عبدالرحمن الأمين ذكرنا في الحلقة السابقة ما كان من أمر النشاط السياسي للشريف زين العابدين، أما غريمه السيد/ محمد عثمان الميرغني، فكان ذا نشاط وحراك سياسي لا بأس به، ولكن في إطار محدود، ومحكوم بآراء حلفائه بالتجمع الوطني الديمقراطي، وقد كانت له جريدة، وهي "الاتحادي" التي كان يرأس تحريرها الأستاذ إبراهيم عبد القيوم، وهو مايوي معروف، أما هيئة تحريرها فتألفت من كتَّاب وصحافيين معظمهم غير اتحاديين، لذلك افتقرت لغة جريدتهم إلى أية مفردات أو عبارات اتحادية، فكنا حين نطالعها نشم فيها نفس الشيوعيين وبقايا المايويين وآخرين هلاميين لا لون ولا طعم لهم، ولم يكن لهم في ذلك الأمر ناقة ولا جمل، إنما كانوا موظفين ليس إلا. وقد كانت لجماعة الميرغني دار لحزبهم يجتمعون فيها ويقيمون فيها الندوات السياسية، فيتوهمون أنهم يرعبون نظام الإنقاذ، ويصدق عليهم المثل: نَبْحُ الكلاب لا يضُرّ بالسحاب. أما نحن فكنا قلة، بل دون العشرة، يجمعنا مجلس الشريف صباح مساء، وتشد من أزرنا آمال لتحقيق أشياء. ومرت سنين وما أنجزنا أي شيء، بل ظللنا فقراء حتى أننا لم يكن باستطاعتنا استئجار دار لتنظيمنا أو إصدار نشرة دورية أو مساعدة شقيق لنا في أمر طارئ. ولم يتوفر لنا ثمن طباعة مُسَّوَدَة واحدة لكتاب بقيت عندنا مدة طويلة بدون طباعة، وهذه قصتها: المسودة عند الكتَّاب والطبَّاعين، هي ما يُكتب ابتداءً بقصد المراجعة والطباعة، وهي في هذا الصدد، سيرة ذاتية كتبتها أنا عن الشريف حسين الهندي، وقد صرفت همي إلى تأليفها سنة كاملة، وتتطلب منى العمل فيها عناء متواصلاً وتجلداً وتؤدة إلى حد بعيد، ثم إنني جئت بها مصر بغية طباعتها ونشرها للقراء، ولم يكن عندي مال أدفعه لطابع وناشر فيطبعها وينشرها لي، وكانت تلك مشكلة عويصة أشكلت علىَّ، ثم إنني عرضتُ أمري للشريف، فاهتم به، ولمَّا كان مؤتمر الإسكندرية، تحدثَ عن تلك المُسَّوَدة، وأشاد بالطاقة التي أفرغتها أنا في تأليفها، وأشار إلى ضرورة طباعتها، لكن ذلك استحال علينا إذ كنا في حالة مضحكة من العوز، حتى أننا لم نستطع الإيفاء إلا بكلفة حاجياتنا الضرورية. وإن الفقر مسألة غير محمودة في مثل تلك الأحوال. أما بعض الاتحاديين الموسرين الذين كانوا يأتون القاهرة من وقت لآخر، فقد تعاملوا مع مسودة الكتاب بسلبية، وكان باستطاعتهم المساهمة في طباعتها بفضلة ينفقونها من فلوسهم ببنك مصر والبنك الأهلي السوداني. ولما أسدل الزمان الستار على تلك المدة التي قضيناها في مصر، لم تزل المُسَّوَدَة حبيسة دولابي، ولم تخرج من صورتها إلى شكل كتاب بعد. من سجايا الشريف وخُلْقِه: لقد كان الشريف، كما عرفته عن قرب، إنسانا لطيفاً، رقيق المعاني، وكيِّساً، وفطناً، ورفيع الذوق. إذا قابلته أسرَّك بتبسمه في وجهك، وإذا كالمته سحرك بجزالة ألفاظه وحسن بيانه، وإن أكلت معه تشبع نفسياً وعملياً، وإذا قرأ كتاباً أنت قرأته، يتباحث معك في مغزاه، فتتفجر في دواخلك ينابيعُ معرفة جديدة كانت غائبة عنك. وقد كان زاهداً في ملبسه، فيقنع بما يستره من جلباب وعمامة من قماش عادي. وكان قليل الطعام، يأكل وجبة واحدة في اليوم، لا هي فطور ولا هي غداء، وكان يسميها "الفطور الغدائي"، وهي وجبة متواضعة، تتركب من فول مصري مطبوخ بالبصل والطماطم وبيض مسلوق. وكان الشريف يُكثر من شرب الشاي الأحمر، وكنت أسيراً لعادة الشاي مثله، فكنت حين آتيه في الصباح، يقول لي: "سأعمل الجولة الأولى من الشاي، وأنت تعمل الجولة الثانية". ثم إننا نطالع الجرائد، ونتناقش في شؤون مختلفة، فيتجلَّى الشريف بآرائه في غاية من الصراحة والوضوح. ذكر لي عدة مرات "إنه أوسطي واشتراكي وطوطمي، وإنه يناصر على بن أبي طالب في صراعه مع معاوية، ولكن علياً ما فهم اللعبة السياسية، حيث أن معاوية حاربه بالمال". وما أن يرتفع النهار حتى يعمر مجلسنا بأشقاءٍ موالين لنا، أو زائرين لنا لأول مرة، أو آخرين نعرفهم من قبل؛ فيهم الشيوعي والاتحادي والمنتمي لحزب الأمة، وفيهم النبيل والأفَّاق والأديب والشاعر والحالم بدنيا جميلة. وكان كل واحد منهم معجباً بالشريف لتبسطه وكونه متاحاً للكافة. وكنا نجئ بالحديث يمنة ويسرة، فنتجادل في كل شي يخطر ببالنا، ما من شخصين فينا يتفقان على رأي واحد. وكان الشريف بخبرته الطويلة في الحديث، يُقرِّب بين الآراء المختلفة، فيختم حديثه بكلمات تسر الجميع لرقتها وحسن وقعها في نفوسهم، فكان حين يتكلم، ينظر في وجوهنا ويبتسم ابتسامة ممزوجة بحزم، ويدخن تدخينة طويلة من سيجارته، فتطير منها شرارة، فتقع على جلبابه فتثقبه، فلا يهتم له. وكنت أستغرب من صبره على استقبال أولئك البشر كل يوم، ومناجاته لهم، ومقارعته لهم الحُجَة بالحُجة. ومع طول عشرتي له، تعلمتُ منه آداب الحديث، وفن المناقشة، وضبط النفس، وطول البال، والصبر على تحمل الحياة بالمنفى، لكنه عذبنا بزهده وفقره. ولقد جلب عليه بقاؤه في مصر الإملاق، وعلى أية حال، كان يملك قوت يومه بالحد الأدنى، أما نحن، فعاوننا أخوانٌ وأصحابُ لنا يعملون في دول الخليج العربي وأمريكا وأوروبا وآخرون يهبطون أرض مصر صيفاً، وكذلك أعانتنا مفوضية الأممالمتحدة بما يكفينا من أكل ومسكن ومداواة كغيرنا من اللاجئين السياسيين، الذين كان فيهم التجاني الطيب وعلى أبو سن. كانت مسألة المعيشة بمصر أزمة أقلقت الشريف وأحرجته إذ هو زعيم سياسي كبير يرجو منه أعوانه وغيرهم حلولاً مستمرة لمشاكلهم الحياتية، وكانت بالنسبة له شأن خاص وآخر عام، فمن ناحية كانت متعلقة بتدبير فلوس لأسرته الموجودين معه في القاهرة، وكان الشريف في مثل تلك الأحوال يبذل جهداً في محيط بني عشيرته، ويقنع بما تيسر له وللآخرين معه. ومن ناحية أخرى، أوجبت عليه البحث عن مصدر دخل كبير لدعم النشاط السياسي ومواجهة الطوارئ. وكان الشريف في بداية تلك الفترة يتفكّر معنا في كيفية وضع حل لتلك المسألة، ثم إنه في السنين الأخيرة من غربتنا تلك، نصح لنا بمغادرة مصر أي أن بلاد الله واسعة فيها متسع ومرتزق، وقد أراد لنا الخلاص مما نحن فيه شفقة علينا من طول الفاقة، ليبقي هو وحده هناك يتحمل ضربات الدهر مع أسرته التي لو لا وجودها في مصر لما بقي هو بها خلال تلك المدة يوماً واحداً. كان كأسد سجين في قفص، ينهض فجأة، فيتمطى، فيهرول داخل محبسه، ثم يزأر. أسلوب فكره: الفكر هو تردد الخاطر بالتأمل والتدبر بطلب المعاني، يقال: "لي في الأمر فكر" أي نظر وروية. وأسلوب الفكر هو منهجه وطريقته. وبالطبع، فإن لكل إنسان أسلوباً يُفكِّر به لتدبير شؤونه الخاصة والعامة، ويكون واقعاً تحت تأثير نوع الحياة التي يعيشها، فأسلوب إنسان البادية في معالجة القضايا يختلف عن أسلوب إنسان الحضر أو أسلوب الفقيه المنقطع للعبادة أو السياسي أو مدير إدارة في وزارة أو شركة كبرى. أما الشريف الذي عاش فترة من صباه في الريف وأخرى في الخرطوم، والذي كان ابن أسرة متديّنة وأديباً واسع المعرفة وسياسياً حلب أشطر الدهر، فقد كان أسلوب فكره غير واضح لنا، بل لم نستطع استشفاف ما كان يفكِّر فيه. وما سبق للشريف أن استشار أحداً في شأن قط، فهو قطعاً كان يخطط لأشياء معيَّنة يعلمها هو، لكننا لم ندر ولا مرة واحدة ما كان يتردد في خاطره، ولا يدّعي مخلوق أياً كان أنه فهم مرة ما كان يفكِّر فيه الشريف، لا أنا ولا بكري النعيم ولا سلاَّم عباس ولا محمد الخير الحسن ولا أحمد إبراهيم ولا مجاهد عبد الله ولا عبد الحليم شقدي ولا حتى إسماعيل طه ولا أي شخص آخر. ثمة شخص واحد كان يفهم ما كان يفكر فيه الشريف، أتدرى من هو، عزيزي القارئ؟ هو صورة الشريف في المرآة. شاعريته ومؤلفاته: اكتسب الشريف زين العابدين شاعريته من عوامل عديدة، منها وراثي، حيث كان أبوه الشريف يوسف الهندي ينظم شعر المديح، وكان جده الشريف محمد الأمين يؤلف منظومات شعرية في رسم القرآن وضبطه وتجويده وإتقان قراءاته السبع، ومنها استعداده النفسي وحصيلته الثقافية المشبَّعة بالأدب الشعبي والسياسة وجغرافية البلد ومخالطة الناس في الريف والحضر، أضف إلى ذلك أنه كان دودة كتب، قلّما تجد يده خالية من كتاب أو صحيفة. وكنت أعتقد أنه شاعر يكتب الشعر الغنائي، بيد أنه ما أسمعني أبياتاً من شعره في ما مضى من وقت قضيته معه بالقاهرة، لعله كأحد عليَّة القوم، كان لا يريد أن يبدو لي شاعراً يكتب في عاطفة الحب والغزل، فيصغر شأنه في عيني. وهل كان يا تُرى ينسب قصائده لشاعر آخر ينشرها باسمه بدلاً منه؟ وكما يعلم الجميع، ظهرت للشريف في أواخر سبعينيات القرن الماضي، قصيدة طويلة من تأليفه تُسمى أوبريت، وموضوعها موحّد، هو الحماسة للوطن. أما اللفظة أوبريت، فعجمية الأصل، وتعني رواية تمثيلية غنائية. وقد لقيت تلك القصيدة قبولاً حسناً عند كثير من الناس، وخصوصاً بعدما طُبعت للمرة الثانية بمصر حيث صاغ الشريف بعض ألفاظٍ فيها وعبارات بطريقة تختلف عن الأولي. وهي قصيدة تمتاز بأنها مظهر لبلاغة مؤلفها التي سكبها مداداً فغمس فيه ريشة خياله، فرسم لنا صورة شعرية ذات تشبيهات واستعارات وكنايات جاءت عفو القريحة "أي من غير قصد وتكلُّف فيها وغلو في طلبها"، وقد كتب لها الشريف ديباجة مشرَّبة بالأدب والحماسة، وهي كما يلي: (هذه أوبريت سودانية، أنشودة الهجرة والاغتراب، أغنية حب وتصدٍ وعرفان، فداءً للذين خرجوا من أوطانهم، فالتصقت بأرواحهم ووجدانهم، وظلت تتفتح صوراً يعيشونها بأعماقهم، ترطب لهم هجير الغربة، وتحدو لهم ركب العودة الحثيث. إنها ليست من تأليف أحد، إنما هي مشاعر قوم وموال أمة، إنها ليست غناءً، إنما هي عزف هادئ رزين على أوتار الحقيقة، إنها ليست ذكريات، إنما هي دفق حي لواقع ملموس معاش مستمر، إنها ليست رثاءً، إنما هي ملحمة الحماس اللاهب لانطلاق الشباب المغذي بحكمة الشيوخ، إنها عروة وثقي تشد أهلها برباط محكم متين، فلا يسقطون في المحن، وإنما يحطمونها، ولا يتراجعون للعقبات، وإنما يتجاوزونها، ولا يضعفون للصعاب، وإنما يطوعونها. إنهم جيل ضُرب له موعد ثانٍ مع القدر، وتعين له لقاء جديد مع التاريخ والحرية. إنهم جيل البطولات، وجيل التضحيات، وجيل الفداء. إنها من تأليفهم جميعاً، بعزف موقع من سيمفونية الخلود، مع أوركسترا الحق والصدق في مهرجان الشروق الجديد). وهذا الأوبريت، مظهر آخر لعبقرية قلم سجَّل مواقف بطولية من حياة أمة نفخر بها جيلاً بعد جيل، وقد استهله الشريف بأبيات مؤثرة في النفس: مساهر ليلك الطول نجوم وهجوع وغرقان قمره في جو السحاب مصروع بصارع فيك ضلام تمن سنين وأسبوع وأراقب فجرك الأذن زمانه سطوع لقد كان الشريف من المقلين في قرض الشعر، وما عرفنا له قصيدة نُشرت باسمه غير ذلك "الأوبريت" الذي كان سبب شهرته كشاعر. واعتقد أن مجده الحقيقي في الشعر وليس السياسة، فلو سعى له وتفرغ له كلية لحققه بجدارة. وألَّف الشريف كتاباً سماه "آخر الكلم"، ضمّنَه رؤاه السياسية حول شؤون مختلفة، وهو جدير بالقراءة، لكن مؤلفه كتبه بأسلوب أوغل المعاني في وحل رمزية معقَّدة، وقد كان عليه أن يتبسط في أسلوبه لتتسع دائرة قرائه، كما أن الكتاب احتاج إلى مراجعة من اتحاديين أقحاح مثل: مضوي الترابي وطه حسن طه وسلام عباس، قبل إعطاء الضوء الأخضر لطباعته. وكنت قد أشرت على الشريف بخصوص ذلك الأمر أيام كان يكتب "آخر الكلم" في صالونه بعلو بيته بالقاهرة، بل شدَّدْتُ على ضرورة إخراج الكتاب إلى القُراء بشكل منهجي سليم، لأنه سيكون جزءاً من أدبيات الحزب، لكن أفراداً من الاتحاديين الذين حلوا بمصر في ذلك الصيف من سنة 1994، أخذوا مُسَّوَدة الكتاب التي كانت حينئذٍ أوراقاً مبعثرة أمام الشريف، فأسرعوا بها إلى إحدى المطابع، وما هي إلا مدة قصيرة حتى رأينا "آخر الكلم" بالمكتبات في وسط القاهرة، وعند الباعة الباسطين الكُتب جوار ملتقى شارع طلعت حرب بشارع يوليو. ولقد جذب "آخر الكلم" اهتمام بعض السياسيين الذين كانوا يحضرون مجلس الشريف من وقت لآخر، فيتحاورون معه في السياسة والثقافة، فيطيل مضيِّفهم الجلوس على كرسيه أمامهم طول اليوم، فلا يكل ولا يمل. وفي مرات قليلة كنت أخرج معه إلى وسط البلد بالترام الذي كان وسيلة مواصلاتنا في كثير من الأحيان، ثم نسير على أقدامنا من شارع إلى شارع، ونشتري جرائد أو كتاب، ثم نجلس على مقهى قديم في نواحي التوفيقية، فنشرب العنَاب والشاي، وننظر إلى المارة. وكان كل من يصادفنا يتعجب لوجود الشريف في أماكن عامة، ويفخر به.