في المقابل يبدو النموذج السوداني هو الأقرب لمفاهيم «النهضة» لاعتبارات تاريخية واجتماعية وثقافية. فما إن انطلقت آلة القمع في ملاحقة «النهضويين» في تونس، مع بواكير العقد الأخير من القرن الماضي، حتى لجأ المئات منهم إلى الجزائر، التي كانت تمر في تجربة تعددية أطل منها صوت «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» بصفته الصوت الأعلى. وفي الوقت نفسه اتجه عدد كبير من طلاب «النهضة» إلى السودان حيث حصل على إقامات وسجل في جامعتها. وما إن حظر الجيش الجزائري جبهة «الإنقاذ» ودخل البلد في نفق الحرب الأهلية حتى انتقل باقي القياديين التونسيين بمن فيهم راشد الغنوشي من الجزائر إلى السودان. كان النظام الإسلامي في الخرطوم الوحيد الذي احتضن «النهضة» في ساعة الشدة وأعطى كوادرها سقفاً يقيها ضربات القمع، على رغم أن هذا الموقف كلف الخرطوم قطع علاقاتها الديبلوماسية مع تونس من جانب واحد. ويكفي إلقاء نظرة على السير الشخصية للمسؤولين الحاليين في حزب «النهضة» وحكومتها كي ندرك أن كثراً منهم مروا من الخرطوم في عنفوان التجربة الإسلامية التي قادها الثنائي الترابي – البشير وتأثروا بها. وتجد تلك التجربة صدى إيجابياً لها في مناقشات الإسلاميين التونسيين، وآخرها في المؤتمر العام التاسع ل «النهضة» الصيف الماضي. ومن خلال قراءة الصراعات التي تخوضها «النهضة» مع خصومها مذ استلمت الحكم ورصد التصريحات المتواترة عن ضرورة «أسلمة» المجتمع، نُدرك أن نموذج تطبيق الشريعة في السودان هو قدوتها وديدنها. وليس سراً أن الغنوشي لا يتوقف عن إبداء إعجابه بنظريات مفكر الحركة الإسلامية السودانية حسن الترابي، وهو ما كرره بوضوح في جلسات ندوة «الإسلاميون والثورات والعربية» في الدوحة في أيلول الماضي. وأتى شريط الفيديو الذي سجل الحوار الذي دار بين الغنوشي وقيادات السلفيين التونسيين ليؤكد أن خيار الانقلاب الإسلامي على الطريقة السودانية ليس مستبعداً، لا بل هو حض شباب السلفيين على التمهيد له «بنشر الدعوة في المساجد وتأسيس الجمعيات والإذاعات ودعوة الدعاة السلفيين إلى تونس». وفي هذا السياق يبدو قرار معاودة هيكلة «لجان حماية الثورة»، التي تشكلت في مدن تونس وقراها بعد إطاحة بن علي لحماية الأحياء والمرافق العامة، خطوة منسجمة مع استراتيجية التمكين. فهذه اللجان تشكلت في البدء من ممثلي تيارات مختلفة، فضلاً عن المواطنين غير المنتمين، إلا أن منتقدي «النهضة» يتهمونها باتخاذ معاودة الهيكلة غطاء لملء اللجان بأعضائها، وتحويل «اللجنة الوطنية لحماية الثورة» إلى ذراع سياسية لها.