سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الجيش السوداني" (1)

بتواتر الأنباء حول صحة الرئيس، وبعضها تفيد بأنه في مرحلة متأخرة للغاية ، فإن غيابه بسبب داء عضال أو موت زؤام سوف يؤثر على كثير من القطاعات سلبا وإيجابا ، وعلى رأس القطاعات التي سوف تتأثر سلبا "الجيش السوداني ". سنحاول في هذا المقال تحليل بنية هذا الجيش وتقصي إمكانية بقاؤه أو فناؤه مع رمز النظام الذي هو رمزه.
احتفل الجيش السوداني بعيد ميلاده الخمسين في 14 أغسطس 2004م، دون أن نعلم المرجعية التي بموجبها تم تحديد هذا التاريخ الذي يبدو غريباً ، إذ يوحي كأن الجيش قد تم تأسيسه في عام 1954م . وهو تاريخ قريب نسبياً بالقياس إلى تاريخ نشأه أول نواة لهذا الجيش المسطر في المصادر، والمتمثلة في( قوة دفاع السودان ) التي شاركت بفعالية في الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) في جبهات كثيرة وخاصة في ارتريا وليبيا . ربما يعود تغاضي عن تاريخ نشأة هذه القوة إلى أن معظم ضباطها كانوا من العنصر الإنجليزي بعد استبعاد الفرق المصرية عام 1924م اثر اغتيال السير لي استاك ، وتقليص عدد الضباط السودانيين عقاباً للتمرد الذي قاده الضابط السوداني على عبد الطيف لأسباب مرتبطة بنفس الحادثة . ومن الواضح أن المحدد لهذا التاريخ قد قصد رفع الحرج الذي يسببه الارتباط تلك القوة بالاستعمار ليؤرخ قيام الجيش السوداني باستقلال البلاد وجلاء الجيوش الانجليزية وتسلم أول قيادة وطنية .
في كل الأحوال ، فقد عرف الجيش السوداني بالاحترافية والمؤسسية والمهنية العالية، والانضباط الشديد– مثلها مثل كثير من المؤسسات الأخرى التي خلفها الانجليز مثل الإدارة والقضاء والتعليم ...الخ- وقد حظي خريجي الكليات والمعاهد العسكرية السودانية باحترام كبير حتى من الدول الأخرى ،وقد انتدب عدد كبير من الضباط للعمل في كثير من الدول العربية خاصة في الخليج ، وأصبح خريجي المدرسة الحربية السودانية يحتلون مواقع متقدمة في الثورتين الارترية والفلسطينية .
وتقليداً للنمط الإنجليزي فقد تم تركيز الالتحاق بالمعاهد العسكرية على أبناء الطبقة الوسطى من الموظفين والتجار والعائلات الكبيرة في المدن وزعماء القبائل في الريف . وهي الفئات التي حظيت أبنائها بفرص التعليم المحدودة في العهد الاستعماري، خاصة مرحلة ما بعد الأوسط ،والمتمثلة في المدرسة الحربية ومدرسة البوليس وكلية غردون التذكارية ، والتي تحولت إلى أول كلية جامعية في السودان قبيل الاستقلال مع إنشاء أو ثلاث مدارس ثانوية .
هذا وقد مثلت المدرسة الحربية إحدى المؤسسات المنتجة للنخبة ، وبذلك أصبحت فئة الضباط من أهم شرائح النخبة الوطنية بما تمتعت بها من ميزة إضافية وهي " أنها المجموعة الوحيدة في السودان التي تمكنت من أن تصبح بوتقة صهر للعناصر القبلية والعرقية والإقليمية ، ومن ثم هي الوحيدة بين القوى السودانية الحديثة التي حققت نوعاً من التجانس فشلت فيه كل التنظيمات السياسية "( نقلا عن عبد الغفار محمد أحمد ).
لربما هو السبب الذي سهل للجيش في أن يتدخل في السياسة ويستولى على السلطة ثلاث مرات خلال ثلاثين سنة ،في عام 1958م بقيادة الفريق إبراهيم عبود وعام (1969م ) بقيادة العقيد جعفر محمد نميري وعام (1989) بقيادة العميد عمر البشير ..ورغم التدخل في السياسة إلا أن الجيش حافظ على مهنيته وهيكليته وعقيدته القتالية وروحه المعنوية حتى عام 1984 تقرييا ، كجيش وطني يقاتل حركة تمرد ، ورغم صعوبة القتال في غابات الجنوب والتعقيدات الجيوسياسية فلم يخسر الجيش أية معركة كبيرة تقريباً .
وعلى مستوى تجنيد الأفراد فقد اعتمد على الالتحاق الطوعي ، خاصة من بعض القوميات السودانية المعروفة تاريخيا تمتعها بروح الجندية ، مثل قومية النوبا في جنوب كردفان ، ومن عشائر حزام استعراب التاريخي على طول خط سافنا الممتد من جنوب دارفور حتى جنوب النيل الأزرق ، بينما بقيت العناصر الشمالية (مثل الشايقية والجعليين والدناقلة )-من غير الضباط بالطبع - كضباط صف يعملون في الخدمات الإدارية والمالية والفنية في الأساس.
فقد ساهم العمل في الجيش في عملية الحراك الاجتماعي ، لأن الإقامة في المناطق الحضرية والاستقرار الوظيفي الطويل والقدرة على الإنفاق النسبي ، كلها دواعي مشجعة الأفراد - ضباط الصف بخاصة - على تعليم أبنائهم. وبذلك ظل التوظف في الجيش ينظر إليه ايجابياً من قبل المجتمع .
بيد أنه ما أن حل منتصف الثمانينات القرن الماضي- أي في أوج الحرب الأهلية الثانية (1983م -2003م) -أخذت كل هذه الميزات الإضافية في التداعي، متلازماً مع التدهور الشامل الذي لحق بالسودان من جميع النواحي. وعلى إثر ذلك بدأ الجيش يتجرع هزائم مفزعة من مقاتلي الحركة الشعبية لتحرير السودان ، وكلما تقدمت الأيام ازدادت الهيكلية الإدارية هلهلة ،وازدادت المنظومة الأدائية تضعضعاً . وما أن أوشك العقد التاسع من القرن الماضي على الانصرام حتى وصل سوء تسليح الجيش حداً لا يمكن تخيله، وهوت معنوياته إلى الحضيض ، وتدهورت هيبة ومظهر الجندي، وتراجعت مكانته في المخيلة الجمعية، وتوقفت عمليات التطوع والاحتراف في صفوفه تقريبا.
لقد استغلت الجبهة الإسلامية القومية هذه الحالة المزرية التي وصل إليها الجيش لمعاقبة خصومها السياسيين ،وقامت بدفع عناصر تابعة لها داخل الجيش للانقضاض على السلطة قي يونيو عام (1989م) وإنهاء النظام الديمقراطي. وما أن بان الوجه( الإسلامي ) للحركة الانقلابية حتى توقفت المعونات التسليحية والمنح التدريبية الخارجية تماماً، إلا من دول هي نفسها تعاني من مشاكل جمة مثل العراق ، وازدادت بذلك حالة الجيش سوءاً على سوءها .
بيد أن التساؤل الملح هو: كيف حافظت حكومة (الإنقاذ) على الجيش السوداني من الانهيار التام، كما حدث لكثير من الجيوش الأفريقية ( الجيش الأثيوبي مثلا) التي وجدت نفسها في ظروف مماثلة ؟ في زعمنا أن ثمة عدة عوامل حالت دون حدوث هذا الانهيار ، ومن أهمها:
أولاً : وجود القيادة العسكرية على قمة السلطة السياسية قد ساهم في إنعاش الروح الداخلية للمؤسسة العسكرية والحؤول دون الهبوط إلى درك الاحتضار، لأن التحام القيادة العسكرية بالسلطة السياسية يغذي الشعور بالانتماء المشترك ، فضلاً عن تسهيل عملية اتخاذ القرارات الصعبة في الأوقات الحرجة، وبالسرعة المطلوبة ، وهو الأمر الذي ظل الجيش يعاني منه في عهود الحكومات المدنية .
ثانيا :تمت معالجة الخلل الناجم عن عزوف الأفراد للالتحاق الطوعي بالجيش عن طريق تفعيل قانون التجنيد القسري ( الخدمة الإلزامية ) ، ولأن الشعب السوداني لم يكن ضمن الشعوب التي لديها خبرة سابقة في هذا المجال ،فقد استنكف المطلوبون للتجنيد عن تلبية إشعارات الاستدعاء الطوعي ، مما دفع المسئولين إلى استخدام أساليب تتسم بالقسوة ، ووسائل مهينة لكرامة المطلوبين ، مثل تجميع الشباب من الطرقات والأسواق والحارات ، وحشرهم في شاحنات شبيهه بتلك التي تنقل المساجين ، وإلقاء بهم في مراكز تدريبية شبيه بمعسكرات الاعتقال . وقد أدى ذلك إلى نفور جماعي من العملية برمتها ، الأمر الذي دفع المجندين أحياناً إلى محاولات الفرار بالهروب الجماعي ، كما حدث في معسكر العيلفون عام(( ؟)199م )، والتي أدت إلى الموت المئات من المجندين غرقاً في النيل أثناء محاولتهم الهروب.
وعندما اتضح أن الحملات ومطاردات الشوارع (الكشات) لا تشبع نهم التجنيد ، ابتكرت السلطات العسكرية نظاماً جديداً يمكن تسميته ب( انتظار المطلوبين في البوابة السهلة ) ؛ مفاده: جعل أداء الخدمة العسكرية شرطاً أساسياً للحصول على فرصة الدراسة في الجامعات والمعاهد فيما عرف ب( دورات عزة السودان)حيث يتم التركيز على البناء الفكري أكثر من التدريب العسكري وكانت من نتائج ذلك ظهور طائفة الانتحاريين المعروفين ب(الدبابين)أي الذين يفجرون المدرعات بأجسادهم. واضطرت فئات أخرى إلى الحضور الطوعي لهذه البوابة ،مثل الخريجين الذين يبحثون على الوظائف أو أولئك الذين ينوون الهجرة إلى الخارج..الخ كل أولئك ألزمهم القانون الحصول على شهادة (أداء الخدمة العسكرية)قبل التمتع بالخدمة المطلوبة .
ثالثاً : تعويض الخسائر المترتبة عن قلة الموارد وتوقف معونات التسليح باللجوء إلى الشراء المباشر من دول أقل تقنية في صناعة الأسلحة مثل الصين وإيران كما لجأت إلى التصنيع المحلي رغم عدم توفر إي قاعدة صناعية في السودان ، إلا أن السلطات غامرت بإعادة تركيب بعض الأسلحة الروسية الكلاسيكية في مصانع محلية .
رابعاً : تغيير العقيدة القتالية للجيش من (حماية الوطن واستقلاله) إلى (حماية الدين وأمجاد الأمة)، وأصبحت صيحات الحرب من شاكلة (جاهزين.. جاهزين لحماية الدين ) هي السائدة بديلاً لل(جلالات) التقليدية. وقد كُرِّست عملية (التديين) في جميع مفاصل المنظومة العسكرية ، وشملت معظم المفاهيم والمصطلحات والرموز، إلى حد إزالة نصب (الجندي المجهول) باعتباره وثن ، وتحت زعم أن الدولة الإسلامية رمزها (الجندي المجاهد) وليس( الجندي المجهول) !.
ولم تكن هذه العملية التغيرية سهلة، حيث تطلب إجراء عمليات جراحية كبيرة في المفاصل الأساسية لهيكلية المؤسسة العسكرية. على رأس هذه عمليات التخلص من كبار الضباط من المحترفين الذين يصعب تعديل عقيدتهم ، وذلك عن طريق قوائم استيداع وتقاعد طويلة (تصل القائمة أحياناً إلى مئات الأسماء )وعمليات ردع قاسية تصل إلى حد التصفية الجسدية بالإعدامات الجماعية ممن يحاولون الوقوف أمام هذا التغيير(*) . ليحمل محلهم ضباط من الرتب الوسطى ممن جندتهم الحركة الإسلامية في عضويتها في مراحل سابقة أو عن طريق عملية(تسليل )عناصر أي سد العجز في فئة كبار الضباط بإلحاق كوادر مدنية من الحركة الإسلامية إلى صفوف الجيش ومنحهم رتب عسكرية كبيرة . فمثلاً أحد أساتذة الجامعة عندما تم استيعابه في الجيش ظهر وعلى كتفه علامات برتبة اللواء ! .وهو عين ما تفعله حركة العدل والمساواة الآن حيث نجد في صفوف المنتسبين إليها هذه الرتب العالية، ولعل الفرق الوحيد هو العدول عن استخدام المسميات العربية والحرص على المصطلحات الغربية مثل (جنرال) و (كولونيل ) و(بيرقدير) ..الخ.
خامساً : التعبئة والحشد : لقد رافقت عملية تغيير العقيدة القتالية للجيش حملة تعبئة شاملة في أوساط الشعب لجذب المتطوعين ، حيث قامت على شحذ العاطفة الدينية وشحن الأذهان بمفردات الجهاد والاستشهاد ،والتأشير الدائم إلى الفتوحات الإسلامية ، والتذكير بأيام العرب وأمجادهم ، والاستثارة الذاكرة اللوبيدية بحشود من المفردات المتعلقة بصون العرض وحماية الشرف . ونشأ بذلك جيش موازي عرف ب(الدفاع الشعبي ).
ولكن كأي عمل قائم على الحشد والتعبئة كان مفعوله وقتياً، إذ لا يمكن أن تشيد بناء في الهواء ،إذ اتضح أن( المشروع الحضاري ) الذي طرحته (الإنقاذ) كمبرر أخلاقي لهذا التغيير كان خواء ،لا يقوم على أيّة (قاعدة حضارية)، وإنما كانت محض شعارات تلوكها الألسن صباح مساء ، فسرعان ما نفد معين العاطفة الدينية الخالصة ، والنخوة العربية المزعومة ، وتهاوت دعاوى الجهاد والاستشهاد ، وأفلس المشروع في وقت قياسي لا يتعدى العقد الواحد .
وقد تركت هذه الحملة آثاراً غاية في السلبية على المؤسسة النظامية للجيش ، حيث أفقدتها العقيدة العسكرية ومن ثم الإستراتيجية القتالية ، وأندغمت من بقيت من قيادتها من الضابط المحبطين والمسلط عليهم سيف قوائم الاستيداع على الدوام - في هذه العقلية الهتافية، وأطلقوا لحاهم ،وتحولوا من ضباط عصريين إلى أشباه دراويش يحملون المسابح في أيديهم ويحمدلون ويحوقلون في كل حركة وسكنة .
وبضياع العقيدة العسكرية وفقد الإستراتيجية القتالية جاءت تكتيكات الجيش ومناوراته في غاية من البؤس بالمقارنة مع تكتيكات عدوته الحركة الشعبية لتحرير السودان. وأوضح الأدلة على هذا البؤس تلك الاحتفالات الصاخبة التي كان الجيش يقيمها كلما استعاد بلدة أو حتى قرية صغيرة ، وغالباً ما تكون قد أخلتها قوات الحركة الشعبية لدواعي تكتيكية ، حيث تقوم الحركة بمناورة بارعة وذكية تستعيد بها الموقع وتقضي على القوة الحكومية المحتفلة أو تقوم باحتلال بلدة أخرى أكثر أهمية من تلك التي فقدتها .
وقد تجلت قمة البؤس الفني لأداء الجيش عندما تمكن أمراء الجهاد من اختطاف زمام القيادة من الضباط العاملين وقاموا بإعادة تفعيل خطط عسكرية استخدمت في القرن السابع الميلادي ، إذ يذكر أحد قادة الفرق أنه فقد نصف قواته عندما عمل بنصيحة أحد الفقهاء المتطوعين والقائمة على تطبيق نظرية (الالتفاف) التي كان كل من خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص يطبقانها في فتوحاتهم الإسلامية !. ووصلت الغيبوبة إلى حد أن جلبت الخيل إلى جوبا بواسطة طائرات الشحن العملاقة لتقوم بنفس الدور الذي تقوم به في حزام السافنا ، وكان عملاً تهريجياً لم يسبق إليه مثيل ، حيث لم تستطع تلك الحيوانات المسكينة أن تعيش في تلك البيئة الاستوائية إلا بضعة أسابيع وانقرضت . ولعل العبقري الذي اقترح استخدام الخيل في خط الاستواء قد قصد الاستفادة من فعالية الحصان في حزام التماس، ولكن دون أن يدر في خلده اختلاف البيئة بين الإقليمين واستحالة بقاء الخيل حياً في خط الاستواء.
خلاصة القول أن من أبلغ النتائج التي أفرزها القتال بالحشود والمجاميع تلك الخسائر الرهيبة في الأنفس والأرواح,غير أنه-مع كل هذا الأثر السالب_ فقد ساهم في تأجيل موعد انهيار الكامل للجيش حيناً من الوقت ،حتى طرأت متغيرات أخرى عدلت تجاه المسار وجعلته موجباً .
سادساً : الاستفادة القصوى من التناقضات العرقية والصراعات التاريخية بين قبائل الجنوب . ومن الواضح أن هذا التكتيك كان من أكثر وسائل نجاحاً ونجاعة، حيث اعتمد بقاء الحاميات الحكومية في بعض المناطق واستعصاء سقوطها في يد الحركة الشعبية على هذه الوسيلة . وهنا بعض الأمثلة : ففي منطقة نهر البيبور في أعالي النيل مثلاً ، قامت الحكومة بدعم وتقريب شعب المورلي ، وهذه الجماعة رغم انتمائها عرقيا للمجموعة النيلوتية،إلا أنها تتميز بعداء مستحكم ضد شعب نيلوتي آخر هو الدينكا ، والذي يمثل أفراده قوام (الجيش الشعبي لتحرير السودان ). وقد استطاعت الحكومة أن تستغل هذا العداء التاريخي بين الجماعتين أيما استغلال ،وقامت بتعيين زعيم المورلي محافظاً على منطقة البيبور ، ومنحته رتبة اللواء في الجيش ، مع ما يتبع ذلك من منافع وامتيازات له ولحاشيته ، مقابل وقوف بصلابة أمام قوات الحركة الشعبية ، ومنعها من اختراق المنطقة. وقد وفت مليشيا المورلي بموجبات هذه الوكالة بشكل أدهش الجميع الذين أخذوا يتساءلون؛ كيف تمكن هذا الشعب الصغير والمغمور من صد جيوش الحركة الشعبية الجرارة ؟ والإجابة تكمن في الموروث الميثيولوجي لهذا الشعب .
لقد أصيب شعب المورلي بعاهة بيولوجية فريدة في بابها، تمثلت في انخفاض نسبة الخصوبة لدى نسائه إلى العقر الجماعي . وقد قام عالم النفساني السوداني الشهير المرحوم التيجاني الماحي بدراسة هذه الحالة بتكليف من مفتش مركز البيور في العهد الاستعماري ، وخلص إلى نتيجة مؤداها أن المورلي قد تعرضوا في تاريخهم البعيد إلى حروب إبادة جماعية من قبل شعب النوير إلى الشمال منهم , وسببت لهم تلك الحروب هزيمة نفسية وأوردتهم مسارب نزعة الميل إلى الانقراض ، وذلك وفقاً لفرضية ابن خلدون القائلة بأن " الأمة إذا غُلِبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء ...الأمة التي تخضع لغيرها تتربى على التكاسل فيقصر أملها ويضعف تناسلها ويتناقص عمرانها ...أذا أصبح الإنسان مغلوباً تكاسل حتى على طعامه وشرابه وهكذا تظل الأمة تتناقص إلى أن تفنى " .( راجع الفصل الرابع والعشرون من مقدمة ابن خلدون )
ولكن يبدو أن هزائم المورلي لم تكن ماحقة أو أن غريزة البقاء لديها كانت أقوى من أن تنطفئ بالكامل ،ويستسلم الشعب للقدر المحتوم ، ولذلك نجدهم ، ومن أجل المحافظة على عنصرهم من الانقراض، قد اخترعوا حيلة من حيل البقاء ، ألا وهي سرقة أطفال الشعوب الأخرى خاصة الدينكا إلى الغرب منهم والانواك إلى الشرق ‘وتبنيهم وتربيتهم على نظام محدد يخرجهم محاربين أشداء. بهذا السلوك الغريب تمكن المورلي من البقاء بين الشعوب النيلية الكاسرة ، وعلى العكس من طبائع وعوائد الشعوب المائلة للانقراض التي غالباً ما تتسم بالجبن والنكوص والاستسلام ، فإن هذه الصيرورة المعقدة , والمرتبطة بغريزة البقاء , قد أفرزت حالة سيكو- ثقافية مركبة ، جعلت الفرد من المورلي شخصاً يتمتع بسمات الشجاعة والإقدام والمجازفة في ركوب الأخطار والخطوب . وفي المقابل تولدت لدى الدينكا اعتقادات ذات أبعاد أسطورية تدعم كل وسيلة تعينهم على النأي والابتعاد عن(شياطين) المورلى ( الذين ما هم إلا أطفالهم المسروقين ) ، وتحول دون مجابهتهم ومنازلتهم .وقد رسخت طائفة من هذه المفاهيم الأسطورية في عقائد الدينكا بحيث غدت مسلمات غير القابلة للنقاش ، فمنها مثلاً اعتقادهم بأن الفرد من المورلي من المستحيل أن يخطئ هدفه في التصويب . لذلك نجد أن المورلي هو الشعب الوحيد من شعوب جنوب السودان الذي يستطيع أن يسوق قطيعاً من البقر من حوض البيبور لبيعها في أسواق جوبا في الإقليم الاستوائي ، طوال سنوات الحرب ، وهي مسافة لا تقل عن 700كليو متر ، دون أن تتعرض لها الشعوب القاطنة على طول خط سير قوافلها ،أو تعترض طريقها قوات الحركة الشعبية التي تسيطر على المنطقة .
ويتجلى المثال الثاني للتلاعب على التناقضات القبلية من أجل المحافظة على الوجود الرمزي للدولة في الجنوب في عملية حماية مجرى النيل ، وخاصة الجزء الأخطر منه ، والذي يمكن تحديده بالمسافة الممتدة من بلدة (بور) في أعالي النيل ، والتي هي مسقط رأس العقيد الراحل جون قرنق ، حتى مدينة جوبا . ففي خلال عشرين عاماً من الحرب ظل مجرى النيل مفتوحاً أمام حركة البواخر النيلية المحروسة، وكانت تكابد –أي البواخر- المصاعب الناجمة عن أعشاب النيل أكثر من مناوشات قوات الجيش الشعبي التي تنتشر على ضفتي بحر الجبل . ولم يأت هذا عن اتفاق ؛ وإنما عن طريق توكيل حماية هذا الجزء الأخطر من مجرى النيل على شعب المنداري ، وهو شعب ليس فقط من الجنس النيلوتي من رعاة البقر ,بل وهم من بني عمومة الدينكا ، ولكنهم من ألد أعداء الدينكا ، لثارات تاريخية حول حقوق المرعى. وقد قدمت الحكومة للمنداري مكافئات كبيرة وامتيازات كثيرة نظير هذه الخدمة ، بدءاً بتعيين زعيم المنداري وزيراً مركزياً ومنحه رتبة اللواء في الجيش . وقد اشتهر هذا الزعيم بأنه أمهر من يقود حملات تأديب قوات الحركة الشعبية التي تحاول الاقتراب من مدينة جوبا أو (تركاكا) بلدته.
وفي غرب بحر الغزال لعبت الحكومة على التناقضات التاريخية العميقة بين الدينكا والفرتيت ، وقامت بدعم ورعاية المليشيا التي كونتها مجموعة قبائل الفرتيت باسم (قوات السلام ) . وكانت مكانة قائد هذه المليشيا ،الذي يحمل رتبة اللواء، لا تقل أهمية عن موقع قائد منطقة بحر الغزال العسكرية . وقد لعبت (قوات السلام) دوراً حاسماً في إفشال كل محاولات الحركة الشعبية والمجموعات المنشقة عنها لاحتلال مدينة واو عاصمة بحر الغزال.
وفي المناطق الغربية (غرب النوير) والشرقية(حوض الناصر) من إقليم أعالي النيل اعتمدت الوجود الحكومي على إنعاش وتأجيج الصراع الأبدي بين النوير والدينكا ، وظلت مليشيا (القوات الصديقة ) والتي تتكون في الغالب من شعب النوير تطيح بكل الخطط العسكرية للحركة الشعبية .أما في منطقة شمال أعالي النيل المتاخمة الأقاليم لشمالية والذي يسكنها شعب الشلك في الغالب فقد استغلت الحكومة المقولة التاريخية ( آفة الدينكا النوير وآفة الشلك الدينكا )! لإبعاد المجموعات من بعضها البعض ، فضلاً عن تقريب الزعيم الروحي لشعب الشلك (الرث)، والذي هو بمثابة (إله أرضي) لنتصور مدى سطوته على أذهان المؤمنين ومن ثم السيطرة على سلوك الأتباع.
فإذا نظر المرء إلى الفضاء العسكري في جنوب السودان ،حتى عشية التوقيع على اتفاق السلام الشامل (نيفاشا)، سيجده يتشكل وفقاً للخطوط والحدود القبلية والتراث الثقافي لها ؛ فنجد مثلاً السيطرة المطلقة للحركة الشعبية على إقليم غرب الاستوائية ،إنما يعود إلى أن سكان هذا الإقليم هم من المزارعين الفقراء من شعب( الأزاندي ) ،الذين ابتلتهم البيئة بذبابة ال( تسي تسي ) وحرمتهم من طرق كسب العيش التي تساهم في جعل الفرد محارباً ، مثل رعي الماشية، كما هو الحال لدى الشعوب النيلوتية . فنتيجة هذا الضعف الثقافي تمكنت الحركة الشعبية من السيطرة على هذا الإقليم رغم عدم توافق توجهات السكان مع المواقف والأطروحات السياسية للحركة . أما السيطرة المطلقة للحركة الشعبية على إقليم البحيرات فتعود إلى أن الأغلبية المطلقة من سكان هذا الإقليم هم من الدينكا، وهكذا .
سابعاً : الاستمرار في استنفار وتعبئة العشائر العربية في نطاق (حزام التماس) لمنع قوات الحركة الشعبية من اختراق (الفاصل الحضاري) ، مقابل إطلاق يد العشائر في ممارسة السلب والنهب ،وأخذ كل ما يقع على أيديهم باستثناء الأسلحة الثقيلة ، كما يحدث الآن في دارفور . وقد سجلت هذه السياسة نجاحاً باهراً ،إذ لم تستطع الحركة أن تتخطي هذا الخط الوهمي ، إلا في شكل غارات خاطفة وسريعة ، والتي لم تترك إلا آثاراً قليلة . ففي قصة زيارة مدينة أويل التي أوردناها في إحدى مقالاتنا السابقة أخذنا قائد حامية المدنية -والذي كان رتبة عميد ويشكو من أن قوته أقل من كتيبة - لنشاهد الدفاعات حول المدينة ، وقد بدت لنا تلك الدافعات ما هي إلا (دشم) وحفر بدائية وساذجة ولا يمكن أن تسمى دفاعات إلا مجازاً، وكان التساؤل الأساسي الذي يدور في أذهاننا هو : ما المانع الذي يحول دون اقتحام قوات الحركة الشعبية لهذه الدفاعات الهزيلة ؟ . بيد أننا تذكرنا إنه إذا حدث ذلك ستقوم الحكومة باستنفار القوات (المراحيل)، والتي يمكنها أن تصل إلى هناك في غضون أيام معدودة . وقد كان القائد الجنوبي (كاربينو كوانيين بول )قد تمكن من دخول أويل عام 1997م ، إلا أنه لم يستطع أن يمكث فيها أكثر من يومين إذ اندفعت العشائر العربية بخيولها وأخرجته عنوة .
يعود جزء من فعالية عملية استنفار العشائر العربية لصد هجمات الحركة الشعبية إلى المنتوج الثقافي التاريخي الذي تراكم خلال عصور من الصراع على طول هذا الخط .وقد تمكنت هذه الخبرة التاريخية من بناء قواعد خاصة بها ، وأصبحت هنالك تمثلات سيكولوجية وثقافية ، قد يحتار المراقب الغريب عن هذا التراث من مفارقاتها ، فمثلاً كيف لرجل خلف المدفع أن يخشى آخر على ظهر الحصان ؟ ورغم مشروعية التساؤل غير أنه يبدو شكلياً وسطحياً للغاية ،بحيث لا يمكن أن يصدر إلا من سائل يجهل الخلفية التاريخية والثقافية للمنطقة ،وبالتالي عما أحدثه هذا الحيوان ( الحصان ) من مآسي وعذابات لقبائل بحر الغزال في غضون سيرورة الاسترقاق والاستعراب التاريخي التي امتدت لعدة قرون .
وكان استغلال هذا المكون الثقافي لشعوب الجنوب وعشائر التماس العربية وتوظيفه في الحرب من أهم الإستراتيجيات المركزية لإطالة عمر الجيش السوداني وحمايته من الانهيار الكامل؛ . وقد كانت نتائج هذه الإستراتيجية أبلغ أثرا من عمليات التعبئة والتحشيد (الجهاد) التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة ، وذلك لاستمراريتها وديمومتها ، قبل أن يتراجع دورها بدخول ريع النفط والتوقيع على اتفاق السلام الشامل ، حيث كتب للجيش السوداني عمر جديد .وبات يحارب في دارفور وهو حالة فتوة الأمر الذي قلل من آثار الحرب على منظومته كما سنجد ذلك لاحقاً.
فقد ظلت الهيئة الإذاعة البريطانية تصف الجيش السوداني – في برنامجها السياسة بين السائل والمجيب - بأنه ( جيش عريق ولكن سيء التسليح ). ولكن بدخول ريع النفط إلى موازنة الدولة بمفتتح هذا القرن تم حل مشكلة التمويل المزمنة التي هي المسبب الأساسي لسوء التسليح ، وبتوفر المال تيسرت سبل توريد الأسلحة، وزاد الاهتمام بالأفراد ، وإنشاء المزيد من الكليات والمدارس العسكرية .
صحيح أن هذا الجيش مازال يعاني من نقص في بعض الجوانب القتالية مثل خلخلة العقيدة القتالية والوهن في البنية الاستخباراتية ،ًولذي – بدون شك -هو جزء من انهيار النظرية الأمنية السودانية، نتيجة للتغيرات والتبدلات الكثيرة التي لحقت بهذه الأجهزة ، والتي كانت تأتي تبعاً لتغير الحكومات ومنطلقاتها العقدية ، حيث تجعل النظرية الداخلية للأجهزة الأمنية نابعة من ايدولوجيا الحزب ، عوض أن تبنى وتتبنى عقيدة أمنية وطنية متبلورة لا تتأثر - إلا في حدود ضيقة – بتغير الحكومات . غير أن السائد في السودان هو كلما حدثت الانسحابات والانشقاقات في وسط الأحزاب الحاكمة أو تبدلت الحكومات تجد الأجهزة الأمنية معرضة لأشد أخطار الاختراق والانكشاف .
وإذا أخذنا حادثة مطار الفاشر في أبريل عام 2003م مثلاً عندما تسللت قوة من المتمردين إلى المطار ودمرت جميع الطائرات الجاثمة فيها ، حيث فقدت القوات الجوية السودانية 50% من قوتها حسب تأكيد العميد المنشق عبد العزيز خالد . وقد ركز غالب المعلقين على هذه الحادثة على أنه أكبر دليل على(الوهن) الذي يتبدى على الأداء الجيش. وعلى الرغم من أن الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة في حينه الفريق محمد بشير سليمان رد على أولئك المعلقين بقوله " أرفض اتهام القوات المسلحة بالوهن ... إنها تقاتل خبرات أجنبية تفوق قدراتها ... والذي حدث مجرد خلل استخباري ونقص في المعلومات يجب أن يتم معالجته .. يوجد عملية تحقيق ومحاسبة لمعرفة من تسببوا في هذا الخلل " .غير أن اعترافه بوجود (خلل استخباري ) خير دليل على وجود وهن مزمن في هذه المنظومة . وقد عزي المسئولون كل الحوادث الأخرى المماثلة - مثل حادثة الناصر عام (1997م) التي قتل فيها النائب الأول للرئيس وعدد كبير من المسئولين ، وحادثة (عدارييل ) عام (2001م) التي قضى فيها أكثر من 20جنرالاً نحبهم وضرب مصنع (اليرموك ) أخيرا - إلى هذا( الخلل الاستخباري). ومازالت كثيراً من الشكوك تحوم حول تلك الحوادث ،لأن القصص الحقيقية عنها لم ترو حتى الآن.
على كل حال ،فإن عملية تدمير طائرات جاثمة على أرض مطار لا تعد عملاً عسكرياً عبقرياً تحسب للحركات التي قامت بها ، وإنما تعد فضيحة أدائية للجيش السوداني. وثمة مثال الآخر يضيف المزيد من المصداقية على فرضية أن الوهن الاستخباراتي ليس عرضاً طارئاً وإنما كامن في صميم البنية الهيكلية ،هو أن الأجهزة الاستخباراتية والأمنية السودانية قد أجمعت على أن حركة تحرير السودان ستعقد مؤتمرها العام الثاني المقرر عام 2005م في وادي كتم في شمال دارفور فإذا بالمؤتمر يلتئم في بلدة حسكنيتة في شرق دارفور .
وبعد مرور عامين من هذه البراعة التضليلية التي مارستها حركة تحرير السودان، حاولت غريمها حركة العدل والمساواة محاكاتها ، وقررت عقد مؤتمرها في حسكنيتة، وكأن النجاح مقرون بالمكان وليس بالخطة . إذ من المستحيل أن تكون الأجهزة الاستخباراتية غبية إلى حد يلدغ مرات ومرات من جحر واحد، وانكشف أمر المؤتمر وكادت أجهزة الاستخبارات السودانية أن تقضي على قادة ومناديب العدل والمساواة ،بيد أنها تمكنت من الانسحاب على عجل ، وبحالة مزرية، حتى عبرت الحدود وعقدت مؤتمرها داخل الأراضي التشادية في أكتوبر عام 2007م .
في كل الأحوال ، فقد اختلفت مفردات الفضاء القتالي في دارفور عن تلك التي كانت سائدة في الجنوب ، وذلك لأسباب موضوعية كثيرة ، بعضها كان لصالح الجيش السوداني وأخرى ضدها . ولو بدأنا بتلك التي من المفترض لصالحه ، فنجد منها مثلاً الطبيعة الجغرافية لأرض المعركة ، حيث تختلف طبيعة أرض المعركة في الجنوب كثيراً عن دارفور - ورغم أنها قد تكون سلاح ذو حدين - فالجنوب يتميز بالغابات الكثيفة ، بينما أراضي دارفور في معظمها براري مفتوحة ،وفي هذه الحالة يصعب استخدام الطيران بفعالية في الجنوب بينما يكون الأمر سهلاً في دارفور. كما أن كثرة الأنهر والمستنقعات في الجنوب قد جعلت الطرق والمسالك محدودة للغاية ، وهي فقط تلك المعروفة لدى الجميع ب( الردميات )التي أقامها الانجليز بين مدن الجنوب ،ولا يمكن فتح طرق أخرى اعتباطياً أثناء حركة القوات ، وهذا سهل لقوات الحركة أن تكمن لمتحركات الجيش السوداني وتبث الألغام على هذه المسالك المحدودة،بينما الوضع في دارفور على النقيض فيافي شاسعة وبراري مفتوحة تسمح الجيش أن يشق طريقه حيثما شاء ، وهي ميزة مزدوجة تسمح للحركات أيضاً بسرعة الحركة والمناورة . ولكن تمتعت القوات الحكومية بميزة إضافية وهي استخدام الطيران بكفاءة شديدة وذلك بضرب أي شيء يتحرك، الأمر الذي أحدث خسائر كبيرة في وسط المدينين ،لأن الحركات لم تجد شيئاً تحميها إلا الوسط المدني . ومن الواضح أن حالة الطيران قد تطورت كثيراً – ربما كرد فعل لحادثة الفاشر- إلى الحد استخدام تقنيات بالغة الدقة والحداثة مثل تتبع الترددات الخاصة بالمحادثات الهاتفيتة حيث تم قتل بعض القادة بهذه الطريقة حالة القائد(يحي بندس)سابقا و(المرحوم خليل إبراهيم ) لاحقا إن كنت أشك في الرواية السائدة بالنسبة للأخير.
ساعد ريع النفط في تحديث وتطوير مهمات النقل والهندسة والتشوين وإعداد الجنود و الضباط بشكل أفضل ، وبدهي أن الجندي الذي لا تنقصه العدة والعتاد يكون في أحسن حالات الروح المعنوية . وقد شهدت فترة حرب دارفور محاولات جادة للعودة إلى العقيدة العسكرية الحقيقية ، وطرح الشعوذة السابقة جانباً. و بعكس من الدعاية الكاذبة التي ظلت الحركات تبثها بأنها ألحقت الهزائم بالقوات الحكومية ، والحقيقة أن هذه القوات لم تخسر أية معركة كبيرة في دارفور، باستثناء معركتي (كلكل )شمال الفاشر أغسطس عام 2006م ومعركة (كارياري ) عند الحدود التشادية أكتوبر عام 2006م .
وقد استفادت القوات الحكومية من ميزة أخرى ،وهي أن القبائل المشكلة لمعظم مقاتلي الحركات ليست لها ثقافة تاريخية تدعم الالتحاق بالجندية الراتبة، أو التوظف الطويل الأمد في القوات النظامية كحرفة ، فلذلك كان وجودها في الجيش السوداني- خاصة على مستوى الجنود - ضعيفاً ، الأمر الذي حرم الحركات من ميزة رفد الصفوف بالجنود الفارين من الجيش النظامي بخبراتهم ، مثلما كان يحدث في الجنوب ، عندما كنا نسمع عن فرار كتائب وحاميات بحالها ، وانضمامها للحركة الشعبية.فشعب الزغاوة مثلاً من عوائدها القتال باستنفار ، لذلك نجد المشاركة المكثفة من أبنائه في حملات الجهاد التي كانت تنظمها الحكومة المركزية للقتال في الجنوب . وربما تم تعويض جزء من هذا النقص عن طريق القادمين من صفوف الجيش التشادي الذي لا يمكن أن نطلق عليه بأنه (نظامي ) لأنه مشكل أصلاً من حركات شبيه بحركات دارفور ،وقد ملأ هؤلاء معظم الخانات الخاصة بفئة الضباط في صفوف المقاتلين ، وللزغاوة ، والعنصر الصحراوي عموما ، ميراث لا بأس به من العمل كجنرالات في تاريخ دارفور التليد.
أما الفور فهي أمة غير محاربة ،ولا توجد في ثقافتها نزعة الجندية ( هذه العوائد ليست سلبية ولا هي جبلية وإنما هي ثقافية فقط )، وقد استفادت القوات الحكومية من هذه الثقافة المسالمة ، ومنعت الحركات من أن تجعل جبل مرة معقلاً منعياً لها ، حيث تمكن الجيش من وقت مبكر من السيطرة على مداخل الجبل بواسطة حلفائه من العشائر العربية الممثلة في ( حلف الجنجويد) .
وسوء الطالع الثاني الذي أفاد القوات الحكومية وحلت بكارثة على الحركات هي أن معظم الجنود من العنصر الدارفوري في صفوف الجيش هم من أبناء قبائل حزام الاستعراب التاريخي أي من نفس عنصر المكون ل(حلف الجنجويد).
لكل هذه الأسباب ، نجد أن الحركات قد اعتمدت على الفارين من الجيش التشادي ، وهو جيش غير محترف –كما أسلفنا - يتبدل مع تبدل الحكومات ، وعقيدته الأساسية هي العصبية القبلية ، واستراتيجيه القتالية تقوم على الحرب الخاطفة ، وأسلوب حرب العصابات، وهي ذات الإستراتيجية التي سارت عليها حركات دارفور ومثل هذه الإستراتيجية في البيئات الصحراوية ستكون أكلافها كبيرة خاصة إذا طال أمد الحرب .
وبعد تلاشي الطابع الارستقراطي للكلية الحربية في السنوات الأخيرة أمكن مرور عدد كبير من أبناء دارفور إلى حرمها الذي كان محمياً من قبل (حراس البوابات )المكلفين بعملية الغربلة الاجتماعية، وبدأت طبقة من أبناء دارفور تتشكل في فئة الضباط في الجيش السودان . وفي العامين الأولين من التمرد لم يحاول أحد من أفراد هذه الفئة بأن يلتحق بالميدان ، غير أن جو( النصر الكاذب ) الذي أشاعته الذهنية الشعبية العامة المتأثرة بالدعاية المضللة للحركات المسلحة قد دفع بعض الضباط من أبناء دارفور إلى الانخراط في غامرات انقلابية بائسة ، كما حدث في مايو 2004م ،وألحقت ضرراً بالغاً بهذه الفئة الناشئة ، وهو سبب كاف لعودة (حراس البوابات).
لقد نص اتفاق السلام الشامل (نيفاشا) على نقل كامل الجيش السوداني من حامياته في جنوب السودان إلى الشمال ، ولاشك أن هذا الإجراء قد وفر للحكومة السودانية قوات في كامل جاهزيتها القتالية للدفع بها إلى دارفور ، ورغم أن الاتفاق قد نص على تخفيض عديد القوات المسلحة إلا أن الحكومة قد تذرعت بحرب دارفور لتعطيل هذه البنود .
إذا كانت تلك هي بمثابة نقاط القوة التي استفادت منها الجيش السوداني في حرب دارفور فثمة نقاط ضعف كثيرة عانى منها هذا الجيش أيضاً ؛ منها أنه لم يستطع أن يقوم بالتعبئة الشاملة باستخدام المفردات الدينية كما حدث في الجنوب ،لأن أهل دارفور مسلمون تقاة بنسبة مائة بالمائة، فلذلك تم سحب مفردات الدين من عملية التعبئة ، وأبقيت على النخوة العربية الخالصة، وصار الوضع نصف تعبئة. وعلى الرغم من أن التعبئة على هذا الأساس الأثني كانت ذات فعالية كبيرة ، لأن الحكومة قد استفادت من العداء التاريخي الذي تراكم عبر العصور لنتيجة الصراع الدائم بين الرعاة والمزارعين وأكملت به النقص في التعبئة ؛ إلا أن إخراج المواجهة في شكل ( عرب/ أفارقة) يسَّر تسويق قضية دارفور في الخارج ,وأمكن انتشارها بسرعة فائقة ، وأثر ذلك سلباً على موقف الحكومة وسمعة قواتها ، التي بدت كأنها لا تستطيع أن تقوم بواجبها المهني إلا بمساعدة مليشيا الجنجويد السيئة الصيت.
كما أن عملية تسليح العشائر العربية التي لجأت إليها الحكومة السودانية كتكتيك آني لردع المتمردين ، سلاح ذو حدين في بعدها الاستراتيجي ، وقد تفضي إلى مالات خطيرة وذلك لعدم ضمان الولاء الأبدي لهذه العشائر ، التي أخذت تبتز الحكومة أحياناً وقد تعقد صفقات سرية وعلنية مع الحركات أحياناً أخرى ، وهي ظواهر بدأت تطل على الفضاء القتالي .
لقد أدى الاستخدام المفرط لقوة الطيران إلى خسائر رهيبة في أوساط المدنيين، ونبهت شعوب العالم بأسرها لفادحة الجرم الذي أرتكب ، وجلبت النقمة على الحكومة السودانية ،وأجبرت الأمم المتحدة للتدخل لتقييد حركة الطيران في سماء دارفور .كما أن الوضع الإنساني السيئ والناتج أساساً عن استخدام الطيران والجنجويد ، هو السبب الأساسي وراء إصدار أكبر عدد من القرارات حول قضية واحدة في زمن قياسي ، فضلاً عن إقرار اكبر قوة حفظ سلام دولية في تاريخ الأمم المتحدة ، وهي قوة قادرة على شل حركة القوات الحكومية وتطفئ أية ميزات إضافية تمتعت بها في السابق ، وتفسح هامش مناورة للحركات ، والتي يمكنها تخطي أية قرارات أممية وخرق أية التزامات دولية دون أن يستطيع احد محاسبتها حساباً عسيراً ، كما هو حال الحكومة .
( في الحلقة القادمة سوف نتحدث عن مستقبل هذا الجيش على ضوء التغييرات المرتقبة )


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.