أنظر في هذا المقال إلي حالة الفصام التي نعيشها في السودان كما في العديد من الدول الإفريقية و العربية ودول العالم الثالث بين أماني و طموحات ودوافع الغالبية الساحقة من الشعب , و تلك التي تجيش بها أو تتفاعل معها الطبقة المتعلمة أو المستنيرة . يعيش المواطن الريفي واقعاً مأساوياً ومتردياً في كل أوجه الحياة . فالإنسان هنالك أسير سرمدي للتخلف و يمضي حياته دون رؤية , ودون كبير أمل عدا العيش . أدوات الإنتاج هي نفس الأدوات التي كانت تستخدم منذ عهد الفراعنة , المحراث الخشبي الذي تجره الثيران أو البغال , و التنقل علي ظهور البغال و علي ظهور الحمير أو الجمال أو الأبقار . و الطبخ و الغزل وصيد السمك و صناعة المغازل و الأدوات والملابس كما الزراعة تتم بنفس الأسلوب البدائي الذي لا يعتمد علي مصدر إمداد خارجي لأن ذلك محرم و معدوم وظل حكراً للمدينة ( العاصمة ) , و معظم أهل الريف ظلوا يعيشون في ظلام و ينتشلون الماء من الآبار أو الرهود أو النهر لأؤلئك المحظوظين الذين ولدوا علي ضفة النهر , ناهيك عن سكان البيئات الصحراوية في شرق السودان و غربه و شماله المبتعدين عن النيل , فمأساة أولئك أعمق و حظهم في التخلف أعظم , و نصيبهم من الحياة و معطيات الحضارة يكاد يكون صفراً , أو دون الصفر . علي الجانب الآخر ينعم إنسان المدينة بشئ من كل معطيات الحضارة , فالحضارة هنا حاضرة وملموسة , تكاد تجد في مدننا الأفريقية كل ما قد تجده في باريس أو لندن . حين تعلم أبناء الريف و نجح من نجح منهم في إختراق حصن المدينة بأي كيفية , و لكن خاصة من بوابة التعليم , حين تم هذا الإنتقال , قبع المتعلمون منا في العواصم أو العاصمة بالتحديد , و أوصدوا باب العودة للوطن الأم , قنع المتعلمون بالوظائف الديوانية التي أتاحها التعليم و التدريب العاليين , و إغتنموا الفرص التي أحدثها التوسع في دولاب الحكم , و الخدمات المتمركزة , و عاماً إثر عام حدث إنفصال تام بين النخبة المتعلمة من أطباء , معلمين , أو مهندسين أو باحثين أو حتي الشعراء و الفنانين و الوطن الأم الذي لا يناسب طموحاتهم . فالوضع المتردي و المتحجر في الريف لا يتيح لهذه الكفأءات مجالاً للعطاء , هذا هو المبرر الكبير الذي تمترسنا تحته نحن المتعلمون , وبما أننا نحن أصحاب القرار في الهيئات الحكومية المركزية مثلاً ( المستشفيات , الهيئات الزراعية و الصناعية , منافذ التعليم و التدريب العالي , منابر الثقافة , إلخ.... ) فقد ظللنا نعمق هذا الإنفصام بحجب الخدمات ( الراقية ) عن إنسان الريف بدعوي أنه جاهل , وتارة بدعوي بعد المسافة ( مماذا ؟؟؟ ) و تارة بدعوي إنعدام الأزرع المساعدة للخدمة المعنية وهكذا . قبعت الكوادر المدربة و عالية التأهيل في الخرطوم , وحدث تقاطر كالرشاش لبعض الكفاءات لبعض عواصم الأقاليم , وكان مثل ذلك التقاطر يتم بعد كل جهد , و حين يحدث يستشعر من نفذ النقل أنه معاقب . نتج عن هذا الإبتعاد عن الوطن الأم عدة إفرازات أولها الشعور المزمن بالتهميش عند إنسان الريف السوداني و الذي لا يحتاج الباحث لكثير جهد لإثباته , في كافة نواحي الحياة , ونتج شعور بالقهر و العقم و السلبية نحو الصفوة في إنتشال الأمة من وهاد الجهل و التخلف , ونتج عن ذلك هذه الهوة السحيقة من الانفصام بين خطابي المجموعتين الدعوي و النهضوي . ففي حين ظلت الصفوة تتحدث عن تطور المجال السياسي و الحقوقي ( الديمقراطية , حقوق الإنسان , الحكم الرشيد , إلخ... ) ظلت الكيانات الريفية لا تأبه بذلك كثيراً بل تنادي بالماء و الكهرباء و المدارس و المستشفيات و الطرق , نعم أؤمن كما الكثيرون أن كل الخدمات و المكاسب الحياتية لا تسمو علي الحرية , ولكن يظل هذا منظوراً أحادياً و إنفصامياً من منطلق المطلب القومي الهادف و الناشد للنهضة , ذلك أن إنسان الريف لا يشعر بالاضطهاد ولا بمصادرة حرياته , ولا بأي معاني الديكتاتورية التي قد يستشعرها سكان المدن ( العاصمة ) في السودان ربما علي مدار اليوم . فالإنسان الريفي حر بكل معني الكلمة يتكلم كيف شاء و يرفع صوته بما شاء من ألفاظ و صفات و أماني و معاني , لأن السلطات الرقابية غير متواجدة في محيطه , فماذا يضير إنسان الريف عدم تمتع الصحافة بالحرية إذا كانت هذه الصحافة أصلاً لا تصل إليه . و ماذا يجديه أن يتحدث النواب في البرلمان , أو مجلس الشعب أو المجلس الوطني أو لا يتحدثوا أصلاً فهو لا يسمعهم , كما إنهم لا يسمعونه وهو قد لا يدري أن المجالس المذكورة منعقدة أو منفضة فهو لا يدري لوجودها معني من الأساس !!! لأن هذه المجالس تتركب تاريخياً من نفس الوجوه و بنفس الأجندة و تمارس عملاً بذات الطقوس و الديوانية التي تجعلها مجالس ( ونسة كبار ) ألم نقل ( حكاوي عطالي ) فقد تكونت عشرة مجالس برلمانية في السودان أو أكثر منذ الإستقلال ولم تفلح حتي الآن في التوافق علي دستور دائم ملزم للبلاد !! وقد إنعقدت مئات الجلسات البرلمانية و لم نسمع باية جلسة خصصت لمحاسبة وزير أو عزل مدير كما تفعل البرلمانات في الدنيا علي مدار العام . من المفارقات التاريخية التي أوجدها هذا الإنفصام بين الريف و الحضر أي بين الصفوة المتعلمة و أهل البلاد المحرومين من العلم و المعرفة , أن أهل الريف ظلوا بعيدين عن التنادي نحو الثورة أو الإنتفاضة أو حتي التحرير التي يسهر و يدأب عليها المثقفون علي مر الأجيال . فقد شيعت جموع المتسوقين و الباعة في سوق الخرطوم الرئيس الراحل أبراهيم عبود ( ذلك الرجل الطيب ) بعد سنوات من زوال حكمه بالهتاف و الإجلال صائحين ( ضيعناك و ضعنا و معاك ) ذلك رغم شح الخدمات المقدمة آنذاك !! كما أن الرئيس المخلوع ( جعفر نميري ) ظل بطلاً في نظر الكثيرين من أهل الريف السوداني , بل أن الإنتفاضة علي نظامه كانت عملاً حضرياً خالصاً ... و في هذه السياق أذكر مجادلة دارت بيني و بين أحد أبناء عمومتي من أهل الريف ( مزارع ) إثر إسقاط نظام مايو فذكرت ضمن أدبيات الإنتفاضة أن نظام نميري رحل اليهود الفلاشا إلي إسرائيل , فتهكم من ذلك بقوله ( إلي أين يرحلهم !) وحين ذكرت له أن النظام فعل ذلك مقابل رشوة مالية بلغت بضع ملايين من الدولارات , أجاب متهكماً ( إنتم كنتم بترحلوهم من دون مقابل !!! ) فأنظر إلي أي أرضية مشتركة بيننا نحن الذين ظننا أننا إنتفضنا من أجل الكادحين و من أجل الكرامة!! في مطلع الستينات وبعد سنوات من رحيل الإنجليز إثر نضال طويل من الحركة الوطنية الفريدة و سجون و أشعار و إرث نضالي , سرت موجة من التذمر و فاحت عبارات يا حليل الإنجليز!! . إن علي المتعلم في السودان كما في العالم الثالث مسئولية ضخمة يجب أن تتلأم مع ما حظي به هذا المتعلم من ثمرات كد و عرق مواطنه المحروم . هذا المواطن لذي ظل يكدح و يعطي و يرسل الدريهمات و يدفع الأقساط و يبني المدارس و يسهر علي راحة المعلم في الريف , يقوم بكل ذلك لكي يتعلم أبناؤه و بناته علهم ينتشلونه و بقية القطيع من براثن التخلف و الفقر و الجدب . إن هذا الواجب بتطلب النزول إلي الشعب و الذهاب إلي المواطن في الأرياف مهما إرتفعت مكانة المتعلم و مهما سما منصبه في العلم و التخصص , بل كلما سما مكانه رداً للجميل و عرفاناً لحسن الصنيع ووفاءً و لو معنوياً , وسيدهش ( الخبير ) و الإختصاصي و المستشار مما سيجده من ترحيب و تفاعل و تأثير وسط هذه الكيانات المحرومة و المتعطشة للمعرفة و النور . دعونا نتداعي نحو الريف .... دعونا نتبني مشروع العالم المتجول ......... دعونا نتبني مشروع المحاضر الريفي ....... دعونا نحمل أوراقنا و أشرطتنا و شرائحنا و أدوات سحرنا إلي الريف و نخاطب بها أهلنا ......... دعونا نشرح و نسرح و نتفاعل مع المزارع و الصياد و البصير و الفقراء ( من فقيهه ) و الإدارات الأهلية فإن لكل منا ما يقدمه .......... دعونا نقدم لهم ما هو متاح و ممكن في عالم اليوم .... دعونا نحلم فالإنجاز يبدأ بالحلم وسيكون لكل منا جمهوره ( أي والله ) .. دعونا نوقد شمعة و نترك لعن الظلام و لو لبرهة من الزمن .... دعونا نرد بعض الجميل ولو عذراًً ...