عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    إجتماع بسفارة السودان بالمغرب لدعم المنتخب الوطني في بطولة الأمم الإفريقية    رئيس مجلس السيادة القائد العام والرئيس التركي يجريان مباحثات مشتركة بشأن دعم وتعزيز علاقات التعاون المشترك    شاهد بالصورة.. الطالب "ساتي" يعتذر ويُقبل رأس معلمه ويكسب تعاطف الآلاف    شاهد بالفيديو.. الفنانة ميادة قمر الدين تعبر عن إعجابها بعريس رقص في حفل أحيته على طريقة "العرضة": (العريس الفرفوش سمح.. العرضة سمحة وعواليق نخليها والرجفة نخليها)    شاهد بالفيديو.. أسرة الطالب الذي رقص أمام معلمه تقدم إعتذار رسمي للشعب السوداني: (مراهق ولم نقصر في واجبنا تجاهه وما قام به ساتي غير مرضي)    بالصورة.. مدير أعمال الفنانة إيمان الشريف يرد على أخبار خلافه مع المطربة وإنفصاله عنها    بعثه الأهلي شندي تغادر إلى مدينة دنقلا    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    شول لام دينق يكتب: كيف تستخدم السعودية شبكة حلفائها لإعادة رسم موازين القوة من الخليج إلى شمال أفريقيا؟    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في سبيل الديموستناره ( الديموقراطية- الاستناره ) قراءة في كتاب " في الفكر السياسى، ديموقراطية بلا استنارة " 1-3 أبو بكر عبد الله ادم


تقديم:
لابد من التنويه ابتداء بأن هذه الدراسة حول كتاب الأستاذ عبد العزيز حسين الصاوى ( محمد بشير أحمد ) الصادر عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي اعدت قبل عامين ( نوفمبر 2010 ) بينما صدر الكتاب نفسه في يناير من نفس العام متضمنا مقالات نشرت قبل عام 2009 كما تفيد إشارة المؤلف التقديمية. للاطلاع علي صياغة متكاملة للاستراتيجية السياسية في مواجهة النظام يمكن الرجوع لكتاب الاستاذ الصاوي الصادر مؤخرا عن دار عزه بعنوان : الديموقراطية المستحيلة، نحو عصر تنوير سوداني.
يضم الكتاب موضوع هذه الدراسة مجموعة من المقالات الصحفية التى نشرت خلال العشر سنوات الأخيرة، يغطي موضوعات عديدة تتناول قضايا دولية واقليمية وعربية وسودانية, بجانب موضوعات تسلط الأضواء على ادوار شخصيات عربية وغير عربية (بيتر هولت, معاوية محمد نور، بشير الداعوق وغيرهم). رغم اتساع القضايا التى يناقشها الكتاب فى أكثر من ثمانين مقالا إلا انها جميعا تدور بتناسق كبير حول قطبين محوريين هما الديمقراطية والأستنارة. ان مفهومى الديمقراطية والأستنارة اللذان تم تكثيف دلالتهما بنحت مفهوم " الديموستنارة " هما المنظور والمعيار لتحليل وتقويم نجاعة العمليات والخطابات والرهانات السياسية, سواء تعلق الأمر بسياسات شافيز بفنزويلا , تقريرى الحزبين الشيوعيين العراقى والسودانى الأخيريين ,عمليات الفصائل الفلسطينية او غيرها . هذا ما منح موضوعات الكتاب درجة عالية من الوحدة والأنتظام فى خطاب سياسى وفلسفى حول ( الديموستنارة ) بالرغم من تباين القضايا وفضاءاتها الفكرية والسوسيوسياسية والجغرافية. مع ذلك يمكن القول ان إشكالية الديمقراطية والاستنارة فى السودان شكلت بؤرة هذا القطب الجاذب ولذلك حظيت بالأهتمام الاوفر. وبتحليله المعمق للمسببات القاعدية لأزمة الديمقراطية فى السودان تبدت للكاتب الجذور المشتركة لهذه المسببات فى أقطار اخري مثل العراق وموريتانيا وباكستان, مما مكنه من استكشاف ارضية لاجراء مقارنات اعطت قيمة اضافية لمقاربته لأزمة ( الديموستنارة ) فى السودان من زاوية امكانية الاستفادة من نتائجها فى مجالات سياسية اخرى.
بالنظر لمركزية موضوع الديموستنارة فى السودان داخل الكتاب ووحدة المنهج فى مقاربة الكاتب للموضوعات الاخري المرتبطة بها ولضرورات عملية ومنهجية, تنحصر هذه الدراسه فى عرض تشخيص الكاتب لمسببات ازمة الديمقراطية ومعوقات استنباتها راهنا في التربة السودانية من جهة . ومن جهة ثانية عرض اطروحتة "نحو عصر تنوير سودانى" التى اثارت اهتماما كبيرا كأحد المخارج الممكنة والعملية لاعادة تأسيس وسودنة الأرث الديمقراطى. وذلك قبل تقديم بعض الملاحظات النقدية حول الكتاب ومنهج الكاتب واستنتاجاته فى الجزء الأخير من هذه الورقة.
فى البدء لا بد من إبداء ملاحظتين اساستين كمداخل لمعالجة الصاوي لموضوع الديمواستنارة:
أولا يجب التنبيه الى ان مفهوم الديمقراطية التى يعتمد عليها الكاتب فى تحليله هو الديمقراطية السياسية. الأستاذ عبد العزيز حسين الصاوي , الذي يعتبر من أعمدة اليسار السوداني واحد مؤسسي حركة الأشتراكيين العرب التى انبثق عنها حزب البعث فى السودان, قد حسم فى هذا الكتاب بوضوح انحيازه للديمقراطية السياسية على حساب الديمقراطية الاجتماعية, علي الاقل من زاوية اهميتها فى ترسيخ الوعي الديمقراطى فى المرحلة الراهنة. فهو يقول : " لقد ثبت نهائيا الآن وحتى اشعار تاريخى اخر أن الديمقراطية السياسية هى محرك التغيير وان رافعتها هى الطبقة الوسطى" ( ص 56) بل انه يدعم هذا فى موضع آخر بقوله : "الان تغيرت التوجهات فعلا وأصبح الألتزام بالديمقراطية السياسية صادقا وصميميا لدي الجميع بعد ان ساد وتوطد الادراك بأنه لبّ الأزمة نتيجة تجارب محلية وعربية وعالمية واضحة المغزى." رغم ان الكتاب-ربما لكونه مجموعة مقالات نشرت فى الصحف السودانية- لا يتناول مفهوم الديمقراطية السياسية أو الأجتماعية بالتحليل, الا ان الكاتب كنتيجة منطقية لألتزامه بالديمقراطية السياسية, يرى ان تركيز القوى الحديثة علي الديمقراطية الاجتماعية على حساب السياسية وترويجها للنماذج السلطوية العربية وغير العربية التى تجسد هذا الفهم قد ساهم كثيرا في تعطيل نمو الوعى الديمقراطى والأستنارى. ليس هناك فى الحقيقة سوى ديمقراطية واحدة -يقول الصاوى-هى الديمقراطية الليبرالية, تتلون فى تفاصيلها وربما مراحل تطبيقها من بلد لآخر ولكنها فى الجوهر نظام يقوم على الحرية وله اسس وقواعد رئيسية واحدة ومعروفة"(ص160)
ُثانيا فى مقاربته لأزمة الديمقراطية فى السودان, لا يعتمد الصاوى على دور الفاعلين السياسيين ورهاناتهم كمحددات رئيسية لأزمتها بل انه يري بانها نتاج مباشر لبنية المجتمع السوداني وتحولاتها التي افرزت ما اسماه ب "ظاهرة انكسار قوة الدفع التحديثي فيه". فهو يري ان العقبة الاساسية امام التحول الديمقراطي تكمن في المجتمع والشروط التي يفرضها الواقع الموضوعي الراهن التي فشل العقل السياسي السوداني في ادراكه وادراك الطبيعة المحددة لتأثيره واولوية هذ التأثير في سياقه الزماني والمكاني المعين . صعوبات التأسيس الديمقراطى السودانى عند الصاوى تعدت كونها أزمة أحزاب أو تدخلات عسكرية لتصبح ازمة مجتمع غير محفز للتنمية الديمقراطية( ص117). وبالتالي بدلا عن البحث عن أمصال معالجة هذه المعضلة في القيادات والاحزاب ونواياها او توجهاتها ورهاناتها يرى الصاوي ضرورة البحث في المجتمع ومستوي الوعي العام فيه( ص27). لان الديمقراطية ليست مجموعة مكونات حكم وانما اسلوب حياة وطريق تفكير وسلوك (ص23) ,وهي بذلك ليست منتجا جاهزا, وانما هى عملية Process ومسيرة,هى تكوين ذهنى وشعورى يستزرع إستزراعا ويستنبت إستنباتا لدى الأفراد والجماعات (ص30). ومن هنا انبنى مشروع استراتيجيته لحل العقدة الاجتماعية التي جعلت الديمقراطية عصية علي التحقق على دعوته لعصر تنوير سودانى جديد. ومن هنا يتبدى الترابط الموضوعى فى طرح الصاوى بين الديمقراطية والاستنارة للدرجة التى يمكن فيها احلال احدهما مكان الاخر.
أولا جذور ألأزمة الديمقراطية :
على عكس التحليلات السائدة حول ضعف النظام الحالى وان مصدر قوته الوحيد هو استخدامه المفرط للعنف والترهيب, يرى الصاوى بان وجود النظام واستمراريته ليس فقط لأحتكاره العنف المنظم وغير المنظم بل ان سلطته تستند بقدر اكبر الى قاعدة اجتماعية حية افرزتها طبيعة التطورات الاجتماعية خلال الاربعة عقود المنصرمة. "فالمواقع الأهم لسلطة الأسلاميين تغلغلت فى مكونات المجتمع نفسه وليس سلطة الدولة فقط. بهذا اضحت مستقلة عنها الى حد او آخر ولن تزول بالضرورة بزوالها, بل انها قد تشكل اساسا موضوعيا يعيد انتاجه ( ص312). فالنظام الحالى ليس مجرد دكتاتورية ولا حتى صاحب مشروع سياسى –فكري متكامل فقط, وانما مشروع ذي قاعدة نخبوية وشعبية ديناميكية, كونه كان مركز جذب للقوى الحديثة/التقليدية لعقدين من الزمان تقريبا قبل القفز للسلطة, لان حالة المجتمع, للمفارقة, جعلت الاسلاميين بانواعهم المختلفة التيار السياسى الوحيد النامى ابتداءّ من الجبهة القومية الأسلامية ثم, بعد بداية تصاعدها التنظيمى أواخر التسعينات, الأسلاميون الأخرون." والسؤال الذى يقفز الى الذهن هنا لماذا يتمتع النظام الديكتاتورى الراهن بقاعدة اجتماعية ديناميكية رغم لا شرعيته السياسية وفقره الفكرى والأخلاقى؟
1- المرتكزات الأجتماعية للسلطة الظلامية فى السودان
لتفسير قدرة السلطة الظلامية الراهنه علي جذب دعم شعبى ونخبوي, يقدم الصاوى تحليلا للتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى ولدت هذه القدرة كنتيجة مباشرة لتشويه البنية الأجتماعية, "للدرجة التى اصبحت فيها وسطاً ناقلا للشمولية وليس مجرد مستجيب لأطروحاتها وعقليتها". ويقوم هذا التحليل على استقصاء العلاقة الجدلية بين البنية الأجتماعية لقوي الريف بعقليتها الجماعية مقابل القوى الحضرية الحديثة ولكن الصاوى لا يقوم بضبط هذين البنيتين مفهوميا بشكل كاف مكتفيا بتوضيح طبيعتهما العامة والعقليات التى تتحكم فى سلوكهما وتصوغ مفاهيمها وتصوراتها. ومن اجل تعميق النقاش الذى ابتدره الكاتب سوف تقوم هذه الورقة بتقديم رؤية مفصلة حول هذين المفهومين فى الجزء الثالث منها بالاعتماد على مقاربة تاريخية لكشف جذور تشكلاتها ودورهما فى صياغة الروئ السياسية فى سودان اليوم.
الفئات الأجتماعية الريفية : " التى تقوم على روابط جهوية قبلية او دينية تقليدية, صوفية او سلفية" لم تحظى بقدر كاف من التوضيح فى الكتاب. بصفة عامة يمكن القول بانها تلك التى تقوم علاقات افرادها على روابط القرابة والدين وهى تتسم بعقلية جماعية ونسق قيم تنتمى لحقب تاريخية سابقة لا تنسجم مع قيم الحداثة والديمقراطية. والعقلية التى تعكس هذه البنية بأبعادها الأسطورية مشبعة بمفاهيم وتصورات ميتافيزيقية واسطورية تجعلها : "ذات استعداد عالي للتجاوب مع الخطاب الديني الخام المعادي للأستنارة سياسيا كان أو اجتماعيا او ثقافيا " . اما القوى الأجتماعية الحديثة فيعرفها الصاوى بأنها الفئات " الواقعة بين الطبقات الاجتماعية التقليدية والاستقراطية والطبقات الشعبيه، التى افرزتها عملية التحديث النسبى فى عشرينات القرن الماضى من خلال النظام التعليمى الحديث الذى أدخله الأستعمار ". وهى تتكون من "مجموعات المتعلمين وعموما الفئات التى ارتبطت حياتها بالمدن مباشرة أو بطريقة غير مباشرة أو بوسائل الأنتاج المستحدثة, والذين تأثروا بالعالم الخارجى الأكثر تقدما (ص15)). هذه القوى الحضرية المدينية الذي يقوم تعريفها على روابط لا تقوم بالضرورة على الطبقة او القومية او الوعى بهما, شكلت الكتلة التاريخية محركة التطور, بما فى ذلك انشاء الأحزاب وإدامة حيويتها التجديدية ومعها الديمقراطية بركائزها المختلفة.
ويرصد الصاوى تطور العلاقة بين هاتين البنيتين الأجتماعيتين ويقول : " كان للعقل الجماعي الريفي, بقيمه وقواه ,دورا قياديا فكريا وسياسيا خلال المرحلة المهدية قبل ان يبدأ في الأضمحلال مع أفول هذه المرحلة ليفسح المجال لتصاعد دور البيئة الحضرية وقواها الأجتماعية والسياسية وتياراتها الفكرية ليدخل السودان العصر الحديث في كافة مجالات الحياة, من العلوم الطبيعية الي الشعر الحديث، مرورا بالأقتصاد وتطور الفكر والتنظيم السياسيين. هذا الدخول كان متعثرا احيانا وبطيئا احيانا أخري. ولكن الخط البياني للنهضوية السودانية كان علي العموم متصاعدا حتى حوالي النصف الأخير من الحقبة المايوية النميرية (1969-1985)" التي : " احدثت زلزالا في المجتمع السوداني ادي الي تراجع هذا الخط لأول مرة منذ العشرينات" وبالنتيجة اصبحت " الظاهرة الحاكمة لتطور اوضاع السودان (منذ ما يقارب ثلاثة عقود من الزمان) هي ان العقل الجماعي الحضري السوداني يعيش حالة غياب وغيبوبة شبه كاملة تتوصف بكونها تعكس استعداده العالي للتجاوب مع الخطاب الديني الخام المعادي للأستنارة سياسيا كان أو اجتماعيا او ثقافيا.... "
كما سنرى لاحقا فأن عملية التحديث الذى ادخله الوجود الاستعماري كان السبب فى نشوء القوى الحديثة فى عشرينيات القرن المنصرم بعقليتها الأستنارية التى تبدت فى تكوينات ثقافية وسياسة وعسكرية لعبت دورا اساسيا فى تشكيل المجال السياسى وفواعله. وقد اصطدمت هذه العقلية منذ نشأتها بالعقلية التقليدية وقواها الاجتماعية التى ادت الى اضعافها. والصاوى يري إنه رغم بعض الانحناءات فى المد التصاعدى للقوى الحديثة الا ان بداية انحسارها جاءت فى سبعينات القرن المنصرم بسبب زلزال اجتماعى. ولكن ما هو الزلزال الذى أدى الي تشويه البنية الحضرية,حاضنة الديمقراطية, وبالتالى ادى الى انحناء الخط التصاعدى للنهضوية وتراجع دور القوى الحضرية الحديثة وعقليتها لتفسح المجال للعقليات الريفية المضادة للاستنارة بقابليتها للخطاب الدينى الخام والشعوذة والغوغائية وغيرها ؟
2- المسببات الأساسية للأزمة
بالرغم من ان الكاتب اشار فى أكثر من موضع فى الكتاب للمحددات الرئيسية والثانوية لتراجع دور القوى الحضرية ,حاضنة الديمقراطية, الا ان طبيعة هذه المحددات واوزانها النسبية وتوقيت بداية فعلها التدميري غيرواضحة , ذلك ربما بسبب التداخل الكبير والتاثير المتبادل بينها. ودون التقيد بأى ترتيب لهذه المحددات أو اغفال التداخل بينها يمكن تلخيصها بعبارات الصاوى فى:
1) الانهيار الأقتصادى: ان التوسع الكبير فى حجم القطاع الخاص صاحبه تدهور أقتصادي ومعيشي وصل حد المجاعة والحرب الأهلية ولكنه أيضا ركز الثروة القومية فى أقلية صغيرة منهياً الوجود الفعال للطبقة الوسطى وفى الوقت نفسه حول الريف المنتج اقتصاديا الى جيوش جرارة من النازحين نحو المدن(ص15) . وبالنتيجة اصبحت الطبقة الوسطى,الحامل الأجتماعى لأهم شرائح قوى التطور, مجرد شظايا نتيجة حتمية لانفتاح اقتصادى منفلت من أى ترشيد ديمقراطى واجتماعى (ص67).
2) ) تدهور نوعية التعليم: حيث ان التوسع الكبير فى المنظومة التعليمية صاحبه تفريغ كامل لمفعولها الأستنارى من مستوى رياض الأطفال الى فوق الجامعى فالتركيز على الكم التعليمى المفرغ من التدريب على التفكير النقدى المستقل وقابلية التجاوب مع الأستنارة والعقلانية, جعل من مؤسساته المتكاثرة حقولا خصبة لانتشار طرائق التفكير التبسيطية والأستظهارية. وتحولت المنظومة التعليمية الى آلة للحفظ والتلقين تستغل ايضا لحشو الأذهان بمادة دينية خام تطمس جوانب العقلانية فى الأسلام دينا وتراثا وتحوله الى أداة لقتل ملكة النقد والابداع والتفاعل مع الفكر الأنسانى (ص67)
3) الهجرات الريفية الكثيفة الى المدن: مجموعة الأنهيارات المتداخلة التي احدثتها المايوية ادت الي هجرة ريفية واسعة وعشوائية الي المراكز الحضرية وانهكت كافة الطبقات المجتمع السوداني نفسيا وذهنيا وحتي جسديا.
بالأضافة للمسببات القاعدية السابقة يورد الصاوى عوامل اخري ثانوية عديدة لعبت دورا تعقيديا فى ترسيخ الأزمة, منها التدخلات اللا ديمقراطية ,والتى منها الأنقلابية, التى قامت بغلق مجال الممارسة الديمقراطية لفترات طويلة حرمت ألأحزاب السودانية فرصة تطوير تركيبتها الفكرية والمؤسسية. كما ان الاحزاب ساهمت أيضا في خلق الشروط الموضوعية والذاتية المتناقضة مع النمو الديمقراطى بسبب ضعف الأساس الأجتماعي الحديث للحزبية السودانية التقليدية في حزبي الأتحادي والأمة وسيطرة ايدلوجيات اختصار المراحل علي بدائلها الشيوعية ثم البعثية (ص11).بالاضافة للخواص الأقصائية تجاه الأخر والانغلاقية على الذات التى تتسم بها معظم ألأحزاب السودانية "( ص46). كما ان تركيز النخب المثقفة الكلى على الديمقراطية الأجتماعية- كما تمت الأشارة أعلاه- أعجزها عن اكتشاف اهمية الديمقراطية السياسية( ص302) وساهمت بذلك فى تهيئة العقلية النخبوية لتقبل شمولية الاصولية الاسلامية عندما حان اوانها (ص312).
يمكن تلخيص النتيجة التى يتوصل اليها تحليل الازمة الديمقراطية من زاوية النظر الى العوامل المولدة لها فى محور اساسي هو اضمحلال الطبقة الوسطى /القوى الحضرية و غياب او تغييب عقلها الحداثى الذى يزود عملية الديموستنارة بقوة الدفع اللأزمة لسيرورتها, و بالنتيجة انكسرت قوة الدفع التحديثى و انحنى المد النهضوى واصبحت الوجهة العامة للتطور الساسى تتسم بالميل المضطرد والمتسارع للتوازن لمصلحة قوى المحافظة الريفية, كعقلية واسلوب حياة (ص 72 ).
و " بسيادة العقلية الريفية شعبيا ونخبويا تحول زمام الريادة الأجتماعية والسياسية والفكرية الى عقليات تخفى وراء حداثتها الشكلية نزوعات تقليدية غالبة , تتجلى أكثر ما تتجلى فى تجاوبها مع تفسيرات تقليدية للدين, بحكم الحاجة النفسية المتزايدة الي هذا النوع من التفسيرات لدي كافة قطاعات المجتمع, وانخفاض مستوي الأستنارة سودانيا وعربيا. وبذلك توفر الشرط الموضوعى لتقبل الخطاب الدينى الخام الذى ترتكز عليه السلطة الأسلاموية الحاكمة . وفى نفس الوقت كف المجتمع الحضرى منذ فترة عن كونه بيئة صالحة لأحتضان تيارات التقدم والأستنارة في شكلها السلمى ناهيك عن الشكل المسلح الأقدر على اثارة نوازع العنف السلطوى( ص178 ) . وهذا ما يفسر ضعف المعارضة وفشل حركات التغيير الجذرية مثل حركة حق وقوات التحالف السودانى فى استقطاب الدعم اللازم لازالة النظام.
من النتائج التى توصل اليها التحليل السابق, يبدو ان امكانية نجاح اى عمل معارض فى ازالة النظام بعمل سياسى او غير سياسى ضئيلة ان لم نقل مستحيلة. وحتى اذا نجح فى ازالة النظام فان امكانية بناء بديل ديمقراطى مستقر معرضة للفشل. ان قناعة الصاوى بصعوبة التغيير الجذرى فى المرحلة الراهنة هى نتيجة : " تصحر الكتلة الحضرية التاريخية بمفعولها الأستنارى أو تبدل طبيعتها مما أدى لجفاف المنبع الذى يغذي نمو الاطر التنظيمية لقوى التغيير والدمقرطة للدرجة التى تمكنها من ازالة النظام اوتوفير الشروط اللازمة لحياة حزبية متطورة وتنمية تشكيلات المجتمع المدنى بانواعها المختلفة: (ص69). امام هذه النتيجة المرعبة كيف السبيل لآستعادة الديمقراطية؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.