وسوف تدعم كذلك النظام بالمعلومات الإستخبارية. ولكن دعم اسرإئيل سوف يكون له تأثير سالب خاصة على غالبية الشعب المصرى، ودليل ذلك أن سفارة اسرإئيل كانت هدفاً لثورة 25 يناير. ولذلك فإن الدعم الاسرإئيلي خاصةً إذا كان ظاهراً سوف يكون من العوامل التي تعجل بنهاية الانقلاب. رابعاً: الولاياتالمتحدة كقوة رئيسية يهمها ما يجرى في مصر، وكما ذكرنا فموقفها متغير مع المعطيات على ارض الواقع. فعلى الأقل هي إلى الآن لم تعلن تأييدها للإنقلاب وليس لديها مانع بقبول الأخوان حكاماً لمصر، وهذا يتوقف على نجاح الأخوان في إدارتهم للصراع. وأخيراً يبقى الأخوان القوى الرئيسية الفعالة في مصر، وسلوكهم في الفترة القادمة هو الذى سوف يحدد طول عمر الإنقلاب من قصره. فإذا استطاعوا أن يستمروا في التظاهر محافظين على سلمية التظاهر، وعلى إستعداد لتقديم المزيد من الشهداء، وذلك لأن ثمن الحرية غالٍ. هذا إضافة إلى الصبر على الأذى الإعلامي من إعلام الإنقلاب، وإعلام الدول العربية التي تدعم الإنقلاب. فإذا نجحوا في هذا الثالوث: 1. إستمرار التظاهر وتعبأة الشارع. 2. تقديم مزيد من الشهداء والصبر على أذى الإعلام. 3. المحافظة على سلمية التظاهر. فإن فعلوا ذلك فأنهم بلا شك سيكسبون الجولة، وسوف ينحاز لهم غالبية الشعب المصرى، ويملأ معهم الشوارع، حينها لن يصمد الإنقلاب طويلاً.