مارس 27 عام 2012 لأن الناس يبكون على الحي في بكائهم على الميت رغبت أن يعتبر الشيوعيون بمغازي المأتم الوطني العام على نقد. فدماثته هي أكثر ما أبكى الناس على الفقيد. وهذا باب في التربية عز عند كثير من شيعته والقياديين فيهم بالذات. وققد توقف فيه الاجتهاد منذ صدور كتاب أستاذنا عبد الخالق محجوب "إصلاح الخطأ في العمل الجماهيري" (1961). وعن دماثة نقد كتب الأستاذ عبد الله عبيد، الصحفي المخضرم والشيوعي المحترف السابق، أن الراحل، المختفي عن أنظار دولة نميري، كان يزوره في داره بالثورة. لم يمنعه من ذلك لا خروج عبد الله على الحزب في 1970 ولا ما ذاع من أنه يخدم في قسم الصحافة بالأمن القومي. وقد اكتنفني نقد بهذه الدماثة أيضاً . فمع أنني تركت الحزب في 1978 عاص ب"صلايب" لقيادته إلا أنه كان يسعى للقائي عن طريق الصديق كمال الجزولي كلما جئت في الإجازة للبلد. كنا نسهر الليل نأنس ونقلب الأمور التي جمعتنا يوماً وما تزال. وأهيه كتاباً أو آخر في شأننا. لم يسمع لشيعته من قالوا بخيانتي للقضية لأنني داخلت الإنقاذ في مؤتمر الحوار الوطني لأجل السلام في شتاء 1989. بل من طردوني من اجتماع انعقد بطرف من مؤتمر لجمعية الدراسات السودانية الأمريكية في نحو 1994. فمن بؤس هذه التربية ما عُرف عن شيوعي قائد لا يمد يده الطهور لخارج على الحزب أبداً في المناسبات الاجتماعية. وقد فعلها معي ولم أصدق أن تلك بعض سياسته من فرط هيافتها. وظننته نسي أو أزعجه آخر عني. وما أفقت لبولتيكا اليد الطهور إلا بعد ما حكاه المرحوم الخاتم عدلان عن نفس الرفيق وحشمته البسارية. وأسعدني أن أسمع أنه اعتذر لصديق عن تلك الفعلة لاحقاً. رحمه الله ورحمنا. ولكن من أبشع صور خلو الرفاق من الدماثة ما حدث لي مع رفيق كنت أكن له اعجاباً على عهد الصبا الشيوعي المشبوب. فقد كان مسئولاً متفرغاً عن مدينتنا. وكنا قادة الطلبة الشيوعيين نلقاه في هدأة الليل بجلبابه الأبيض. كان أهدأ من الليل الذي يكتنفنا وهو يصرف أمورنا. ثم يبتلعه الليل كالنجم ونحار أين سيضيء في مرته القادمة. وأتصل فيّ صديق وشيوعي سابق (وما أكثرهم!) تقاسمنا الإعجاب بالرجل بعد خروج الحزب الشيوعي للعلن يقترح عليّ أن نلتقي به نجدد الذكرى. ولما كنت أعرف بولتيكا اليد الطهور حيال الخوارج قلت له قم بالأمر وتحدث إلى الرفيق فإن وافق فحباً وكرامة. وعاد صديقي من رحلته مع الرفيق صفر اليدين. فبولتيكا اليد الطهور تمنع هذا الرجل الذي أحتسب عمره للقضية من التعاطي مع الخالفين. ضعف الطالب والمطلوب. أخشي أن يكون اجتماع الخلق على الحزن على نقد سبباً ليعتقد الشيوعيون أنهم على الجادة. لا. فحتى التشييع أفسدوه حين لم يلتزموا ب "تقاليد الرحيل المسلمة". فالناظر لشريط التشييع ليس يفرق إن كان الرفاق في مؤتمرهم الخامس ماشين في الدرب يمدون: الرايات الحمراء والشعارات البراقة والهتاف للحزب وللطبقة العاملة. كأنه لا وقت لديهم للحزن. وكأن الحزن عيب والموت ارتجال. واستعد الفقيد لما لم يستعد له رفاقه حين وصى أن يصلي عليه شيخه زعيم الطريقة الإدريسية. لقد جعل الشيوعيون "البكا" على زعيمهم لمن هرعوا للعزاء مستحيلاً حين انتبذوا مكاناً قصياً بقضيتهم الطهور ويدهم كذلك.