أسماء محمد جمعة الحاجة آمنة التي تعاني من أمراض مزمنة وكانت تتعالج عند طبيب مشهور ساعدها كثيرًا في الحفاظ على صحتها ولم يترك الأمراض تنال منها وكانت مقتنعة به لدرجة أنها أصبحت تعتقد فيه وتؤمن بأنه زول بركة، ثم مات هذا الطبيب وفجعت به الحاجة مثلما فجع به الكثيرون ولكنهم صبروا حين علموا أن الطبيب المشهور لم يذهب ببركاته كلها بل ورّثها لعدد من تلاميذه الذين مضوا في طريقه، واستمرت عيادته وشغلت مكانه بجدارة طبيبة شابة ماهرة عرفها المرضى نائبة له ثم تخصصت على يديه مثل الكثيرين، كانت دائماً حين يغيب (الكبير) تشغل مكانه ولكنها لم تكمل العام و هاجرت إلى السعودية، وجاء بعدها زميلها هو أيضًا كان تلميذًا لنفس الطبيب الكبير وكان ممتازاً وأدى دور أستاذه بكفاءة واقتدار ولكنه هو الآخر هاجر إلى السعودية، وحين جاء موعد مقابلة الحاجة آمنة الشهري علمت بالخبر وسألت عن من يسد مكانه فقيل لها لم يأتِ بعد، يومها فقط شعرت أن طبيبها الكبير قد مات وبكت عليه في تلك الليلة وقررت هي الأخرى اللحاق بأطبائها الشباب وقبلت لأول مرة دعوة ابنها إلى الإقامة في السعودية وكانت ترفضها منذ عشرين عامًا.قصة أخرى في إحدى الجامعات العريقة، أرادت شابة أن تواصل دراستها العليا لنيل درجة الدكتوراه في تخصص مهم، وبعدما تم توزيعها على بروف مشهور لتعمل تحت إشرافه تفأجت بعد خمسة أشهر يخبرها بأنه سيهاجر إلى السعودية بعد أيام وعليها أن تبحث عن مشرف آخر، وبالفعل تم تحويلها إلى مشرف آخر ليخبرها هو أيضًا قبل أن تنهي دراستها بأن عليها أن تتعجل لأنه سيهاجر إلى جامعة خليجية بعد أشهر وسيرسل لها عقد لأن تخصصها مهم هناك وسيحتاجها.وعدد من الأساتذة الجامعيين جاءتهم فرص للعمل في السعودية والخليج لتتوالى الأخبار هذه الأيام عن هجرة السودانيين من الكوادر المؤهلة، بعضهم كانوا من الذين أعادتهم الحكومة من الاغتراب للعمل بالسودان؛ ولكن يبدو أن الحال لم يعجبهم وأحسوا بالغربة في وطنهم. والغريبة الهجرة أغلبها كوادر طبية وأساتذة جامعات وكوادر مؤهلة في التخصصات الحيوية التي تحتاجها التنمية، بعض منهم تعلم زمن السودان بخير وعلم الناس مجانًا، أما الشباب منهم فذاق ويلات التعليم ومرارته وتعلموا ولكن بشق الأنفس واليوم بدأوا يبحثون عن طعم لهذا التعليم في الغربة؛ ولكن النتيجة أنهم جميعًا تركوا ورائهم فراغاً لابد من أنه سينعكس على مستوى الخدمات تعليمية كانت أو صحية وعلى مشوار التنمية الأعرج وعلى شبابنا في المستقبل. ولكن الأمر يقودنا إلى أن نلوم حكومتنا كالعادة ونسأل إلى متى يظل السودانيون يهربون من أجل أن يتذوقوا طعم تعليمهم و يصبحوا يومًا فاعلين مع أن المجتمع هنا يحتاجهم بشدة ويعتمد عليهم؛ الكل يبحث عن طريق للهروب من السودان ولكل شخص هرب قصة أعجب من الآخر تدفعه إلى أن يهرب أكثر فأكثر. قبل عشرات الأعوام فتحت ليبيا أبوابها مشرعة أمام السودانيين، ففر إليها المتعلم والجاهل وتغرب فيها الكثيرون، وغربة ليبيا ليس مثلها غربة فقلما يوجد أحد كوّن ثروة أو انتفع منها، صحيح أنها في ذاك الوقت شجعت حركة التجارة ولكن ذلك لم يظهر على الناس لأسباب أنها كانت ليبيا القذافي، فهو لم يرحم أهلها فكيف يرحم من جاءوا إليها، تلك الغربة أثرّت على الكثير من الأسر التي فقدت عائلها دون فائدة تذكر وحين كثر رحيل السودانيين إلى ليبيا خاصة من كردفان ودارفور بحكم الجيرة كرهت النساء ليبيا، فظهرت في مطلع الثمانينيات أغنية الجراري الشهيرة ليبيا إن شاء الله تعقري وتعدمي الشيك الخدري يا الشلت رجال الحزري من غنيان لفقري، كما أن الحكومات السودانية أهملت السودانيين في ليبيا وكم ذاقوا من العذاب وويلات الابتزاز والظلم في ليبيا، وحتى قبيل سقوط قذافي كان الحديث يدور عن مئات السودانيين في السجون الليبية أغلبهم مظلومين ولكن الله فك أسرهم دون وساطة. انجبر الكثيرون على البقاء في ليبيا ليس حبًا فيها ولكن سلواهم ظلم الغريب ولا ظلم القريب. ثم جاءت الهجرة إلى الخليج والسعودية ودول البترول، وبالرغم من المغتربين إليها تحسنت أوضاعهم الاقتصادية الفردية إلا أن الأمر كانت له انعكاسات وبسبب تلك الهجرة تغيرت الكثير من عادات السودانيين الاجتماعية في مجتمع يتردى اقتصاده يومًا بعد يوم، فأصبح مجتمعاً فقيراً ومادياً وهو يعيش اليوم هذه التناقضات بصورة واضحة، وبسبب سياسات الدولة أيضًا لم يستفد السودان من دول الخليج ولكن أصبح الشعب السوداني مولع بالاغتراب ويقدس المغتربين. والحقيقة تقول إن الكثير من السودانيين فعلاً يعيشون على الاغتراب وكثيرون يحلمون به وليس هناك أحد لم يفكر في الاغتراب وكل يحلم باليوم الذي يخرج فيه من السودان إلى أية جهة تتسهل له وبأية حجة حتى ولو لجوء سياسي الذي أصبح السودانيون من أكثر طالبيه. ودول الاغتراب نفسها تفضل السوداني؛ لأنه شاطر وأمين ومجتهد وأمير وابن ناس ورغم هذا (جدعته) حكومته، وفي اللوتري يفضل الأمريكان القادمين من دول مثل السودان؛ لأن تركيبته البشرية تمنح الإنسان ميزات التطور السريع والمواكبة ومن ثم لا تعاني الدولة كثيرًا في تأهيله. ويبدو أن هذه الأيام قد ضاقت أرض السودان بأهله أكثر من ما مضى وبدأ الكل يبحث عن طريقة للهروب، والكثيرون نجحوا فعلاً في ذلك، فهناك يجدون التقدير والرواتب المجزية فيحققون أحلامهم في الحياة بكرامة ومن يرى ويسمع لابد من أن يحاول السفر مهما كان الثمن؛ ولكن الكثيرين أيضًا في السودان يفقدون حياتهم ومستقبلهم بسبب هذا الرحيل الجماعي؛ لأن الشعب يفقد كفاءات كثيرة هو بحاجة لها خاصة في مجال الطب والتعليم، فأمر الهجرة هذه الأيام سيؤذي السودان كثيرًا في عافيته الجسدية والعقلية، واليوم هناك الكثير من القصص المحزنة التي خلّفتها هجرة الكفاءات السودانية.. فهل ما زالت الحكومة السودانية تقف في نفس النقطة التي وجدتها وورثتها قبل عشرين عامًا من الحكومات التي قبلها، وهو أمر ليس صعباً، فهذا السودان بلد يمكن أن تتحقق فيه كل الطموحات بسهولة جدًا، يعيبه فقط السياسات، فالأموال فيه مهدرة جدًا والفساد ينهش فيه نهشًا والحروبات غير الضرورية تأخذ أغلب موارده، والدعم العسكري يحجب رؤية الدولة عن ضروريات كثيرة، ونحن نقول لحكومتنا كفى تفكيرًا بالعقلية العسكرية فتلك لا تعطي الشعب فرصة التقدم والتطور وهذه الأيام أيام ربيع، حاولوا أن تفتحوا له الأبواب ليدخل علينا بهدوء، فالشعب لا يهمه من يحكم بل كيف يحكم وهو لا تعجبه حياة الحروبات والتهديد والوعيد والقلق المستمر بل يرغب في حياة هادئة فيها العمل والكفاح الجميل والعائد المجزي و الإبداع والتطور والإحساس بالذات والكرامة والحرية، حياة تمنحه أن يفك (صرة) وجهه ويبتسم للحياة وتمسح عنه الألم والعذاب ويحتويه وطن يقدر الهوية والانتماء؛ وذاك لا يكلف حكومتنا غير أن تروق وتهدأ وتقول للشعب هيا بنا معًا ضد الفساد وإهدار المال ومعًا من أجل تحقيق السلام ووقف الحروب ومعًا من أجل الديمقراطية والعدالة والمساواة والرفاهية، فتلك حقوق إن لم توفرها الدولة وتعمل من أجلها لن تحلم بحكم مستقر ودولة ناجحة تقارع العالم. إلى متى ستظل مواسم الهجرة من السودان مفتوحة على مصارعها يفقد الوطن كفاءاته ويتأثر بها أجيال قادمة تبحث اليوم عن العلم وإلى متى يظل مشوار التنمية عاجزاً عن ضم هذه الكفاءات إلى ركبه ليتحرك بفاعلية ونتذوق طعم العلم، متى يحتوي هذا السودان أبناءه دون أن يفكروا في الهروب من أجل الحياة ويمنحهم إياها في أرضه. السبت 28 يناير 2012م - الموافق 5 ربيع اول 1933ه - التيار العدد 840