كلمة لابد منها للقارئ الكريم: لقد إستغرقت مني كتابة هذه السلسلة من المقالات زمناً ليس بالقصير، إمتدت من الفترة التي أعقبت إندلاع الأحداث بجنوب كردفان وحتى اللحظة، وطوال تلك الفترة كنت أمضي في الكتابة على ضوء المستجدات التي تطراء على الساحة، حتى لحظة (ما) في مسيرة هذه المقالات أدركت فيها أن متابعة الأحداث لحظة بلحظة وتحليلها، لن تفضي في نهاية المطاف إلى إلى نوع من التحليل الوصفي/الصحفي والذي وعلى الرغم من نمط التدقيق المعلوماتي الذي قد يرد فيه غير أنه قد يقود بالتحليل وجهات قد تكون مضللة (نوعاً ما)، ففضلت أن أمضي نحو وجهة أخرى أكثر عمقاً. سأترك لفطنة القارئ الكريم إكتشاف ذلك من خلال هذه السلسلة.
مدخل: دخلت حدة الإستقطاب السياسي والمواجهة في السودان الشمالي نقطة اللاعودة بالتكتلات الأخيرة على الساحة والتصريحات التي صاحبتها. وقد إنقسمت المعسكرات حتى الآن إلى جانبين ظاهرين وفاعلين هما:
الأول: معسكر المؤتمر الوطني وحلفائه من التتظيمات المنقسمة عن تنظيماتها الأم، والذين ساروا معه مشواراً طويلاً، بالإضافة لحلفاء محتملين وهم (حلفاء ما بعد إنفصال السودان الجنوبي، والذين في أغلب الظن، ممن يجمعهم مع المؤتمر الوطني خط أدنى، يتمثل في الإبقاء على الهوية العروبية الإسلامية لما تبقى من السودان).
الثاني: معسكر الجبهة الثورية السودانية والتي أصبحت تضم حركة العدل والمساواة السودانية، مع الحركة الشعبية لتحرير السودان (قطاع الشمال)، حركة تحرير السودان (جناح مني أركو مناوي، وعبدالواحد محمد نور) وآخرين.
النظر بعمق يكشف عن أن هذا الإصطفاف على خطي المواجهة بين المعسكرين، هو ليس مسألة صراع على سلطة، وإنما هو أمتداد لصراع رؤى قديم في أساسه، إذ أن المعسكر الحكومي بحلفائه الحاضرين والمحتملين، يقفون وفي نهاية التحليل، في موقع المدافع عن رؤية السودان العربي الإسلامي، ويتدرج هذا الطرح داخل كتلة هذا التحالف من أقصى التطرّف في الدعوة لهذه الرؤية كما في موقف المهندس الطيب مصطفي و(المؤتمر الوطني صراحة أو ضمنا)، إلى آخرين هم ليسوا ببعيدين عن موقف الدولة المدنية ودولة التنوع، مع دافع الإحتفاظ بموقع القوة والنفوذ والصدارة للداعمين للتوجهات العربية الإسلامية. في مقابل المعسكر الثاني، والذي تشكّل رؤية السودان الجديد حتى الآن الأساس اللاشعوري الذي يحرّك توجهاته السياسية وخياراته.
عليه؛ يبدو من خلال هذا التصنيف الأولي أن السودان الشمالي من بعد رحيل جنوب السودان حاملاً معه ذكرياته وأحزانه ومراراته ما زال يقف على نفس منصة صراعاته التاريخية، بل ويعيد إنتاج نفس الصراعات القديمة، هذه المرة ضد جنوب جديد بدأ يتشكّل(كما يقول بذلك كثير من الكتاب وصنّاع القرار والمهتمين بالشأن السوداني).
على خلفية ذلك، ما هي الخيارات الممكنة والمتاحة على ضوء هذه المتغيرات والصراعات داخل كل طرف(؟)، هل بإمكان أي كتلة تحقيق إستراتجياتها (؟)، ماهي الديناميات والمواقف والمعسكرات الجديدة التي قد تتولد أو تتكّون مقارنة بتاريخ عمليات التغيير في السودان(؟).
خلفية: إن إنفصال جنوب السودان وبلا أدنى شك مثّل المعلم الأبرز في تاريخ السياسة السودانية المعاصرة، وملخص القول في هذا التطور، أنه وبالأساس، تم كنتيجة لسلسلة طويلة من عمليات الإحتكاك السياسي في صوره المختلفة ما بين شعب جنوب السودان والنخب التي حكمت في المركز بالخرطوم وقد أخذ هذا الإحتكاك شكله الكامل من حيث المواقف والمطالب والمواجهات، خلال الفترة ما بين مؤتمر جوبا في عام 1947، وحتى إتفاقية السلام الشامل في نيفاشا في 2005. ولا نريد التعرّض لتفاصيل هذه الحقبة بإعتبارها متوفرة في الكثير من الدراسات والكتب التى عالجتها من هذا المنظور أو ذاك. لكن المهم أن ذلك قد حدث، وبالتالي؛ صار لزاماً علينا القبول بأن السودان بمفهومه الكبير (أرض المليون ميل مربع، وال 500 كيان أثني وثقافي، وأكثر من 100 لغة ولهجة، وتنوّع إيكولوجي يمتد من أطراف الصحراء إلى أعماق الغابات الإستوائية) قد أصبح جزءاً من الماضي، وتاريخاً سيحكي للأجيال القادمة في البلدين لتحكم على أسبابه ونتائجه. وبالتالي؛ وبما أن إنفصال جنوب السودان وكما ذكرت جاء كنتيجة تراكمية (كماً ونوعاً) لعلاقة الإحتكاك الطويلة، إلا أن نقطة الإنهيار الحاسمة على طول مسار تلك العلاقة، والتي قادت للتسارع نحو نهايات تكوين دولتين، كانت مع الإنقاذ وسلوكها السياسي القائم على أسس آيديولوجيا إقصائية، قطبيها عنصري الدين/العرق (= الإسلام/العروبة) في بداياتها، حتى إنتهي بها المطاف في خريف أيامها إلى إسقاط مكوّن الدين(المشروع الحضاري)، والتمترس بصورة شبه كلية في خندق العنصرية المتمثلة في رؤية مثلث السودان المحوري (مثلث حمدي). إن الأمانة تقتضي تثبيت ذلك خاصة في هذه اللحظات الفارقة من تاريخ السودان السياسي المعاصر، بإعتبارها ليست وليدة الصدفة، وإنما هي النتيجة الموضوعية أو "الحتمية" للفشل المتسلسل لكل النخب التي حكمت منذ الإستقلال وإلى يومنا هذا في أن تصيغ "مشروع وطني" قادر على إستيعاب التنوع، وتحقيق التقدم الإجتماعي/الإقتصادي، والإستقرار السياسي. هذه النهاية الدرامية كتبت فصولها الأخيرة بالدماء والدموع على صفحات التاريخ، الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني على وجه الخصوص.
الأن أصبحت هناك واقعياً دولتين سودانيتين (أشبه من حيث المظهر بوضع كوريا الجنوبية والشمالية)، تحملان تاريخاً مشتركاً، ورحل كل طرف وفي داخله جينات هذا الصراع الطويل. دولة السودان الجنوبي تتطلع نحو تحقيق أحلامها وطموحاتها في تكوين أمة جديدة متطورة، تحقق ذاتها وهويتها ورفاهية شعبها، بينما في المقابل، دخلت دولة السودان الشمالي مجدداً في بؤر الصراعات مع أطراف قديمة/جديدة تقاتل من الناحية الجوهرية لنفس الأسباب التي دارت بسببها الحرب الأهلية في الجنوب طوال أكثر من خمسين عاماً، مع إختلاف طفيف في معادلة الصراع هذه المرة. وبالتالي؛ ومن الناحية الموضوعية أيضاً، ستظل العلاقة بين الدولتين ولفترة ليست بالقصيرة: (1) محكومة بهذا التاريخ المشترك (2) ما ترسّب من إتفاقية السلام الشامل (3) التدخلات المتوقعة في الشأن الداخلي لكل طرف في مثل هذه الشروط، والتي غالباً ما تكون مدفوعة بماضي العلاقة بين الدوليتن والصراع الجيوإستراتيجي في المنطقة (4) العوامل الإقتصادية والإجتماعية التي تجمعهم بطول الحدود المشتركة.
إن الوضع في دولة الجنوب وإلى حد ما، ليس بالسوء الذي قد يتخيله البعض مقارنة بدولة السودان الشمالي، خاصة على صعيد الفرص المتاحة، وهو إستنتاج قد يراه البعض في منتهى الغرابة وعدم المعقولية على خلفية الصراعات القبلية العنيفة التي بدأت في الظهور في دولة السودان الجنوبي مع نهايات العام الماضي وبدايات هذا العام، وما قد تفرزه من عدم إستقرار سياسي وخلافه (!). هذه المقولة مستمدة من النظر إلي ما يحدث في دولة السودان الجنوبي من زاوية مختلفة، أي؛ النظر إلى ما يحدث في سياق وإطار عمليات بناء وتطور الأمم والشعوب، خاصة في المجتمعات التي تنطبق عليها شروط وسمات المجتمعات السابقة للرأسمالية، بإعتبار أن ذلك يمثل السمة الأبرز عندما نقوم بتحليل بنية المجتمع في دولة السودان الجنوبي. أن نمط هذا الصراع القبلي/الإثني لا يحمل معه أو في داخله أسس آيديولوجية سمتها الإقصاء السياسي، وإنما هي جوهرياً صراعات تقليدية بين كيانات إجتماعية/إثنية تتميز بأنها: 1.صراعات مرتبطة بتاريخ التنافس الإجتماعي/الثقافي/الإقتصادي بين هذه المجموعات في صورته التقليدية (التنافس على مصادر الثروة والنفوذ في شكله التقليدي)؛ 2.طبيعة التحول في إمتدادت هذه الصراعات، بمعني؛ أن التدخلات التي كانت تحدث في السابق من الحكومة المركزية في الخرطوم عن طريق تأليب مجموعات إثينة ضد أخري، كانت تتم في إطار إستراتجياتها أي الحكومة/الحكومات المركزية لمواجهة حركات التحرر في الجنوب (حركة الأنانيا 1955 - 1972، والحركة الشعبية 1985 2005). أما تلك التي تحدث الآن بعد الإنفصال وعلى الرغم من ثبات النوايا والدوافع، و إختلاف آليات وأداوت التنفيذ فهي تحدث في إطار أوضاع قانونية ودستورية مختلفة عن السابق، إذ لم تعد الحكومة المركزية في الخرطوم تتدخل في شئون الجنوب بإعتباره جزء من دولة السودان التي تحكمها، وإنما تتدخل كدولة جارة، وهذا الفرق في الوضعيتين بالضرورة سينعكس على طبيعة الأهداف السياسية المراد تحقيقها.
لذلك فإن أمل التقدم الأمام لدولة السودان الجنوبي ممكناً عند النظر لطبيعة الإشكاليات الداخلية التي تجتاحها، لا وبل قد يكون ذلك أمراً مقدوراً عليه، شريطة: 1. تجاوز النخب الحاكمة في الجنوب لتجربة فشل النخب السابقة في السودان، بالإتفاق على "مشروع وطني جنوبي" يتخطي حاجز العلاقات المتأخرة التي تتميز بها المجتمعات السابقة للرأسمالية وإشكالياتها ذات الصلة. 2. التعامل مع تدخلات دولة السودان الشمالي في الشأن الجنوبي بأفق إستراتيجي أكثر من ردود الفعل، والسعي لتوطيد وتمتين العلاقات الإستراتيجية مع القوى السياسية الشمالية ذات المصلحة الحقيقة في التغيير والإستقرار والأمل في إعادة بناء الدولتين منفصلتين أو متحدتين في أي صورة من الصور على أسس جديدة، وكل ذلك في إطار تعاون إقليمي.
في المقابل فإن الوضع في دولة السودان الشمالي لا يبشر بالتفاؤل في حدوث أي تطور نوعي على كافة الأصعدة، بدليل أن عشية إنفصال السودان الجنوبي، دخل السودان الشمالي مباشرة في معمعة صراع جديد مع قوى الهامش الشمالي لنفس الأسباب التاريخية السابقة كما قلنا، حتى أصطلح على تسمية هذا الوضع من بعض الناشطين سياسياً ودوائر مهمتة بالشأن السودان ب" الجنوب الجديد"، في إشارة إلى تشابه وإستمرارية نفس أسباب النزاع في الماضي والحاضر، بالإضافة إلى أوضاع إقتصادية تشير الكثير من القرائن إلى أنها تمضي حثيثاً بإتجاه التردي والتي تتلخص أسبابها الحقيقية في إنهيار القطاعات الزراعية كنتيجة للسياسات التي إتبعتها الدولة في تصفية هذه المشاريع، وفقدان أكثر من 70% من ريع البترول بعد إنفصال الجنوب.
إن قراءتنا لهذا الصراع القديم المتجدد ستنصب على تحليل البنية الداخلية لكل أطرافه (الجبهة الثورية السودانية ومكوناتها والحزب الحاكم وحلفائه)، بإعتبارهما يمثلان قطبي الصراع في المرحلة المقبلة من تاريخ السودان الشمالي. وذلك من خلال البحث عن التناقضات الداخلية وتحليلها.