المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    بيان هام من السفارة السودانية في تركيا للسودانيين    "بناء الدولة وفق الأسس العلمية".. كامل إدريس يدعو أساتذة الجامعات للاسهام في نهضة البلاد وتنميتها    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    نبيل عبد الله: قواتنا بالفرقة 14 مشاة صدّت هجومًا من متمردي الحركة الشعبية بمحطة الدشول    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    أكثر من 8 الاف طالب وطالبة يجلسون لامتحانات الشهادة الابتدائية بسنار    كيف تغلغلت إسرائيل في الداخل الإيراني ؟!    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    فيكم من يحفظ (السر)؟    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الربيع العربي والثورة المضادة


Today's article
السبب الرئيس لتردد الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، فى دعم الإنتفاضة السورية هو ظهور الجماعات السلفية والأصولية وسط الثوار الحاملين للسلاح، حسب المعلومات الإستخباراتية...بالإضافة للبصمة التى تدل عليهم: التهليل والتكبير واللحى والسمت المميز.......ورغم ذلك فإن الغرب لم يتخل عن الشعب السوري تماماً...فهو يلاحق نظام الأسد بالإدانة تلو الإدانة...وبالعزل والمقاطعة...وبالقرارات الحازمة الصادرة عن مجلس الأمن برغم العرقلة الروسية والصينية...وبتزويد الثوار بأجهزة الاتصال والأسلحة الخفيفة..إلخ...ولكن، فى نفس الوقت، تبدى الدوائر الدبلوماسية الغربية تخوفاً حقيقياً من أن ذلك السلاح قد يتناهى إلى أيدي الأصوليين المتطرفين المرتبطين ب "القاعدة"، كما قال وزير الخارجية البريطاني الأسبوع المنصرم.
وتدل تجارب دول الربيع العربي المختلفة، تونس ومصر وليبيا واليمن، علي أن للجماعات السلفية المذكورة وشركتها القابضة (تنظيم الإخوان المسلمين الدولي) وجود مكثف ubiquitous وذو خطر كامن...(بمعنى...تحت كل حجر ثعبان متكوّر).....فقد يلبدون ويتوارون بعض الشيء عندما تدلهمّ الخطوب، فى لجة الإنتفاضة، ولكنهم سرعان ما يظهرون على السطح...ويدّعون فى بادئ الأمر التماهي مع شعارات الثورة...ويندسون فى وسط الجماهير المنتفضة....ثم شيئاً فشيئاً يجيّرون الثورة كلها لمصلحتهم....ويبتلعونها بشحمها وعظمها وأظافرها...warts and all.. ....لسبب بسيط: كونهم القوة الوحيدة المنظمة والمكتنزة مادياً ولوجستياً..والمدعومة بالدولار النفطي...كما دلت التجربة حتى الآن...باستثناء ليبيا التى هُزم الإخوان فى انتخاباتها...ولكنهم لا زالوا يشكلون خطراً محسوساً، وقد نجحوا حتى الآن فى إبطاء التقدم نحو الديمقراطية بسلسلة من المؤامرات...بداية بتعطيل تكوين مجلس الوزراء لأكثر من شهرين...وإثارة النزعات المناطقية...مما سيقود لإضعاف الدولة وهز الإقتصاد واستشراء الفوضى وتمكين الجهوية والقبلية...وذلك هو الطريق نحو الإنقلاب المضاد الذى سيكون لصالح الإخوان بلا أدني شك...فهم دائماً وأبداً يسعون للانفراد بالسلطة...و لا يقبلون المشاركة....خاصة من قبل الجماعات العلمانية أو الفعاليات الممثلة لأصحاب الأديان والثقافات الأخرى.
وهكذا، فإن ثورات الربيع العربي ليست المحطة النهائية فى لعبة الروليت العربية...ألا وهي تبادل السلطة بين القوى السياسية المختلفة...وبين الأنظمة المختلفة...تلك التى ثارت ضدها الجماهير....أو التى جاءت لكراسي الحكم بعد الإنتخابات فى أعقاب تلك الثورات...فكل ربيع سيعقبه صيف ساخن ثم شتاء قارس....ثم تظهر الحاجة مرة أخري لربيع يقتلع الاستبداد من جذوره...وستظل المنطقة التى شملها الربيع العربي المنصرم نهباً لحلقة شريرة من: الإنتفاضة / ثم الديمقراطية المعطوبة / ثم الإنقلاب العسكري / ثم الإنتفاضة مرة أخري....ولكم فى السودان أسوة حسنة.
وإذا تمعنّا فى التجارب المماثلة التى مر بها السودان لتزوّدنا بعبر ودروس هامة حول تطور الأوضاع اللاحقة للإنتفاضة الشعبية.....فالإخوان المسلمون هم هم على مر التاريخ...كراً وفراً...(يلبد الورد السبنتا وله من بعد افتراس)...يتماهون مع الثورة..ويجأرون بشعاراتها...ريثما يتآمرون عليها أو يلتهمونها أو يمزقون البلد الذى قامت فيه..ويخربونه كخراب سوبا....... ومن المناسب البدء بثورة الحادى والعشرين من أكتوبر 1964...ليس فقط استدعاءاً لتلك العبر والدروس...ولكن أيضاً من باب الإحتفاء بتلك الحركة العملاقة...وإحياء ذكراها الثامنة والأربعين.
فقد اندلعت ثورة أكتوبر ضد نظام الجنرال إبراهيم عبود الذى جثم على صدر البلاد لست سنوات، وحكمها بالحديد والنار...وكان فظاً للغاية فى قمعه للمعارضة فى جنوب السودان بالتحديد...إذ كانت سياسته المعلنة هي (الأرض المحروقة)...وبالفعل أباد جيش عبود قرى الجنوبيين وفتك بأكثر من مليون من سكانه، تماما ً كما فعل صدام حسين مع الأكراد......وهاجر الباقون للدول المجاورة...يوغندا وكينيا...وظلوا هناك حتى ذهاب ذلك النظام.
وكانت مشكلة الجنوب هي الفتيل الذى أشعل انتفاضة أكتوبر...كحادث البوعزيزي فى تونس...إذ نظّم اتحاد طلاب جامعة الخرطوم مساء الأربعاء 21 أكتوبر 1964 ندوة عن مشكلة جنوب السودان خاطبها مندوبو الأحزاب...ومنهم الدكتور حسن الترابي ممثلاً للإخوان المسلمين....ولكن قوات الأمن تدخلت وأخلت المكان بالقوة المفرطة...بل استخدمت الرصاص الحي الذى راح ضحيته الطالبان الشيوعيان أحمد القرشي وبابكر عبد الحفيظ...فكانت ردة فعل الشارع ثلاثة أيام متتالية من المظاهرات السلمية الصاخبة بالعاصمة المثلثة وكل مدن السودان الرئيسة....إلى أن أذاع الفريق عبود خطاباً بالراديو أعلن فيه حل المجلس العسكري ومجلس الوزراء والبرلمان والحزب الحاكم... ودعا مندوبي أحزاب المعارضة لمفاوضات تسليم السلطة...وتم الإتفاق على حكومة بها ممثل لكل حزب (الشيوعي والإخوان المسلمين والوطني الإتحادي والأمة)...وممثل للعمال (الشهيد الشفيع أحمد الشيخ رئيس إتحاد العمال وعضو سكرتارية الحزب الشيوعي)...وممثل للمزارعين (الأمين محمد الأمين (رئيس اتحاد مزارعي الجزيرة وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي)...بالإضافة لثمانية ممثلين ل"جبهة الهيئات"... تحالف النقابات والمنظمات الأهلية الذى نشأ فى عنفوان المعركة واضطلع بتنظيم الإنتفاضة وسار بها حتى لحظة التفاوض مع ضباط الجيش. ولقد أسندت رئاسة الحكومة لسر الختم الخليفة حيث أن الأحزاب قد أجمعت عليه لوطنيته ونزاهته وحياديته بين التيارات السياسية المختلفة...وفوق هذا وذاك....لقبوله عند الجنوبيين بحكم سنين خدمته الطويلة معلماً وإدارياً تربوياً بالجنوب....وعلاقاته الحميمة بكل ألوان الطيف الشمالية والجنوبية.
سارت الأمور لبضع شهور علي ما يرام...ولو كان السودان محظوظاً لاستمرت حكومة الانتفاضة حتى ترسي دعائم النظام الديمقراطي الوليد...وبالتحديد، كانت تلك فرصة جهنمية لحل مشكلة الجنوب إلى الأبد...فلم يكن سقف الجنوبيين أكثر علواً من الحكم الذاتي الإقليمي للمديريات الجنوبية الثلاث فى إطار سودان موحد...ذى علم واحد وجيش واحد وعملة واحدة ووزارة خارجية واحدة...إلخ. وبالفعل، كان أول إنجاز لحكومة سر الختم الخليفة هو "مؤتمر المائدة المستديرة" الخاص بمشكلة الجنوب ...وقد شاركت فيه كل الأحزاب الشمالية والجنوبية بالإضافة للحركة الجنوبية الحاملة للسلاح (الأنيانيا). وكان مجرد اجتماع تلك القوى وتحاورها مع بعضها البعض سابقة ليس لها شبيه فى تاريخ السودان....وخرج المؤتمر بتوصيات جيدة كان من الممكن أن تقود لحل مشكلة الجنوب لو تمت متابعتها...ولكن تلك الحكومة نفسها واجهت حملة شرسة ومباغتة من قبل الأحزاب اليمينية الممثلة فيها...وهي بالذات حزب الأمة والإخوان المسلمين....وقد بدأ فى تلك الأيام تقارب مريب بين الإخوان وجناح بحزب الأمة يقوده الصادق المهدي (الذى أصبح صهراً للترابي زعيم الإخوان قبيل ذلك)...وكانت نتيجة الضغط المكثف على سر الختم الخليفة (الذى أصبح هو كذلك صهراً لآل المهدي فى تلك الأيام)...أن تقدم باستقالة الحكومة لمجلس رئاسة الدولة...وتم تكوين حكومة الإنتفاضة (رقم 2)...بعد التخلص من الشفيع والأمين مندوبي العمال والمزارعين...ومن ممثلي جبهة الهيئات...وبذلك أصبح توازن القوى لصالح الأحزاب التقليدية التى كانت قد أوصلت البلاد لتلك الحالة البائسة ...مما جعل الجيش يتدخل ويستولى علي السلطة فى 17 نوفمبر 1958.
وبعد عام من الإنتفاضة، تمت الإنتخابات البرلمانية التى جاءت بالأغلبية من الأحزاب التقليدية، أي الوطني الإتحادي والأمة، بينما لم تحرز القوى الحديثة التى فجرت الإنتفاضة سوى بعض المقاعد فى الدوائر المغلقة للمتعلمين (دوائر الخريجين)...حيث فاز الشيوعيون بأحد عشر مقعداً وفاز الإخوان بمقعدين، كان أحدهما من نصيب حسن الترابي. وكان واضحاً أن القوى التى اضطلعت بالإنتفاضة... تنظيماً وتنفيذاً... مع كل تضحياتها ودمائها التى سالت...والقوى الجنوبية الحاملة للسلاح...أصبحت مهمّشة وخارج اللعبة السياسية...وما كانت قد حظيت به من تمثيل فى حكومة الخليفة الأولي...ومن اهتمام جسده مؤتمر المائدة المستديرة...عبارة عن سحابة صيف ما لبثت أن تقشّعت...مثل كميونة باريس التى حكمت فرنسا لثلاثة أيام عام 1871...ثم ذهبت ريحها إلى الأبد...وكان واضحاً أن القوى التقليدية، المتحالفة مع الإخوان المسلمين، ليس لها هم غير تصفية الحسابات السياسية والمزايدات والمناورات التى تهدف فقط لديمومة السلطة من أجل السلطة...وليس لمصلحة الجماهير...وليس لحل مشكلة الجنوب أوغيرها من القضايا المستعصية والمزمنة...فكان أول إنجاز لتلك القوى التقليدية، بتحريض لحوح من الإخوان المسلمين، هو إصدار تشريع بعدم قانونية الحزب الشيوعي وبطرد نوابه الأحد عشرة من الجمعية التأسيسية (البرلمان)...وكانت تلك أول حلقة فى مسلسل "أخونة" الدولة والتمهيد للدستور الإسلامي الذى سعي نحوه الإخوان المسلمون بالظلف والناب داخل وخارج الجمعية التأسيسة، وقد شايعهم فى ذلك الحزبان الكبيران، الأمة والإتحادي، باعتبارهما حزبان طائفيان ومرجعيتهما الإسلام فى نهاية التحليل، وذلك وضع لا بد من المحافظة عليه طالما ظل يضمن لهما الأغلبية فى البرلمان...بحكم الولاء الطائفي للناخبين...الذين يشكلون غالبية أهل السودان...وبالذات فى المناطق الريفية التى لم يبلغها التعليم بعد.
وما أن أُبعد اليسار والعلمانيون والجنوبيون من الساحة، وما أن خطت المؤسسة الحاكمة خطوات عملية عبر ما يسمي بلجنة الدستور نحو (الدستور الإسلامي)....حتى استأنف المقاتلون الجنوبيون حربهم ضد الوجود الشمالي بالجنوب....وحتى تعمق الاستقطاب فى الشمال نفسه بين المهمشين والكادحين من جانب....والصفوة الحاكمة التى ولغت فى الفساد والمحسوبية من الجانب الآخر ....وكانت النتيجة انقلاب جعفر نميري فى 25 مايو 1969....وقد خفت لنصرته القوى الحديثة (موكب 2 يونيو التاريخي) وشارك قادة الحزب الشيوعي والقوميون العرب فى الحكومة الأولى التى كان يرأسها بابكر عوض الله...القاضى السابق والناصري المتطرف...وكان أول وأفضل إنجاز لنظام نميرى هو اتفاقية أديس أبابا 1972 مع الأنيانيا بقيادة اللواء جوزيف لاقو...بناءاً على توصيات المائدة المستديرة 1965 ...وتمخض الإتفاق عن حكومة إقليمية بجوبا تتمتع بالسلطات التنفيذية التى تتمتع بها ولاية فى نظام فدرالي...فى إطار سودان موحد.
ولقد نعم الجنوب بسلام عظيم لمدة عشر سنوات، وأصبحت العدائيات شيئاً من الماضي.... ولكن مرة أخرى ظهر الإخوان المسلمون فى الأفق..وأوحوا لنميري بأنه الحاكم بأمر الله...ودفعوه ليعلن قوانين سبتمبر 1983 التى اعتبروها تطبيقاً للشريعة الإسلامية...وبايع الشيخ حسن الترابى الذى كان مستشاراً للرئيس النميري آنئذ....بايع النميري أميراً للمؤمنين (مثله مثل الملا عمر الذى جاء بعد ذلك فى أفغانستان)...فكان طبيعياً أن ينسلخ الجنوبيون من النظام..وأن تشتعل الحرب مجدداً...ومنذ ذلك العام...1983...بدأت أنيانيا 2 نشاطها بقيادة العقيد الدكتور جون قرنق دى مابيور..وبعد قليل أسمت نفسها (الحركة الشعبية لتحرير السودان)، وأطلقت على مليشيتها اسم (الجيش الشعبي لتحرير السودان).
وهكذا، فقد أدخل الإسلاميون بقيادة الترابي السودان فى نفق جديد مثقل بالإستقطابات الحادة بين الشمال والجنوب...وبين القوي العلمانية وفقراء المدن والأرياف...وبين الطغمة الحاكمة التى أصبح الإسلاميون لحمتها وسداتها...مدعومين بالمصارف الإسلامية الخليجية التى كانت تحت إدارتهم وتوجيههم...ولقد ساهمت تلك الأوضاع فى (الفجوة الغذائية) عام 1983/84 التى كانت فى الواقع مجاعة مهلكة ضربت إقليمي كردفان ودارفور، كما ساهمت فى حراك القوى الحديثة ضد النظام الذى تأسلم فجأة عام 1983. وأخذت الغيوم تتجمع فوق السموات السودانية...وأخيراً افترع الشعب السوداني الربيع العربي الحديث بانتفاضة عارمة فى أبريل 1985 أودت بنظام النميري...وجاءت بحكومة مؤقتة (لعام واحد) برئاسة طبيب إسمه الجزولي دفع الله...أعقبتها انتخابات لم تكن القوي التى نفذت الإنتفاضة جاهزة لها...ففازت القوي التقليدية مرة أخرى (إذ حصل حزب الأمة على 102 مقعداً والإتحادى على 64 مقعداً ولإخوان على 52 مقعداً جلها فى دوائر الخريجين، بينما لم يحصل الشيوعيون على ثلاثة مقاعد.) ولم تجد القوى الحديثة – العمال والمزارعين والطلاب والمرأة – مكاناً فى تلك المؤسسة التشريعية التى لم تدم طويلاً، على كل حال.
ورغم الوضع المريح للإخوان المسلمين فى الجمعية التأسيسية وفى الأجهزة الإعلامية وعلى نطاق حركة الطلبة فى كل الجامعات، ورغم المنعة الإقتصادية التى تمتع بها حزبهم بحكم المؤسسات المصرفية وغيرها التى كانت تأتمر بأوامره...إلا أنهم كانوا منذ أول يوم للديمقراطية (الثالثة) يتآمرون ضدها ويعدون للإنقلاب العسكري الذى أطاح بها فى 30 يونيو 1989 بلا أدنى مبرر سوى الإنفراد بالسلطة وإقصاء الآخرين....وهذا ما حدث منذ ذلك التاريخ حتى اليوم...وكانت النتيجة سماً زعافاً تجرعه الشعب فى شكل قمع مستمر وقوانين استثنائية ما زالت نافذة...وتخريب اقتصادي...وتضييق على الجنوبيين وكافة القوميات المهمشة...فانفصل جنوب السودان...وهنالك حروب مستعرة ضد أهل دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق... لا شك فى أنها ستقود لانفصال تلك الأقاليم كذلك عن شمال السودان.
إن الإخوان المسلمين الذين جاؤوا للسلطة فى بلدان الربيع العربي لا يختلفون عن إخوان السودان...وهم الآن يسعون بالحيلة والتقيّة والأساليب الناعمة والخشنة فى آن واحد لفرض الدساتير المؤسسة على الشريعة الإسلامية...فهي الهدف الرئيس لوجودهمraison d'etre .........وذلك يعني الخلط بين الدين والدولة...ويعني تهميش أهل الديانات والإثنيات الأخرى...والشريعة التى يقصدون هي التى فسرها سيد قطب وأبوالأعلى المودودي...التى تتحدث عن (الحاكمية لله)...أي أن الحاكم سيحكم باسم الله ومن يعارضه إنما يعارض الحق عز وجل...ولم نقرأ لأي إخوانجي مصري أو تونسي أو غيره اجتهاداً كالذى كان قد جاء به محمود محمد طه... ومحمود هذا اعتبره الإخوان السودانيون زنديقاً (كما قال الترابى فى الدوحة هذا الشهر) وحرضوا نميرى علي قتله..فأعدمه فى يناير 1985...أي قبل الإنتفاضة التى أطاحت به ببضع شهور.
ولكن، من حسن الحظ أن الشعوب المعنية فى مصر وتونس، علي الأقل، أدركت أحابيل الإخوان ، ولن تنطلي عليها المؤامرات التى انطلت على أهل السودان...وسيشهد يوم الجمعة هذا أكبر مسيرة بميدان التحرير لكل القوى الرافضة للدولة الدينية بمصر...وقد تجمعت كل هذه الأحزاب تحت لافتة واحدة.. وتلك بشارة خير..وحقاً (لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون)...وطالما أن الإخوان فى مصر أم الدنيا سيتم تحجيمهم..فتلك بداية نهايتهم.
ألا هل بلغت اللهم فاشهد!
والسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.