كوالالمبور: سيف الدين حسن العوض ماذا نفعل بعد هذا التشخيص الذي خرج به بلاغ جاكرتا؟ يجيب الدكتور عثمان ابوزيد عثمان بقوله: ما يجب بذل الاستطاعة فيه هو إنتاج فكر جديد، لإعلام جديد. تلاحظون أن معظم ما كتب في الإعلام الجديد حتى اللحظة كله عبارة عن توصيف للإعلام الجديد مع الانبهار أمامه وتمجيد إمكانياته مع إقصاء أي قراءة نقدية. نلاحظ ذلك في الكتب التي صدرت عن الإعلام الجديد وعن تقنيات الاتصال، فإنها جميعا تقف عند حدود التوصيف ... ليست هناك فلسفة تربط التقنية بالسياق الاجتماعي والثقافي الأكبر، وليس هناك تنظير، بل إن الإعلام الجديد قد أحدث نوعاً من التجاوز لنظريات الاتصال، وسبقت استخداماته القوانين والتشريعات، وما سماه أحد علماء الاتصال القدامي الكندي المعروف مارشال ماكلوهان، بالحتمية التقنية، تفرض الآن نفسها بقوة على الواقع ، وكأن الناس مسوقون بالتقنية هذه ... إلى أين ؟ لا نعرف. ولذلك أحد المفكرين الإعلاميين اسمه عبد الرحمن عزي، وهو عميد كلية الاعلام في جامعة الشارقة حالياً، قدّم شيئاً سماه الحتمية القيمية في مقابل الحتمية التقنية. وأرى أن ما قدمه نظرية تستحق الاهتمام. وبالمناسبة فإن ما يقوم به الأساتذة المسلمون دائماً من أعمال ، لا نقف أمامها مثلما نحترم النظريات والافكار التي تأتي من الجامعات الأوروبية، أو من الجامعات الامريكية، وقلما يأتي أحد منا ويستشهد بما قاله فلان الأستاذ في الجامعة الاسلامية العالمية في ماليزيا ، لا نقول هذا ولن نقول هذا ، ولكننا نباهي بما يقوله الغربيون، عندما نملأ فمنا ونملأ رئتنا بأسماء هؤلاء من قبيل مارشال ماكلوهان أو غيره، رغم أن ماكلوهان نفسه كان رجلاً فيلسوفاً ولم يكن متخصصاً في مجال الاعلام او الاتصال، وقدم اشياء، في كثير من الأحيان هي أقرب من التهويمات. دعونا نضيف كذلك نظرية عبد الرحمن عزي مثلاً، ما الذي يضير في ذلك، ولكن لأننا مهزومون فكرياً ومهزومون نفسياً، دائماً نجعل ما يأتي من الآخرين دائماً هو المقبول، وقديماً قال الأقدمون: "زامر الحي لا يطرب"! أنا اعتقد أن دراستنا للفكر الاتصالي لدى المسلمين، تفتح لنا باباً من التراث الزاخر. فتجد كتاباً مثل كتاب ابن القيم الجوزية، كتاب الفوائد ، في الفائدة الأولى تحت عنوان: قاعدة جليلة إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه والق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه فانه خاطب منه لك على لسان رسوله قال تعالي إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد. هذه لعمري نظرية متكاملة في الاتصال، ولكن من الذي يمكن ان يأتي ويقول: نظرية ابن القيم مثلاً، أو نظرية الجاحظ؟ ذلك لأننا مهزومون فكرياً. في هذا العالم المتغير، هنالك أسئلة في مجال الإعلام الإسلامي أشد قوة وأكثر تعقيداً الآن. ودعني أختم هذا اللقاء العلمي بهذه الأسئلة، وأترك الإجابات لكم، ولاشك أن تزاوج العمل والفكر الإعلامي في المختبرات العلمية وفي المكتبات، وتزاوج حقائق الحياة مع حقائق العلم في الجامعة هذا أمر ضروري جداً. ربما أن الواقع الذي نعايشه الآن في كثير من بلادنا الإسلامية، بوجود نوع من التصادم وعدم الامتزاج هذا بين الجامعة وبين المجتمع والذي أحدث أن الناس في الجامعة أحياناً يناقشون أموراً نظرية بعيدة عن الواقع وأحيانا يبذل الناس في المجتمع عملاً كثيراً لكي يتوصلوا الى بعض المعاني التي توصل اليها الناس في الجامعات وأصبحت من البديهيات لديهم. فعندما يحدث هذا النوع من التزاوج بين الجامعة والمجتمع، يتحقق ما نصبو اليه جميعاً. الآن من الاسئلة الكبيرة التي تواجهنا في مجال الإعلام؛ إعلام المسلمين، دعنا نقول ... وبالمناسبة البروفسور سيد عربي عيديد المدير السابق للجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا عند طرحه لورقته في المؤتمر العالمي الثاني للإعلام الإسلامي، قدم شيئاً أضاف إليّ وهو قوله: إن مفهوم الإعلام الإسلامي Islamic Media شيء آخر غير إعلام المسلمين Muslim Media . وسائل إعلام المسلمين شيء متعدد، فهناك وسائل إعلام للمسلمين في السعودية وهناك وسائل إعلام للمسلمين في الهند ، وهكذا. وإذا كان إعلام المسلمين متعدداً فإن الإعلام الإسلامي غير متعدد، وهو شيء مطلق. وهو ما عبر عنه البروفيسور عيديد بأنه أفضل الأفضل The best of the best، نعود إلى الأسئلة التي أطرحها هنا فهي: كيف يخاطب إعلام المسلمين العالم ويؤثر فيه في ظل بناء الجدران وما يجري من الاحتكار الإعلامي الذي يأخذ أشكالاً جديدة رغم دعاوى العولمة؟ العولمة نجحت في انفتاح الفضاءات بعضها على بعض ، ولكنها أقامت جدراناً سميكة وحوائط على الأرض. الناس الآن على الرغم من أنهم يتحدثون عن التكامل المعرفي، وعن التقارب الثقافي، وهذا توجه تشجعه اليونسكو الآن، فإن الذي يحدث أن الناس يزدادون تمسكاً بخصوصياتهم، فمثلاً القنوات الفضائية التي أطلقت، جعلت الناس يتمسكون بثقافاتهم وبخصوصياتهم ، فالهندي مثلاً المقيم في المملكة العربية السعودية، لا يشاهد إلا القنوات الهندية التي تقدم له برامج واخبار الهند، بلده، والسوداني يفعل كذلك، واللبناني يفعل كذلك، فكأن هذا المجال الأوفى الذي ينبغي أن يتيح مجالاً للتمازج الثقافي بين الشعوب لم يكن فاعلا بالقدر المطلوب وقد تكون القنوات فاعلة فقط في أنها جعلت الناس يتمسكون أكثر بخصوصياتهم الثقافية، ولعلني قد وقفت في اندونيسيا، وفي ماليزيا على نوع من – دعنا نسميه - (الاحتكار الإعلامي) – فمن الصعب أن تجد قنوات دينية، اسلامية او قنوات تعلم اللغة العربية، ونحن سألنا عن هذا في اندونيسيا، والاجابة التي قدمت الينا ان هذا ليس متاحاً من الناحية التقنية لأن الشركات لا تستطيع أن تقدم إلا هذا، ولكن لماذا لا تقدم الا هذا؟ ربما أن هناك سياسات عليا هي التي توجه كل هذا. سؤال آخر: كيف نستطيع أن نحقق وجوداً معقولاً في القوانين والتشريعات الدولية في مجال الاتصال والإعلام؟ في مؤتمرات مجتمع المعرفة التي تقام بين الفينة والأخرى، حدثنا الدكتور محمد المصمودي، وهو كان عضواً في اللجنة الدولية لدراسة مشكلات الاتصال المسماة بلجنة شون ماكبرايد، حدثنا أنه بذل مجهوداً في مؤتمر تونس في تضمين التشريعات والسياسات الدولية، شيئاً ينتسب الى الثقافة الاسلامية والى الثقافة العربية، والى الثقافة الدينية، ولم يجد ممانعة في ذلك. إذا استطعت أن تقدم شيئاً له منطق ومشروعاً مقنعاً فإنهم يقبلونه، وأعتقد أن هذا تحدٍ كبير يقابلنا الآن. لقد تساءلنا كيف نصل إلى ممارسة للحرية ضمن ضوابط الشرع في مجتمعاتنا الإسلامية؟ وعن ممارسة للحرية في العالم مع الإبقاء على احترام الأخلاق والقيم؟ برزت مشكلة عند الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم في الدنمارك وطالب المسلمون بأن تكون هناك قوانين في إطار القانون الجنائي الدولي تجرم الإساءة للأديان. وما يزال الناس يتناقشون في إطار منظمات الأممالمتحدة، وأن نصل إلى اتفاق أو معيار عالمي للحرية في ظل السجال بين الحرية والإساءة إلى الدين هو من التحديات الماثلة. وهناك السؤال: كيف تستطيع الأقليات المسلمة (في فرنسا او امريكا مثلاً) ان تنفُذ بخطابها الاعلامي الى المجتمعات التي تحتضنها. يحدثني أكثر من واحد في مناطق الأقليات المسلمة ، عندما قامت أحداث 11 سبتمبر أن كافة وسائل الإعلام جاءت تسعى إلى المراكز الإسلامية وإلى المساجد يبحثون عمن يقدم إجابات عن الإسلام وعن مواقف المسلمين، فكان هناك العدد القليل من الذين في مقدورهم ان يقدموا خطاباً إعلامياً مفهوماً ومؤثراً في وسائل الاعلام هذه، ما كان لدى المسلمون أناس مدربين وهذا موضوع يتعلق بالخطاب الإسلامي أو الخطاب الإعلامي الإسلامي، لذلك الذين يتكلمون عن الاسلام في وسائل الاعلام العالمية هم من سُموا أو سموهم بخبراء الاسلام وهم في غالبهم من غير المسلمين، ومن غير المتخصصين ممن كنا نسميهم في السابق بالمستشرقين وإن كان المستشرقون السابقون أكثر تعمقاً بدراسة الإسلام من هؤلاء (الخبراء). قرأت مقالاً في مجلة امريكية بعنوان طريف وهو ( الله في هارفارد) ، وفي هذا المقال يتكلم الكاتب عن الخطاب الإسلامي، وكيف يقدم المسلمون خطابهم الى العالم في مجتمعات الأقليات المسلمة، ويذكر أن أحد المصريين، نال درجة الدكتوراه في جامعة الازهر الشريف، ثم ذهب الى جامعة هارفارد لكي يدرس برنامجاً في الدراسات الإسلامية، فسأله أستاذه : أنت الآن دكتور في الدراسات الاسلامية فلماذا تأتي لكي تدرس الإسلام في هارفارد، فرد عليه الدكتور المصري قائلاً: أنا دخلت الى هذا البرنامج فقط لكي أتعلم كيف أخاطب الأمريكيين وأكلمهم بلسانهم ، وهذا هو المبدأ الاسلامي المعروف، فان الله تعالى بعث الرسل بلسان أقوامهم " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ". أمثال هذه الأسئلة لا نصل فيها إلى إجابات عن طريق الأطروحات النظرية وحدها، وإنما بإبداع فكر متطور من خلال الممارسة المباشرة وصقل المفاهيم والنظريات والعودة المستمرة إلى الحقل العملي حيث حقائق الحياة الاجتماعية، التي تتحسن فيه معرفتنا ويرقى فيه وعينا. ولعلكم تلاحظون مثلاً أننا الآن نتحدث عن نظام إسلامي للإعلام ، وكنا في السابق يدور كلامنا في كثير من الأحيان حول نظرية إسلامية في الإعلام، لماذا نظرية واحدة؟ وليست نظريات؟! في الاقتصاد الإسلامي هناك نظريات كثيرة، نظريات في المالية ونظريات في التمويل والائتمان وهكذا، كذلك بإمكاننا أن نتحدث عن نظام إسلامي للإعلام يرتكز على العديد من النظريات بدلاً من أن نشغل أنفسنا بالبحث عن نظرية إسلامية للإعلام. لقد تأثرنا بالتأسيس الأكاديمي الذي بدأنا به في بعض الجامعات، كانوا يدرسوننا نظريات الصحافة الأربعة وهي نظرية السلطة والليبرالية والمسؤولية الاجتماعية والشيوعية، وكأن عقلنا منذ ذلك الوقت اكتسب مناعة في أن نفكر إلا في هذا الإطار الضيق، مع أن الأمر ليس كذلك، وبالأمس سررت لأنني وجدت هذه الفكرة لدى المعهد العالمي لوحدة المسلمين التابع للجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا. أنا على يقين من أن المسلمين إذا أبدعوا فكرهم الإعلامي انطلاقاً من مرجعيتهم الدينية، يستطيعون أن يقدموا هدياً للعالم في مشكلات الإعلام، كما رأينا العالم يلتمس الهدي لدى الإسلام في إقالة عثرته في مجالات المعاش والاقتصاد.