الوضع في السودان بعد التوصل إلي اتفاق السلام الذي وضع حدا لعقود من الحروب والاقتتال في الجنوب.. وأسرار وخفايا المفاوضات الشاقة التي جرت مع الجنوبيين قبل التوقيع علي الاتفاق في5 يونيو الجاري, كانت بين أمور أخري أهم ما تناوله الحوار الذي أجراه الأهرام مع السيد علي عثمان طه نائب الرئيس السوداني والذي يوصف بأنه مهندس السلام بين الشمال والجنوب.. وخلال الحوار كشف طه عن تقديمه لاستقالته إلي الرئيس السوداني عمر البشير فرفضها وكلفه بأن يتولي مسئولية النائب الثاني للرئيس بعد أن يحتل الدكتور جون جارانج رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان موقعه الحالي كنائب أول للرئيس بموجب اتفاقية السلام التي سيتم التوقيع عليها بشكل نهائي في احتفال ضخم بالعاصمة الكينية نيروبي خلال أغسطس المقبل وتحدث علي عثمان طه عن موقف المعارضة من الاتفاق ودورها في المرحلة المقبلة, ونوه بالدور المصري في صنع السلام وكشف عن برامج اقتصادية طموح لتعمير الجنوب بالاشتراك مع المؤسسات الدولية والدول المانحة لإصلاح ما أفسدته سنوات الحرب. وحول ملامح المرحلة المقبلة قال طه لالأهرام انه سيلتقي مرة أخري يوم الثلاثاء22 يونيو بالدكتور جون جارانج لبحث الترتيبات الأمنية بهدف: تحويل وقف اطلاق النار- الذي تم الاتفاق عليه وتنفيذه في أكتوبر قبل الماضي2002- إلي وقف دائم وتنفيذ ما جاء بالاتفاق بشأن حجم وتسليح وأوضاع الوحدات العسكرية, إذ سيوجد12 ألف جندي من جيش الحركة الشعبية في الشمال.. و12 ألف جندي من جيش الحكومة في الجنوب.. وسيجري تشكيل وحدات مشتركة من الطرفين بقيادة مشتركة بمعني أنه إذا كان القائد جنوبيا فإن نائبه يكون شماليا, والعكس صحيح.. ومن ثم فإن هذه المباحثات الأمنية ستحدد تفصيلا نوعية التسليح وأماكن وجود هذه الوحدات وكذلك أين سيكون جيش الحركة وحجمه ومدي تسليحه.. وأضاف أنه من المتوقع أن تستغرق هذه الأمور الأمنية نحو أسبوعين خاصة أن اللجان الفنية والعسكرية تباشرها الآن.. ثم بعد ذلك تبدأ مباحثات سياسية لوضع تفصيلات الاتفاق للمناصب وتوزيعها في الحكومة المركزية وفي البرلمان المؤقت.. وسيستغرق هذا ما بين أسبوعين وثلاثة أسابيع.. وأوضح أنه مع الأسبوع الأول من أغسطس سيكون الطرفان قد اتفقا تماما علي التفصيلات والترتيبات الأمنية والسياسية, وستوضع في صورة ملاحق تستكمل الاتفاق الذي جري توقيعه في5 يونيو والذي سيكون كل طرف قد ناقشه وصدق عليه من مؤسساته السياسية.. وعلي ذلك سيقام حفل كبير في نيروبي, خلال شهر أغسطس, للتوقيع النهائي علي الاتفاق بحضور الرئيس السوداني, والرئيس الكيني, كما سيدعي له عدد من كبار المسئولين- ربما بينهم رؤساء- من دول الايجاد ودول الجوار.. ومن الدول المعنية والمهتمة.. وبدءا من سبتمبر ستبدأ مرحلة تمهيدية- وليست هي الفترة الانتقالية- إذ سيصدر الرئيس عمر البشير- تنفيذا لاتفاق السلام- عددا من القرارات المهمة- بل التاريخية- منها تعيين الدكتور جون جارانج نائبا أول لرئيس الجمهورية والسيد علي عثمان محمد طه نائبا ثانيا.. ثم بعد ذلك قبول استقالة الوزراء وتشكيل حكومة جديدة تكون قومية وتضم وزراء من القوي السياسية من مناطق السودان المختلفة- الجنوب وغيره- وفي نفس الوقت سيشكل جارانج حكومة الجنوب التي سيرأسها بنفسه وإن كان- هكذا علمنا- سيعين نائبا له إذ أن مقر اقامته سيكون في العاصمة الخرطوم, كما سيعين نائبا عسكريا له باعتباره قائد جيش الجنوب.. وعما اذا كان معني ذلك أن جارانج سيكون رئيسا لحكومة الجنوب وقائدا لجيشه دون مشاركة من أحد, وفي نفس الوقت سيكون نائبا أول لرئيس الجمهورية بسلطات واسعة.. وإذا ما سافر الرئيس أو.. غاب لسبب ما, فهل ستتركز كل السلطات في يد جارانج بما في ذلك قيادة الجيش كله, قال طه: تم الاتفاق علي التوازن ومن ذلك فإنه في حالة غياب رئيس الجمهورية- أو المرض أو العجز أو الوفاة- فإن سلطات الرئيس العسكرية- باعتباره قائدا أعلي تكون للنائب الثاني وهو من الشمال. * اجراءات الفترة التمهيدية وقال طه: أن الفترة التمهيدية, بعد الاتفاق النهائي, فإنها ستستمر ستة أشهر خلالها يصدر الرئيس قرارات بحل البرلمان الحالي- المجلس الوطني- وتعيين مجلس مؤقت, بالتشاور مع كل القوي والأحزاب, ووقف العمل بالدستور الحالي الصادر عام1998 وتشكيل لجنة لوضع دستور مؤقت( أو.. اعلان دستوري) وتشكيل المحكمة الدستورية.. وغير هذا من الاجراءات لكي تكون كلها منفذة في نهاية الأشهر الستة لتنتهي الفترة التمهيدية- فبراير2005- ولكي تبدأ الفترة الانتقالية التي وردت في اتفاق السلام. ووصف هذه الفترة بالغة الأهمية إذ أنه في منتصفها ستجري انتخابات نيابية شاملة علي جميع المستويات بمشاركة القوي والأحزاب السياسية الحالية- أو المستجدة- لتشكيل البرلمان وبالتالي الحكومة.. أما الرئيس فسيبقي كما هو- طبقا للاتفاق- كما أنه في نهاية هذه الفترة سيجري استفتاء أبناء الجنوب لتقرير مصيرهم.. فهل يريدون الانفصال واقامة دولة مستقلة أم يريدون الوحدة؟! إن هذا هو السؤال العويص!! الوحدة وما المطلوب لها؟ وعما قاله سودانيون شماليون شهدوا جانبا من المفاوضات وخفايا دهاليزها في نيفاشا أنهم كانوا يتشككون في نوايا جارانج ورفاقه لكنهم صاروا واثقين من رغبتهم في وحدة السودان قال النائب الأول, الذي سيصبح ثانيا: إننا جميعا حريصون علي الوحدة, وعلي الاستفادة من دروس وعبر التجارب الماضية, فلا ينتكس السلام.. ولا تتدهور الأمور,.. لأن هذه هي الفرصة الأخيرة أمامنا وعلينا التمسك بها والاحتشاد لنجاحها.. ولهذا ندعو كل القوي والأحزاب السياسية لكي تكون- كعادة السودانيين- علي مستوي الحدث.. والحق أنني لمست مشاعر طيبة من السيد محمد عثمان الميرغني عندما التقيت به وأبلغني أنه سيعود إلي الخرطوم بعد انهاء بعض الترتيبات.. كذلك لمست- وزملائي- مشاعر ايجابية من مختلف السياسيين.. والحزبيين والذين عبروا عن تأييدهم لاتفاق السلام. * الدور المصري وعن تصوره للدور المصري في المرحلة الراهنة قال طه لمندوبة الأهرام إن الدورالمصري تجاه السودان قديم, لكنه يأخذ بعدا خاصا في مرحلة ما بعد السلام, وهذه الخصوصية تتجلي في تأمين وحدة السودان, والتي تحتاج إلي قرب من مشاعر المواطن العادي, بحيث تتعزز عنده الثقة في مستقبل الوحدة, وأفضل من يقوم بهذه المهمة إلي جانب السودانيين هم إخواننا في مصر, لوجود التقارب النفسي والاجتماعي, الذي يمكن لهم قبولا واسعا في الجنوب. وأضاف أن الدور المصري لم يغب يوما عن السودان, وإن لم يكن حاضرا حول مائدة المفاوضات, إلا أنه كان شريكا للسودان في التحرك السياسي والدبلوماسي, وكان أحد أهم العوامل التي أثرت علي الموقف الأمريكي وجعلته يقبل بالوحدة الطوعية في السودان. وعن تقييمه لزيارته للقاهرة؟ قال: كانت ناجحة بكل المقاييس, وقد أكد لقائي بالرئيس مبارك علي أن مصر شريك أساسي مع السودان في تحقيق السلام, وأن التكامل بين البلدين الذي كان تعبيرا عاطفيا في السابق أصبح الآن التزامات قاطعة وواجبات محددة لتكامل الأدوار للحفاظ علي الأمن القومي للبلدين ولتأمين وحدة واستقرار السودان, وقد اتفقنا علي تدعيم هذا التكامل في جميع المجالات. * المخاوف طبيعية وعن تقييمه للقاءات مع قوي التجمع المعارض بالقاهرة وهل توصل معهم إلي اتفاقات محددة حول مشاركتهم في السلطة أوضح طه أن اللقاءات التي أجراها مع المجموعة المفوضة من التجمع ومع السيد محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع المعارض اتسمت بروح إيجابية, ولقد لمست منهم تأييدا للاتفاق وحرصا علي لعب دور, لم يتم تناوله بالتفصيل, لأن هذا لقاء أولي استكشافي, لكن مؤكد أن الطريق سيشهد مستقبلا خطوات للوصول إلي صيغة لتكييف مشاركة تلك القوي في المرحلة المقبلة, خاصة أن هذا موضع للنقاش بين الحكومة والحركة, وأوضح انه سيتم الاتفاق عبر الحوار مع القوي التي لم تشارك في المفاوضات علي آليات للمشاركة في السلطة التنفيذية من خلال المنابر السياسية واللجان القومية التي تم الاتفاق علي انشائها لمراجعة الدستور وغيرها من المفوضيات التي سيتم انشاؤها وفقا للاتفاق. ولكن ليس من الممكن أن تشارك جميعها في الجهاز التنفيذي. وردا علي سؤال عن وجود من يتخوفون من اتفاق السلام, حيث تنظر قطاعات واسعة في داخل القوي السياسية بالشمال والجنوب إليه بارتياب, قال: التخوف من الاتفاق شيء طبيعي, لأنه حالة انتقال من الحرب والقطيعة والخصومة إلي حالة من الود والسلام والتعاون, وهي حالة لا يعبرها كل الناس نفسيا في الوقت ذاته, وهو أمر مفهوم ومبرر من الجانبين, خاصة أن المشكلة تكمن في عدم الثقة وسوء ظن, ولكنني أعتقد أن تلك المجموعات بمرور الزمن وبنجاح تنفيذ الاتفاق ستتبخر شكوكها, ولا أظن أن ذلك سيستغرق وقتا طويلا, وأنا علي يقين بأن دائرة الاتفاق حول مشروع السلام ستتسع يوما, وسيحدث التراضي, وحول ملاحظة عدم وجود ابتهاج شعبي بالاتفاق, حيث كان رد الفعل أقرب إلي الوجوم قال طه: يعود عدم الانفعال إلي طول مدة المفاوضات, وربما لأن الناس لم تر بعد نتائج الاتفاق الايجابية, وأنه علي يقين أن ذلك لا يعني أي نوع من الرفض أو التحفظ الشعبي, بل كان التأييد الشعبي واضحا جدا, من القوي السياسية خلال اجتماعها مع الرئيس عمر البشير بعد يومين من توقيع الاتفاق, وأيضا من خلال مواقف قطاعات المجتمع المدني والاتحادات والنقابات والتشكيلات الاجتماعية والقبلية وقطاعات المرأة والطلاب والشباب, وقد أيدت جميعها الاتفاق, حتي قوي المعارضة أيدت الاتفاق, وإنه متأكد أن الاتفاق سيكتسب مزيدا من قوة الدفع باتضاح الصورة مستقبلا. * أيام المفاوضات وعن كيفية مواجهة أيام المفاوضات الصعبة وسط ضغوط مكثفة قال طه: قضيت9 أشهر في المفاوضات.. واستغرقت الجولة الأخيرة وحدها101 يوم, ومن طبيعة المفاوضات أن يكون هناك شد وجذب ولحظات تفاؤل وأمل ولحظات إحباط.. وبين المحطتين كانت الأطراف التي تراقب العملية وتدعمها تتحرك بين الأطراف لمنع حدوث أي انهيار, لكن أحب أن أقول إنه ليس هناك ضغوط بمعني فرض مواقف لم يقتنع الأطراف بها. وأضاف: حتي الحادثة الوحيدة التي استشهد الناس بها, وهي الموقف الأمريكي الذي قدم حلا لقضية منطقة أبيي بعد أن تعذر اتفاق الطرفين حولها كان مبنيا علي عناصر توفيقية بين موقفي الطرفين, لذا وجد كل طرف في المقترح الأمريكي فرصة لقراءة مقترحاته وتصوراته, وتم استكمال ذلك بالتفاوض حتي اكتمل الاتفاق حول أبيي. وأكد طه أنه لم تكن هناك ضغوط بمعني الإملاء, لأننا علي اقتناع بأن ما يتم فرضه بدون اقتناع لا يكتب له النجاح, وهذا يفسر الوقت الطويل الذي استغرقته المفاوضات, والأخذ والرد والنقاش داخل القاعات وخارجها, حتي أمكن الوصول للاتفاقيات. وردا علي سؤال عن لقائه الأول مع جارانج.. وكيف كان لقاؤه الأخير معه.. وكيف تطورت العلاقة بينهما قال: حدث بين اللقاء الأول واللقاء الأخير مع جارانج رحلة شخصية واسعة بالنسبة لكلينا, وقد حدث كثير من التداخلات والمداخلات, التي عززت الثقة والطمأنينة بيننا, ومن الملاحظ أن فترة المفاوضات قد اتسمت بشيء من البعد الشخصي, حيث حضر المفاوضات زوجة جارانج وأولاده, وجزء أيضا من أفراد أسرتي, وهو ما يعكس حرص الجانبين ويعطي إشارة بأن القضية ليست مناورة سياسية, ولكنها مسئولية, يضع فيها كل منا كل ثقله الشخصي والرسمي لدفع المفاوضات نحو بلوغ غايتها من النجاح. * شخصية جارانج وعن شخصية الدكتور جون جارانج قال طه: إنه وجده محاورا جيدا, أحيانا كان يتمسك بالمواقف بتشدد, ولكنه لمس فيه حرصا علي الوصول لاتفاق, وهذا ما تحقق, وحرصا علي انجاح هذا الاتفاق, بمعني أن يؤدي للحفاظ علي وحدة السودان في النهاية, وهو شخصية يمكن التعامل معها, لأنه يقبل الحوار المنطقي والموضوعي, ويمكن أن يستمع لرأيك بصراحة ووضوح, ويرد عليك بذات الصراحة والوضوح, وهي صفات ترشح لأن يكون هناك أساس لإدارة المرحلة الانتقالية بشكل موضوعي, لأنه لا أحد يضمن عدم وجود أو ظهور تباين في الآراء ووجهات النظر أو وقوع اختلافات في المواقف, لكن المطلوب هو توافر إرادة سياسية وأدوات للحوار وقبول للحجة والمنطق تعين في النهاية علي حل القضايا. وعن رؤيته لقضية الوحدة التي جعلها الاتفاق محل اختبار, وهل مازال هناك أمل في أن تتحقق هذه الوحدة, قال طه: تحتاج الوحدة الي جهد كبير والي حشد للطاقات, والي الصبر, وحسن ظن مشترك بين أبناء السودان وتجاوز لمرارات الماضي, وحضور إقليمي عربي وإفريقي داعم قوي ومؤثر, وسند دولي. وعما إذا كانت هناك خطط فعلية للتنمية التي تأملون فيها لجعل الوحدة خيارا جاذبا قال طه: هذا ما سيتم الدخول في مناقشته في مرحلة مابعد توقيع الاتفاق الشامل, وسيكون لحكومة الجنوب برامج تقوم بها ومشروعات, وكذلك الحكومة المركزية سيكون لها مجال للقيام ببعض المشروعات الاتحادية, وسيكون هناك تنسيق بين الحكومتين ليتم تسويقها لمؤتمر المانحين القادم أو بعد ذلك, عبر الاتصالات التي ستجري بين الحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب والمؤسسات والدول المانحة أو مؤسسات الاستثمار التي يمكن أن تساهم معنا في التمويل وتشترك معنا في عوائد الربح. وعما إذا كان راضيا عن الاتفاقيات التي توصلت اليها وهل كانت الحل الأمثل أم تشوبها الكثير من النواقص علي حد قول البعض فقال: المؤكد أننا لم ننته الي الحق المطلق, ولكن بلا شك أننا انتهينا الي واقع متقدم يوفر لأول مرة فرصة حقيقية لندخل في تجربة من الممكن أن تفضي بنا الي استقرار أفضل يؤدي الي تأمين وحدة السودان, فالبلد كان ممزقا بالفعل. نقلاً عن الأهرام المصرية