حصار ومعارك وتوقف المساعدات.. ولاية الجزيرة تواجه كارثة إنسانية في السودان    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    هل انتهت المسألة الشرقية؟    صندل: الحرب بين الشعب السوداني الثائر، والمنتفض دوماً، وميليشيات المؤتمر الوطني، وجيش الفلول    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    تعادل الزيتونة والنصر بود الكبير    تقارير تفيد بشجار "قبيح" بين مبابي والخليفي في "حديقة الأمراء"    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    المريخ يكسب تجربة السكة حديد بثنائية    شاهد بالفيديو.. "جيش واحد شعب واحد" تظاهرة ليلية في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور    لأهلي في الجزيرة    مدير عام قوات الدفاع المدني : قواتنا تقوم بعمليات تطهير لنواقل الامراض ونقل الجثث بأم درمان    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    تامر حسني يمازح باسم سمرة فى أول يوم من تصوير فيلم "ري ستارت"    شاهد بالصورة والفيديو.. المودل آية أفرو تكشف ساقيها بشكل كامل وتستعرض جمالها ونظافة جسمها خلال جلسة "باديكير"    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    عضو مجلس السيادة مساعد القائد العام الفريق إبراهيم جابر يطلع على الخطة التاشيرية للموسم الزراعي بولاية القضارف    شركة "أوبر" تعلق على حادثة الاعتداء في مصر    بالفيديو.. شاهد اللحظات الأخيرة من حياة نجم السوشيال ميديا السوداني الراحل جوان الخطيب.. ظهر في "لايف" مع صديقته "أميرة" وكشف لها عن مرضه الذي كان سبباً في وفاته بعد ساعات    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استراتجية التعامل مع دولة الجنوب مكامن الأذى ومفاتح الخروج


[email protected]
سيحتاج السودان الى بعض الوقت قبل أن يهدأ غبار معركة هجليج وتسكن
الأنفاس ويبدأ أولو الأمر في التفكير الواقعي للإجابة على السؤال الذي
بات يقض مضاجع أهل السودان منذ أحداث هجليج وماقبلها: كيف سيتعامل
السودان مع دولة الجنوب؟
منذ الإنفصال انتقل هذا السؤال من حيز التنظير الى حيز التطبيق وحمل معه
مفاجآت عديدة. فلا أتصور أنه خطر لحكومة السودان أن الجنوب سيغلق آبار
النفط في خطوة لا مبالغة في وصفها بالانتحار الاقتصادي، ثم احتلال هجليج
والتي تشبه الانتحار العسكري. إن مثل هذه الدولة التي ولدت معاقة الى
درجة الموت السريري كمثل من يلقي بنفسه في أتون النار كي يختنق عدوه
بدخانه! رغم ذلك، فالسودان لن يدخل عسكرياً في الجنوب، كما أن الثوار
الجنوبيين لن يتمكنوا من هزيمة الحركة الشعبية مهما وجدوا من دعم. وحيث
أن المصالح الاقتصادية لم تفلح – رغم قوتها الظاهرة – في ربط البلدين
بسلام صلب، وبطغيان القضايا العالقة على الحريات الاربع، يستبين السؤال
أعلاه بدوي يصم الآذان: ماذا سنفعل مع الجنوب؟
الاجابة على هذا السؤال في تقديري غير موجودة في معطيات الاطار المحلي
ولا الاطار الاقليمي. لا شك أن ما يحرك الاحداث في السودان الكبير يتجاوز
الصراع بين البلدين ليعكس نسخة من الصراع الكبير بين الشرق والغرب والذي
يدور في ميادين مختلفة من الارض. هذا ليس سراً وقد صرح به مسؤولو الحكومة
كثيراً، ولكن الذي يستحق الانتباه هو أن عالمية المشكلة السودانية لن
تجدي معها محلية العلاج وتستدعي بالضرورة عالمية الحل وهو ما سأحاول
بيانه بشيء من التفصيل في هذا المقال، ولكني أبدأ باستعراض مختصر
لسيناريوهات التغيير في الجنوب.
سيناريوهات التغيير في الجنوب:
لا شك أن حكم الحركة الشعبية لجنوب السودان بات صداعاً دائماً للسودان ما
يجعل تغيير هذا الواقع في قمة أماني الحكومة السودانية ولكن كيف السبيل
الى ذلك؟ لن يغزو الجيش السوداني دولة الجنوب حتى يُسقط جوبا تحقيقاً
لهذه الأمنية، هذا يبدو واضحاً دون حاجة الى إسهاب. ولكن ربما تحاول
الحكومة تحقيق هذا الهدف بدعم حركات متمردة في الجنوب وفي هذا ربما مكاسب
تكتيكية مؤقتة ولكن لن تسقط الحركة الشعبية عن حكم الجنوب بفعل حركة
متمردة عليها، فمقدرات الجيش الشعبي ستتفوق على المتمردين عليه بما يشبه
تفوق الجيش السوداني على الجيش الشعبي نفسه، ومقدرة المتمردين المدعومين
من الشمال على إسقاط حكومة الحركة الشعبية لن تزيد كثيراً على مقدرة
المتمردين المدعومين من الجنوب على إسقاط حكومة الخرطوم، باختصار: هذا
الاسلوب غير مجدي في تغيير الانظمة ولنا فيه تجارب سابقة غير ناجحة.
كذلك يمكننا استبعاد ربيع جنوبي يطيح بالحركة الشعبية على نهج ثورات
الربيع العربي بمختلف أشكالها. فالثورة الشعبية تستدعي تياراً من
المتعلمين والمثقفين الشباب الطامحين الى حياة أفضل والقادرين على قيادة
حركة تغيير شاملة، أما شعب الجنوب فنسبة الأمية فيه تتجاوز ال51% والذين
نالوا قسطاً جيداً من التعليم إما يعيشون خارج الجنوب أو أنهم جزء من –
أو ارتبطت مصالحهم بشكل ما مع – الحركة الشعبية. إنه لمن دواعي الأسى على
الشعب الجنوبي المقهور أنه إن أراد الخروج في مظاهرة ستحتاج كتابة
اللافتات وتنظيم الشعارات الى جهد كبير كما أن من يستطيعون قراءتها
سيكونون القلة!
الخطر الأكبر على الحركة الشعبية هو في صراعاتها الداخلية التي تشكل
امتداداً لصراعات الجنوب القبلية، ولكن هذا الأمر – لسوء حظ الحكومة في
السودان – سيكون عسيراً على الحكومة استخدامه بفعالية لمحدودية تأثيرها
عليه، والانفلات القبلي في الجنوب سيكون وبالاً على الشمال حتى ولو سقطت
الحركة الشعبية بسببه.
قبل القفز الى النتيجة – التي باتت منطقية الآن – وهي حتمية التعامل مع
الحركة الشعبية ولو الى حين، يجب أن نحاول أن نفهم السؤال المنطقي: لماذا
تتصرف الحركة الشعبية تجاه شعبها في الجنوب وتجاه السودان بهذا الشكل؟
هذا السؤال يقودنا الى النظر في أبعاد الصراع الدولي في السودان.
أبعاد الصراع الدولي في السودان:
العبارة الأنيقة التي تصف حال الحركة الشعبية هي تلك التي صدّرها أحد
الصحفيين الغربيين لمقال له قبل انفصال الجنوب بيوم واحد حيث قال "ساعات
تبقت ليختار جنوب السودان الغني بالنفط مابين أمريكا أو الصين أو
السودان". ولا غرابة في أن تجد أية دولة وليدة نفسها في هذا الموقف في ظل
عالم لا يعرف الحياد المطلق. سيكون من السذاجة الظن أن يوادد شعب اختار
الانفصال عن بلد بعد حروب أهلية استمرت عشرات السنين، ذلك البلد مهما
عظمت المصالح المشتركة بينهما. صحيح أن انعدام الود لا يعني ضرورة الحرب
ولكن أرجو أن لا يتوهم الناس أن حالة النفور هذه – إن لم أسميها التباغض
– مقصورة على الحركة الشعبية. هذا النفور الشعبي تجاه الشمال يجب أن لا
يغيب عن ذهن ولي الأمر في الشمال عندما يبحث أمر التعامل مع الجنوب.
ربما يظن البعض أن الاختيار الانسب للجنوب كان هو الصين باعتبار أن
المصالح بينهما سابقة لقيام دولة الجنوب وأن النفط سيربط بينهما دون عناء
ولكن لنكن واقعيين: رفض اليد الأمريكية الممدودة من قبل أضعف دولة في
العالم ليس قراراً سهلاً حتى ولو كان البديل هو التنين الصيني بكامل
جبروته. لقد اختار الجنوب أمريكا في صراع طويل بين القطبين الشرقي
والغربي على الموارد الافريقية فيما صار يسمى ب "التهافت الجديد على
إفريقيا" (New scramble for Africa) بعد التهافت الأوروبي القديم. حتى في
تلك الأيام لم يكن السودان بعيداً عن الصراعات الدولية، ففي عام 1898
اتجهت فرنسا الى السودان في محاولة للالتفاف على السيطرة البريطانية على
مصر بقطع النيل من الخلف والسيطرة على حركة التجارة ما بين نهر النيجر
ونهر النيل. لحساسية أمر مصر والنيل عند بريطانيا، قامت بإرسال اللورد
كتشنر بعد أن سحق جيوش المهدية في كرري الى فشودة لمواجهة الفرنسيين.
وبعد أن تصاعد الأمر في باريس ولندن ارتضى الفرنسيون الانسحاب ليبقى
العمق الافريقي الرأسي تحت سيطرة التاج البريطاني.
ذات الأمر أو نحوه يتكرر الآن بين أمريكا والصين، والسودان ليس أول مسارح
هذا الصراع، والذي أراه من تصرفات الحركة الشعبية هو محاولة – مقصودة أو
غير مقصودة – لتقليد النموذج الأنقولي. فالصين سحبت البساط تدريجياً من
تحت الأقدام الأمريكية في أنقولا حيث باتت أكبر مستورد للنفط الانقولي
تاركة أمريكا ثانياً، وهي أيضاً أكبر مصدر للواردات الانقولية بعد
البرتغال (أمريكا ثالثاً)، ورغم ذلك فانقولا توازن في علاقاتها بين
الاثنين دون عناء كبير. جنوب السودان سيجد أن محاكاة النموذج الانقولي
عسيرة لكثرة الفوارق بينه وبين انقولا. فالنفط الانقولي أوفر من النفط
الجنوبي بحيث يكفي الجميع وهو كذلك أجود في نوعه كما أن أنقولا دولة
ساحلية لها موانئ على المحيط الاطلسي مما يسهل عملية التصدير. الجنوب
مرهون الآن الى موانئ السودان، وحتى لو بنى أنبوباً الى كينيا فهو يستبدل
خصماً بآخر. قد لا ينتبه الجنوبيون الآن - وفي غمرة التشاحن مع الشمال
مستنصرين في ذلك بيوغندا وكينيا - أن الخطر الحقيقي يكمن في جنوبهم وليس
الشمال. فكينيا لديها تنازع حدودي مع دولة الجنوب في مثلث إيليمي وربما
تستغل حاجة الجنوب الى الأنبوب لتصفية هذا النزاع لصالحها. حتى حينها لن
يسلم الجنوب من الإبتزاز الكيني فيوغندا الآن تعاني الأمرين من ارتهانها
لموانئ كينيا (سمعتها من سكرتير موسيفيني) وليس الجنوب لدي كينيا بعزيز.
أما الصداقة اليوغندية للجنوب فربما تتضح لو عدنا إلى السؤال الذي دُفن
الآن: من قتل جون قرنق؟
ربما تكثر زيارات سلفاكير الى أمريكا والصين في محاولة لاسترضاء الطرفين
ولكن الجنوب فيه تعقيدات جيوسياسية ولا يحظى بالجاذبية القائمة على
المصالح التجارية البحتة كما الحال في أنقولا. فأمريكا سيسرها أن تضايق
الصين في مصادر طاقتها طالما أمكن ذلك وهو في الجنوب ممكن، إضافة الى
أهمية الجنوب من حيث كونه على الحدود الجنوبية للاسلام في العمق
الافريقي. الصين في المقابل لا تظهر حتى الآن أي طموحات جيوسياسية أو
أيديولوجية في إفريقيا وتكتفي بالمصالح التجارية فقط. إنه لمن دواعي
العجب أن تهتم أمريكا – أكبر دولة رأسمالية في العالم – بالجوانب غير
التجارية في علاقاتها الخارجية بينما تكتفي الصين الشيوعية برعاية
مصالحها التجارية وتلتزم بصرامة غريبة بسياستها في عدم التدخل
(non-interference) حتى ولو تعرض مواطنوها للخطف والقتل وتعرضت مصالحها
للتهديد من قبل قوى عالمية أخرى!
لن يدير الجنوب ظهره لأمريكا لأنه يعلم أن معاداة أمريكا لها عواقب
مباشرة كالتي طالت السودان بينما خيانته للصين مأمونة العواقب الى حد
كبير وستكتفي الصين بالبحث عن بدائل، ولكن لن يستيئس الجنوب من محاولات
التوفيق التي ربما يظن سذاجة أن بإمكانه إدارتها من جوبا.
هناك عوامل أخرى تسهم في ترجيح كفة الغرب عند جوبا وأبرزها اسرائيل.
فالسودان الشمالي يعتبر عدواً للاثنين، عدو للجنوب بدافع التغابن القديم
رغم افتقار ذلك للعقلانية، وعدو لاسرائيل لكونه الامتداد العربي المسلم
في إفريقيا ومرور النيل – شريان الحياة المصرية – عبر أراضيه، هذا إضافة
الى الغيظ الناتج عن الحماس الشديد للحكومة السودانية في دعم القضية
الفلسطينية وعداء اسرائيل، وهذا – كما في الحالة الجنوبية – سبب غير
عقلاني. فالضربات الاسرائيلية في شرق السودان لم تكن في تقديري نتيجة
تهديد حقيقي لاسرائيل (كان من الممكن ضربها في مصر تحت غطاء مصري رسمي)
وإنما هي تنفيس عن الحنق والغيظ من طول لسان الحكومة السودانية عليها!
السودان الآن يجد نفسه إحدى البؤر الساخنة في ما يبدو أنه حالة تنافر
عربي مسلم عن العمق الافريقي. فمن الحراك القلق للمسلمين في اثيوبيا
والحال السوداني المعلوم مروراً بالحالة شبه الدارفورية في النيجر حيث
الصراع بين القبائل الرعوية العربية والزراعية الافريقية، ثم تمرد
الطوارق الآن في مالي واحتلالهم مدينة تمبكتو التاريخية، و ظاهرة بوكو
حرام والصراع بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي في نيجيريا، وانتهاءاً
باحتجاجات الافارقة في موريتانيا والذين بلغ بهم الأمر أن أحرقوا كتب
الفقه المالكي لما فيها – حسب قولهم – من تمجيد للرق! من الواضح أن هذا
الخط الأفقي بات الآن يسخن تحت صراعات بين مسلمين وغير مسلمين أو عرب
وأفارقة أو مزيج من ذلك، وظني أن بعض هذه الصراعات مدفوع بغرض من الغرب
والبعض الآخر هو تأثر بالاستقطاب الطبيعي الذي ينشأ من بعض هذه الصراعات.
إنه لمن الابتلاء العظيم للسودان أن يجد نفسه مسرحاً لكل هذه الصراعات
المختلفة والمتداخلة: الصراع على الموارد بين الكبار، الصراع العربي
الاسرائيلي، والصراع الثقافي الاجتماعي بين افريقيا العربية المسلمة
وافريقيا غير ذلك، كل ذلك إضافة الى تباين كبير في الجغرافيا والتاريخ
والثقافة لم تسعف سُنون السودان الحديث المعدودة أهله لكي يُحكموا مزج
هذا التباين بتجانس رائق. في هذا الاطار فقط يمكن أن يطرح السؤال بشكل
صحيح – وأعتذر للقارئ الكريم عن التكرار الذي أحسبه مبررا - : كيف يتعامل
السودان مع الجنوب؟
الحرب الباردة مع الجنوب:
لقد بات واضحاً الآن أن التفاوض مع الحركة الشعبية لايمكن أن يقوم على
منطق المصالح البحت، حيث يتنازل كل طرف عن بعض مصالحه مقابل الحصول على
مصالح مشتركة أكبر. فمصلحة دولة الجنوب تبدو في آخر أولويات الحركة
الشعبية الآن وذلك نتيجة لعالمية الصراع هناك كما ذكرنا مصحوباً برغائب
ومنافع شخصية ليست مستغربة. وأرجو أن لا يخفى علينا – لمن يظن أن الحل
يكمن في التغيير في الشمال – أن ذهاب حكم الاسلاميين في الشمال لن يفتح
أبواب النعيم على السودان. حتى لو جاءت حكومة علمانية وطبعت العلاقات مع
أمريكا واسرائيل ورفعت العقوبات، سيظل الشعب السوداني عربي الثقافة
حنيفاً نحو الاسلام، واذا حكم بدمية غربية فهذا يضع السودان تالياً في
قائمة الربيع العربي.
لا سبيل للسودان أن يعود القهقرى الآن طلباً للسلامة الامريكية فهذا لم
يعد ممكناً بعد الربيع العربي، بل إن الغرب الآن يجد نفسه مضطراً للتعامل
مع الاسلام السياسي بشكل ما، والسودان يجد نفسه سابقاً غيره في حكم
الاسلاميين بعشرين سنة ستكون – على علاتها – خير مصدر لتعلم الاسلاميين
الآخرين، وخلاص السودان في المدى البعيد – في ظني – صار مربوطاً بنهضة
اسلامية عربية شاملة ربما تجد في ثورات الربيع العربي منصة للانطلاق،
ولكن قبل الخوض في ذلك علينا أن ننظر في المدى القريب.
ذكرت سلفاً أنه من العسير على السودان خلع الحركة الشعبية من حكم الجنوب
عنوة كما أن ذهابها من الحكم بشكل آخر غير منظور الا أن تكون فوضى عارمة
أو يشاء الله باسباب خافية أمراً آخر لا حيلة للشمال فيه. وذكرت أيضاً أن
التفاهم المبني على منطق المصالح غير ممكن فلا يبقى للسودان اذاً الا
ثاني أصعب العلاجات (أصعبها هو الحرب الشاملة) وذلك هو الحرب الباردة.
يجب على السودان أن يعمل على تقوية مؤسسته العسكرية أفقياً و رأسياً بحيث
تكون قوة الجيش السوداني رادعاً عن تكرار مثل محاولات هجليج، ولا يكفي أن
نتقافز فرحاً باستعادتها الآن، فسقوطها ابتداءاً كان كارثة كلفت البلاد
ما قد يزيد على المليار دولار.(متى سيتوقف هذا السيرك الإعلامي في موضوع
هجليج؟!)
يجدر بالحكومة الوصول الى سعر معقول لتصدير النفط الجنوبي. فكل المؤشرات
تقول أن اقتصاد الجنوب يختنق الآن ولن يستطيع حلفاؤه توفير متنفس بديل في
الوقت المناسب، فلا يبقى له غير رئة الشمال ليتنفس عبرها. ربما يخاف
السودان أن يستخدم الجنوب أموال النفط في التسلح لضربه ولكني أرى أن
الجنوب سيحصل على سلاح يكفي لإقلاق السودان وإن لم يدفع له ثمناً، بينما
سيعاني السودان في الحصول على سلاح دون مال النفط. كما أرجو أن تتغير
اللهجة التفاوضية غير المجدية، فالتعبير عن رسوم النقل والمعالجة
والتصدير جملة من قبل السودان بينما الجنوب يعبر عن سعر ايجار الانبوب
فقط يضلل الرأي العام بأن الفرق شاسع. الأفضل أن يفصّل السودان السعر
ويقدم بعض المرونة تحفظ ماء وجه المفاوض الجنوبي وتمنحه ما يقابل به
جمهوره في الجنوب وتدفعه للتوقيع. معلوم أن محاصرة العدو في ركن يدفعه
للتوحش والتهور في المواجهة وفي ذلك خسران الطرفين دون ضرورة.
لن يعني الاتفاق حول النفط نهاية التحرشات الجنوبية. موضوع أبيي سيظل
معلقاً لسنوات قادمة والتوترات الحدودية كذلك ستستمر خصوصاً في مواسم
الرعي، لذلك فيحسن للحكومة إبداء إهتمام أكبر وأسرع لموضوع توطين الرعاة
الرحل، فهو أجدى إقتصادياً بجانب جدواه الأمنية.
على السودان كذلك – بجانب تقوية دفاعاته الى أقصى حد ممكن – أن يعامل
الجنوب بالمثل في دعم المتمردين. ذكرت قبلاً أن هذا لن يسقط الحركة
الشعبية ولكن الارهاق الذي سيصيبها جراء هذا التمرد سيصرف عنا بعض شرهم،
فإن كفّوا كففنا وإن عادوا عدنا والبادئ أظلم.
إيجازاً، فالوئام التام بيننا والحركة الشعبية شبه مستحيل وزوالها ليس
بيدنا والحرب الشاملة وبال على كل الناس، فلا يبقى الا الحرب الباردة.
والحرب الباردة تعني بعض المناوشات الحدودية بين فترة وأخرى، والكثير من
التصريحات العدائية والتربص بين الطرفين والاهم من كل ذلك: سباق تسلح،
وهذا ربما يكون فيه خير خافٍ للسودان. فسباق التسلح في ظل حصار كالمفروض
على السودان سيعني الإلتجاء الى الصناعة، والصناعة العسكرية ستنفع
الصناعة المدنية بتطوير البنيات التحتية وتطوير التعليم والبحث العلمي.
مواجهة الأمور الجسام عادة ما تحفز الهمم و تدفع الشعوب للابداع والعمل،
واذا نجح السودان في وضع أقدامه على درب نهضة صناعية شاملة فسيهون أمر
الجنوب عليه كثيراً.
الميلان نحو الشمال:
مستقبل السودان في المدى البعيد – الذي يبدأ الآن – هو في الميلان شمالاً
نحو مصر. وأقول الميلان وليس الاندفاع لأن المصريين بعد الثورة سيتجهون
جنوباً، ذلك أو الانتكاس الى الخنوع القديم. لا شك أن الكثير من الأمور
لابد أن تحصل في مصر قبل أن يستطيع السودان أن يتحالف معها، ولكن – وحتى
لا نغرق في رسم السيناريوهات المختلفة – دعونا نفترض أن الثورة أكملت
مشوارها وخرج الجيش تدريجياً من الحكم. الغلبة الاسلامية في مصر تعني أن
مصر بدورها ستدخل في حرب باردة مع اسرائيل (ايقاف تصدير الغاز يعتبر
مؤشراً)، وبالتالي فستبدأ أمريكا بالضغط على المصريين بوسائل شتى وأقساها
سيكون الغذاء. فمصر تستورد 40% من غذائها و60% من قمحها ومعظمه من
أمريكا. لن تجد الكرامة المصرية غير السودان ليكفيها شر الجوع أو الرضوخ،
كما أن السودان يمكن أن يستقوى بمصر في عدة مجالات أولها الدفاع. أتصور
أن الرادع الافضل والدرع الاقوى لحدود السودان سيكون اتفاقية دفاع مشترك
بين البلدين (فلنسمها اتفاقية درع النيل على غرار درع الجزيرة في
الخليج)، فالجيش المصري هو الأقوى في إفريقيا، كما أن حالة الحرب الباردة
بين مصر واسرائيل – في حال حُكمت مصر ديموقراطياً – ستستدعي التحالف
الوثيق مع السودان لوجود اسرائيل في الجنوب.
التعاون الممكن بين مصر الديموقراطية – ومن ثم الاسلامية غالباً - وبين
السودان سيحتاج بحوثاً مطولة لا يتسع لها المقام هنا ولكني لا أملك الا
أن أشير أن أية نهضة عربية إسلامية بعد الربيع العربي ستكون نواتها في
وحدة نوعية بين السودان ومصر. ولكن بالعودة الى مرادنا هنا، فإن انفصال
الجنوب في السودان والثورة في مصر تشكل معطيات واضحة لتجاذب في وسط وادي
النيل بعد أن تنافر عن الأطراف، وإن كانت دوافع هذا التجاذب أمنية
ودفاعية ابتداءاً، فسرعان ما سيجد البلدان ثماره في ميادين أخرى، فقط لو
تتناسى الشعوب مكدرات التنافس الهدام والنظرة الناكرة لكل آخر!
إن الحرب الباردة التي أرى فيها علاجاً مؤقتاً لما بيننا وبين الجنوب
ليست بجديدة على السودان. فالسودان قد خاض صراعات مشابهة مع معظم جيرانه:
اريتريا واثيوبيا ويوغندا وأخيراً تشاد وخرج منها جميعاً بحالة من
الاستقرار الحذر وهو مرحلة أفضل من الحرب الباردة. وإن كانت العلاقة مع
الجنوب الآن مشحونة بنفور أكبر مما كانت عليه علاقتنا بغيره، فالرابط
الاقتصادي والاجتماعي بين السودانين أكبر مما هو في غيره. كذلك فإن واقع
الصراعات الاقليمية والعالمية المذكورة سابقاً كان موجوداً بشكل ما قبل
انفصال الجنوب (اسرائيل موجودة في يوغندا منبع النيل). ما أقصده هنا هو
أن بعض التعقيد في الحالة السودانية ليس بالضرورة جديد كلياً، ولو استطاع
السودان أن يصل بعلاقته مع الجنوب الى حالة الاستقرار الحذر كما الحال مع
الجيران الآخرين أو حتى وقف الأمر على الحرب الباردة فسيكون للسودان فرصة
لإنهاء مشكلة دارفور التي باتت في حال أفضل بعد مصالحة تشاد وذهاب
القذافي وملل العالم من سيرتها. سيكون أمام السودان فرصة حقيقية للتنمية
في ظل سلام واستقرار – رغم هشاشتهما – طال افتقاده اياهما.
يبقى ختاماً أن أشير أن مشكلة السودان في الأساس مشكلة بنيوية وليست
ظرفية للأسف، وإن كان التباين الشديد في البنية السودانية قابل للتأليف
فرضاً، فتتابع الطامات عليه – ذاتية وخارجية - لم يسعفه حتى يحدث ذلك
التأليف، وعَجِل التقسيم والتفكك علينا. ولكن عسى أن يكون في انفصال
الجنوب والربيع العربي في شمال إفريقيا تهيئة الهية لتصحيح بناء عَمِد
الماكرون على إيجاده مختلاً، ومن ثم لإحداث نهضة شاملة نرفع بها راياتنا
التي طال غمارها. (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً
وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.