أ. ق تسببت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة التي يعيشها السودانيون بالكثير من الاحتجاجات الشعبية والسياسية خلال "الربيع العربي" مدى العامين الماضيين، لكنها لم تفلح في تحقيق أي تغيير يذكر في رأس النظام أو حتى بنيته وطريقته في الحكم. وهكذا يمكن القول إن الانقلاب الأخير الذي احبط كان محاولة أخرى فاشلة للتغيير في السودان، سواء اتت من بعض المتذمرين من طريقة الحكم أم من الطامعين بالسلطة. واعاد فشله ادخال السودان في الحلقة المفرغة التي أغرق فيها نفسه لتفتح معها كل السيناريوات مع الانباء المتتالية عن مرض الرئيس عمر حسن احمد البشير. وتعرض نظام البشير من قبل لمحاولات انقلابية عدة لا سيما في بداية عهده، أشهرها المحاولة التي عرفت ب"انقلاب رمضان" في 1990 بقيادة اللواء عبد القادر الكدرو، واللواء الطيار محمد عثمان حامد، والتي انتهت بإعدام 28 ضابطاً في الجيش ممن شاركوا فيها وعلى رأسهم قائدا الانقلاب، كما وقعت عام 1992 محاولة انقلاب بقيادة العقيد احمد خالد نسبت الى حزب البعث السوداني وقد حسمها الرئيس البشير عاجلاً وزج بقادتها في السجون. ومذذاك توارت الانقلابات في البلاد ربما لتركيز المعارضة نشاطها المسلح من الخارج عبر اريتريا. وفي اذار 2004 تحدثت الحكومة السودانية عن محاولة انقلابية، نسبتها الى حزب المؤتمر الشعبي بزعامة الزعيم الاسلامي حسن الترابي. ثم عادت وتحدثت عن محاولة انقلابية أخرى، نسبتها ايضاً الى عناصر الحزب نفسه. لكن الجراحة التي أجراها الرئيس السوداني اخيرا في السعودية، ربما تكون قد أغوت البعض بضعف رأس النظام لتعود الأفكار الانقلابية مرة أخرى الى الظهور بعد اختفاء دام ثماني سنوات وبعد فشل التعويل على الفعل الثوري لتحقيق تغيير في النظام الحاكم في البلاد. وعلى رغم إحباط هذه المحاولة الانقلابية، إلا أن الخطر لا يزال يخيم على السودان مع توارد انباء عن وجود حالة تذمر في صفوف الجيش وميليشيات الدفاع الشعبي الموالية للحكومة، والتي اضطلعت بدور بارز في حرب الجنوب، حيال الوضع العام المتدهور في البلاد وبعد اعتقال القيادات العسكرية. وغداة الانقلاب الاخير اعتقلت السلطات السودانية المدير السابق لجهاز الامن والاستخبارات الفريق المتقاعد صلاح قوش، واستجوبته متهمة إياه بالمشاركة في المحاولة الانقلابية على البشير، كما اعتقلت العميد محمد إبرهيم عبدالجليل المعروف بإبرهيم ود والذي شارك بفاعلية في حرب الجنوب وتحرير مدينة أبيي النفطية، والعقيد فتح الرحيم، الى عدد كبير من القيادات العسكرية المحسوبة على الحركة الإسلامية. وأشار مراقبون محليون إلى أن الشخصيات التي تقف وراء المحاولة الانقلابية كانت ضمن العناصر الأساسية التي أنجحت انقلاب 1989، أو ما يعرف ب"ثورة الإنقاذ" التي قادها عمر البشير بالتحالف مع الترابي. وبالفعل، أكدت تسريبات أن الاستجواب طاول شخصيات اسلامية وقيادات بارزة في الحزب الحاكم بارزة، الى عناصر من مجموعة "المجاهدين" السابقين في الحرب مع الجنوب والتي تطلق على نفسها اسم "السائحون". وثمة اوساط سودانية تؤكد ان غالبية الاسماء التي اعلن عن توقيفها لارتباطها بالمحاولة الانقلابية هي من قبيلة الشاقية في شمال السودان ذات الثقل الكبير في مؤسسة الضباط وأنصار نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه، وتاليا فان المحاولة قد تكون نوعاً من صراع قبلي خاص داخل مؤسستي الحزب السياسي و الضباط بين الشاقية من جهة ومجموعة الرئيس البشير وحليفيه نافع نافع والطيب خير الذين ينتمون الى قبيلة شعب الجعلين. وتؤكد الاوساط نفسها ان الخلاف بين المجموعتين القبليتين بلغ حد تأسيس وحدات عسكرية خاصة باسم "دار جعل" داخل الجيش، يتحدر افرادها حصريا من المناطق المحيطة بشندي والمتمة حيث تقطن قبيلة البشير من شعب الجعليين . وتتهم الاوساط القريبة من الانقلابيين وزير الدفاع عبد الرحيم حسين بالتسيب وترك البلاد مفتوحة بلا خطط دفاعية محكمة ولا تسليح فعال. ويذكر ان مجموعة من المتمردين الدارفوريين من غرب السودان تمكنت عام 2008 من عبور مئات الكيلومترات واقتحام العاصمة نهارا وتوجيه صفعة قاسية الى الجيش في عقر داره. ويخشى بعض الضباط الكبار من ان يتكرر هذا المشهد نظرا الى اوضاع القبائل التي تعاني التمييز والحرمان وحرب الإبادة في الغرب والشرق والجنوب والتي تقاتل نظام الخرطوم، كذلك بعد تعرض ثغور الدولة ومواردها في هجيليج للتهديد من قوات دولة جنوب السودان، وبعد اختراق الطيران الاسرائيلي لسماء الدولة واراضيها بذريعة محاربة الارهاب الدولي على ارض السودان. وتأتي المحاولة الانقلابية بعد أيام من اختتام "مؤتمر الحركة الإسلامية في السودان"، والذي حضرته شخصيات إسلامية "إخوانية" على رأسها المرشد العام محمد بديع. وجاءت نتائج هذا المؤتمر لتخيب ليس فقط آمال الجمهور السوداني العريض بل اكثر آمال اتباعها انفسهم ولا سيما منهم المتطرفين الذين يشعرون بالاحباط من تخاذل حكومة الخرطوم حيال القضايا الخطيرة المحيطة بها خصوصاً بعد تقسيم البلاد واستقلال الجنوب وانتشار النزعة الانفصالية في انحاء اخرى من البلاد والتحديات الاقليمية الجديدة، مما دفع هؤلاء الى محاولة الانقلاب من الداخل وزيادة حمأة الصراع بينهم. وقال مراقبون إن نتائج المؤتمر قوبلت بنقد شديد من اوساط المتشددين. فقد اعتبر المحتجون أن المؤتمر غاص في الشعارات، لكنه لم يقوّم السياسات العامة، وخصوصا ما يتعلق بقضية انفصال الجنوب، واستمرارالصراع بين الحزب والترابي. وأضاف هؤلاء أن القيادات "الإخوانية" الدولية التي حضرت افتتاح المؤتمر "ثم عقدت مؤتمرا موازيا للتنظيم الدولي" غادرت الخرطوم غاضبة من نتائجه، ومن فشل جهودها في الوصول الى مصالحة بين الترابي والبشير الذي حمّلته شخصيا مسؤولية فشل جهودها في هذا الغرض. وعلى رغم خروجه على التنظيم الدولي، وفتاواه التي اعتبرها "الإخوان" بمثابة هرطقات، فإن الترابي أصبح مرغوبا فيه الآن، وهناك مساع لإعادته إلى القيادة "الإخوانية" العالمية ليكون المنظّر لثورات "الربيع العربي" التي هيمن عليها "الإخوان" ويريدون تطويعها لخدمة مشروعهم الاستراتيجي في أسلمة المجتمعات. إلى ذلك، ثمة من يقول إن التنظيم الدولي يريد التخلص من البشير، وتعويضه بشخصية "إخوانية" غير مشاكسة لاعتبارات تتعلق بعلاقة التنظيم بأميركا ومحاولة إرضائها حتى لا تعارض استمرار"الإخوان" في حكم دول الثورات مصر وتونس.