منذ أن نشر مقطع الفيديو الذي يظهر مجرم الحرب، أحمد هارون وهو يعطي التعليمات والتوجيهات لضابطه وجنوده، شاهدت هذا المقطع البشع، أكثر من مرة، وفي كل مرة شاهدت فيها الفيديو، كان يعتريني التساؤل بحسرة وألم كبيرين، هل هذا الشخص، هو سوداني من أب وأم، سودانيين..؟ وإن كان من أب وأم سودانيين هل مايزلان على قيد الحياة، وإن كنا على قيد الحياة، هل شاهدا هذا المقطع ..؟وإن توفيا، فلهما الرحمة، لكن حبل تساؤلي لم ينقطع بانقطاع حبل صلتهما بالحياة، لأن حديثه أبنهما هذا، حديث غريب ولا صلة له بالقيم والثقافة السودانية التي تربينا عليها، التي تحثناعلى الرفق بالإنسان والحيوان، والتعامل بالحسنى، حتى مع الخصم العدو. وبرغم إنسانية هذه القيم، نجد فيها أيضا قيم رجولة، لأنها تحث الرجل ألا يجهز على الجريح أو الأسير أو يلاحق من أطلق لرجليه العنان، هذه القيم تعلمناها من أهلنا ونحن في الصغر، تعلمنا إن على المرء ألا يغدر، حتى بخصمه، أي عليه أن يخطره، حتى يستعد ويجهز نفسه، إذا كان راغباً في الدفاع عن حياضه، ومن ذلك أن يقول له، أنا قادم اليك، وإن كان بلا سلاح، لا يواجهه ولا ينازله، لأن المعادلة ستكون مختلة بينهما، وحتى لو قتله وذهب الى أهله وأخبرهم، علماً بأن الفارس لا يكذب، فبنات عمه لا يرحمنه، لأنه قتل إنساناً بلا سلاح. هذه القيم تعلمناه من أهلنا في البادية أثناء الصغر، وحينما كبرنا وتعلمنا وقرأنا القرآن، وجدناه يقول: في أكثر من سورة، ومنها، سورة الأنفال: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم)70، لقد قرر الإسلام بسماحته أنه يجب على المسلمين إطعام الأسير وعدم تجويعه، وأن يكون الطعام مماثلاً في الجودة والكمية لطعام المسلمين، أو أفضل منه إذا كان ذلك ممكناً، استجابة لأمر الله تعالى في قوله في سورة الإنسان: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً):8، ويروى أنه صلى اله عليه وسلم أطعم بعض الأسرى ورواهم بيده الكريمة، ويقول أبو عزيز بن عمير، وكان أحد أسرى بدر حول معاملته: "كنت في رهط الأنصار حين أقبلوا من بدر، فكانوا قدّموا غذاءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، فما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها فأستحي فأردها على أحدهم فيردها عليّ وما يمسكها". كما قرر الإسلام بسماحته وعدله ورحمته أنه يجب معاملة الأسير بالحسنى وعدم إهانته أو إذلاله، روى الطبراني عن أبي عزيز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالأسارى خيراً"، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى يهود بني قريضة موقوفين في العراء في ظهيرة يوم قائظ، قال مخاطباً المسلمين المكلفين بحراستهم: "لا تجمعوا عليهم حرّ هذا اليوم وحرّ السلاح، قَيّلوهم حتى يبردوا" ومن هذا المنطلق لا يجوز تعذيب الأسير لأجل الحصول على معلومات عسكرية عن جيش العدو، فقد سئل مالك رحمه الله: "أيُعذّب الأسير إن رجي أن يدل على عورة العدو؟ فقال: ما سمعت بذلك". إنها سماحة الإسلام ورحمته يرى بعض من المسلمين، أنها أكثر سبقاً وتقدماً من القانون الدولي الإنساني المعاصر، وأخص بذلك معاهدات جنيف 1929م، 1949م ولاهاي لحقوق الإنسان، وحقوق أسرى الحروب. إذا كانت قيم الرجولة والإنسانية والقرآن الكريم، تقول بذلك فيمن جاء مجرم الحرب أحمد هارون، بثقافته المنحطة والغير إنسانية هذه..؟ وهو يعطي التعليمات والتوجيهات، للضباط والجنود، لمواجهة أناس يناضلون من أجل رفع الظلم عن كواهلهم وتحقيق العدالة في حياتهم، بعد أن ظلوا أكثر من نصف قرن يعانون، إنعدام التنمية، الذي نجم عنه الفقر والجهل، وهم يرون خيراتهم وثرواتهم تسرق أمام أعينهم من قبل نظام بلا شرعية، شرعيته الوحيدة هي الدبابة والقتل بلا رحمة، ودائرة فقرهم وتخلفهم وجهلهم في إتساع، بينما ينعم بالرفاهية المجرمين، أمثال أحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين، وعمر البشير وصلوا للسلطة عبر الخيانة والتآمر، ومن ثم أشتروا ضعاف النفوس من الإنتهازيين، لحماية عروشهم التي بنوها على حساب الوحدة الوطنية، ودماء وأشلاء الفقراء والكادحين.! الطيب الزين