تقرير: عادل حسون يبدو أن الرفض المتصاعد للحكومة القائمة في البلاد يأخذ أشكالاً متنوعة بدايةً من ذلك الصامت إلى المدوي بقعقعة السلاح إلى الآخر الجهير بالبيانات والمسيرات. وبدا أن المعارضة للاشتراك في الحكومة وكما قد تأخذ الشكل الجبهوي العام في الرفض، فهي أيضاً تنطلق على نحو ذاتي من داخل الأحزاب نفسها. هذا بالضبط ما شهده الأسبوع الأخير بما أعاد للأذهان حادثة أخرى مشابهة وقعت قبل سنوات تشبه في جوهرها هذه الأخيرة لتشابه بطلي الحادثتين ولتماثل حزبيهما الموصومين بالكبيرين، تجعل من تكرار حدوثها أمراً متوقعاً أخذاً في الاعتبار استمرار أسباب منشأ مثل هذه الحوادث. إنه الرفض يا عثمان! هّب أنك صرت وزيرا في الحكومة. وتفكر في أن مشاركتك في السلطة الحاكمة رغم الغايات النبيلة التي قد تدفع بها، المصالح الوطنية العليا وما إلى ذلك، مرفوضة كليةً من قواعد الحزب الذي تنتمي إليه. فكيف يكون رد فعلك؟. كان ذلك بالتمام السؤال المأزق الذي وقع فيه وزير العدل النائب العام السابق وزير التجارة الأستاذ عثمان عمر الشريف، مطلع الأسبوع المنصرم. حملت أنباء الخرطوم أن الوزير القيادي بحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل بزعامة مولانا الميرغني، ووجه بهتافات حادة رافضة لمشاركة حزبه في حكومة القاعدة العريضة القائمة أثناء مشاركة الوزير بكلمة خطابية في احتفال سياسي بدار الخريجين العتيقة بأم درمان أمسية الثلاثاء الماضية بمناسبة اليوبيل الماسي لقيام مؤتمر الخريجين العام، كادت أن تتحول إلى اشتباك جسدي بسبب إصرار الوزير على الرد على من هاجموه. الاعتداء الذي لقي اهتماماً إعلامياً لا بأس به، وصمتاً حزبياً ملحوظ من الجهات المعنية بخاصة الحزب الاتحادي الأصل حزب الوزير، والمؤتمر الوطني الحزب الأكبر في التشكيلة الحكومية، يثير أسئلة متنوعة لا تقل إثارة عن الواقعة ذاتها. لربما تعكس التساؤلات في حقيقتها أزمة مشاركة الاتحادي الأصل في الحكم القائم وهي التي كثيرا ما وصفت بالفوقية علاوة على كونها صورية. فما هي دلالات الحادثة على استمرار الشراكة؟، وهل سيبقى الوزير على مقعده الوزاري رغم الرفض الجماهيري الذي قوبل به؟؟. سياسيون واعتداءات ظاهرة الاعتداء على السياسيين لفظياً أو بوسائل أخرى أكثر حدة ليست بدعة في التاريخ السياسي محلياً وخارجياً. في الحاضر القريب نتذكر حذاء الصحفي العراقي منتصر الزيدي الذي استهدف وجه الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش. وفي القاهرة، قبل أسابيع قلائل، اعتدى المتظاهرون لفظياً وبالهتافات وبرشق الحجارة وبمحاولة الاشتباك، بميدان التحرير على رئيس الوزراء المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة، د. هشام قنديل، فأجبروه على التراجع والرحيل بموكبه إلى خارج حدود الميدان الثوري بعدما ترجل محاولاً الحديث إلى المتظاهرين وإصدار تعليماته إلى رجال وزارة الداخلية المتواجدين بالجوار. داخلياً، عرفنا حوادث متنوعة في السنوات العشرين الماضية كان أشهرها اعتداء بطل الكاراتيه العالمي، هاشم بدر الدين، على الزعيم الإسلامي د. حسن الترابي، بمطار أتاوا بكندا في 1992م. الراحل د. عمر نور الدائم، نائب رئيس حزب الأمة، أدخل المستشفى جراء إصابته بحجر ثقيل من قبل شباب غاضب من جيش الأمة للتحرير في نهايات عام 2000م في الخرطوم. لعّل آخر تلك النماذج المشابهة قذف الشاب المعارض، قاسم الطيب، للقيادي البارز بالمؤتمر الوطني د. نافع علي نافع، بالكرسي في وجهه قبل عامين في ندوة سياسية بمقر السفارة السودانية بالعاصمة البريطانية لندن. إذن واقعة الوزير عثمان الشريف ليست متفردة بذاتها لكنها تميزت بدلالات الزمان ورمزية المكان أيضاً. تبرير حزب الوزير وتعبير الشباب الغاضب فمن حيث المكان لا شك أن له رمزيته المهمة إذ هي الدار التي شهدت النضال السياسي ضد المستعمر ثم الحكومات العسكرية المتعاقبة. هذا الحكم ليس على إطلاقه بطبيعة الحال فثمة اتحاديون تعاونوا مع العسكر على مدى السنين بما في ذلك الحكم الراهن في السنوات الأخيرة. لم يتخل هؤلاء عن اتحاديتهم ولم يبارحوا الدار العتيقة وكثيرا تمنطقوا إزار الديمقراطية بدعوى أنهم إنما يعبرون عن حزب الحرية والوطنية السودانية الذي رفع علم الاستقلال وهكذا. من حيث الزمان، يرفض قواعد الاتحاديين صراحةً مشاركة حزب مولانا الميرغني في حكومة الإنقاذ في طبعتها الأخيرة. الجماهير القاعدية وإن كانت تنتمي لأحزاب اتحادية مختلفة لكنها معنية بحزب الميرغني بدت منتفضة في وجه هذه المشاركة التي يبررها الاتحادي دائماً بدعوى الحفاظ على مصالح البلاد العليا. بعبارة أخرى، الاتحادي الأصل يعلل اشتراكه في حكومة الرئيس البشير، بالضرورات الوطنية، وتلك حجة بدا أن الشباب لا يتقبلها بسهولة بعدما لم تحدث مشاركة حفنة وزراء لا يكملون أصابع اليد الواحدة وجلهم يشغلون وزارات هامشية، أي تغيير حقيقي في راهن الأحداث إن كان في تحقيق السلام أو التنمية والاستقرار السياسي. الهتافات التي قوبل بها الوزير عثمان عمر الشريف، تبين ذلك بوضوح. الشباب هتف: "ما عايزين تجار الدين"، "لا وفاق مع النفاق"، "يا عازة شرفك محال ينداس"، "انزل انزل ما سامعنك". مع صدى الهتاف قد لا ينجح تبرير المشاركة، صيانة المصالح العليا للبلاد، مقنعاً، فهي لدى هؤلاء، نفاق وتجارة في الدين وتلويث لشرف عازة التي هي رمزا، السودان. البقاء في الحكومة.. تغاضي الاعتداء على الوزير تنوعت تخريجات مناط الاعتداءات على السياسيين التي عرفناها في العمل السياسي بالبلاد. ففي حين أعتبر اعتداء هاشم بدر الدين على الشيخ الترابي في حينه مؤامرة دولية، وبينما أقر د. نافع بحادثة الاعتداء في حديث لاحق له مع بعض طلاب حزب المؤتمر الوطني فعدها تعبيراً عن الرأي يفتخر به، وإذ ألمحت هيئة شئون الأنصار في بيان صحفي وقتها أن الاعتداء على نائب رئيس حزب الأمة كان مؤامرة إجرامية من عناصر مدفوعة من جهات معلومة، في إشارة ربما للحكومة، لم يبالى الشريف للهتاف الذي استقبل به في بادئ الأمر، لكن اشتداد الهجوم عليه، دفعه للرد قائلاً: الما أدبوا الزمن نحن بنأدبوا، ثم عكف يتحدث عن شخصه وكونه أكثر القيادات التي عارضت الانقاذ وارتادت المعتقلات، فيما واصل الشباب الهتاف ضده فتجمهروا فى المنصة واقتلعوا منه الميكروفون، مما اضطر الشريف لمغادرة الدار برفقة وزير مجلس الوزراء، القيادي الاتحادي، أحمد سعد عمر. قال القيادي بالحركة الاتحادية الشريف الحمدابي أنه كان يجب على عثمان عمر الشريف ووزير مجلس الوزراء، القيادي الاتحادي أحمد سعد عمر، إدراك إن الدخول لدار الخريجين معقل الإتحاديين الشرفاء ليس بالأمر السهل، بالاضافة الى ان مخاطبة الإتحاديين الأحرار ليس متاحا بعد أن تغيّرت ملامحهما بنعيم السلطة وفسادها. أوضح أن طردهما من دار الخريجين أبسط ما يمكن تقديمه فداءً لكرامة الفقراء والمعدمين، معتبراً الهتاف في وجوههم اقل تضامن مع المعتقلين وأسرهم، مضيفاً بأن مكانهما هناك حيث دار أبوجلابية وجنينة السيد علي والقصر الجمهوري. كان بيان للحركة الاتحادية وزع على الحاضرين في الليلة السياسية دعا إلى التماسك والصبر واصفا الجميع ب"محمد زين" والكل ب"عبد الرحيم"- في إشارة إلى القيادييْن بروفيسور عبد الرحيم شداد ومحمد زين العابدين- المعتقلين من قبل السلطات بعد توقيعهما إنابة عن الحركة الاتحادية على وثيقة (الفجر الجديد). مشاركة الاتحادي في السلطة قررتها الهيئة القيادية العليا للحزب دون القواعد بطبيعة الحال. مع تأخر قيام المؤتمر العام للحزب، وقد أعتبر تقييم المشاركة من أولى مهامه، يجعل من الوزراء المشاركين هدفاً حيوياً لغضب الشباب الرافض. الوزير عثمان الشريف والوزير الأستاذ أحمد سعد عمر، يعتقد على نطاق واسع بأنهما هما من حملا الميرغني على الدخول في الحكومة لأغراض خاصة بهما. من الصعب التحقق من ذلك بطبيعة الحال، لكن إلى ذلك الحين، قيام المؤتمر العام، يغدو المجال مفتوحاً لاتساع دائرة الرفض مع استمرار التراجع الحكومي عن الوعود الكبرى التي قدمت في برنامجها والمعنية بالاستقرار السياسي والرفاه الاجتماعي. هل ستدفع الحادثة الوزير عثمان عمر الشريف أو حزبه للانسحاب من الحكومة؟. في الواقع رئيس الحزب ترك الباب مواربا أمام ذلك قبل أشهر قلائل، ولكن ليس لدواع الهجوم اللفظي أو المادي على ممثلي حزبه في الحكومة، وإنما لاعتبرات أخرى لم تحدد في حينها. الثابت، أن الابتعاد عن المنصب الحكومي لأي سبب، ليس خيارا شخصيا لكل وزير اتحادي، وإنما رؤية رئيس الحزب وفق تقديره الشخصي فالإخراج من خلال الشكل المتبع عبر الهيئة القيادية. هل سيرجح انسحاب الوزراء الاتحاديين لهذا السبب أو للاعتبارات التي تركها مولانا الميرغني حبيسة دواخله؟، أم ستطوى الحادثة وتضاف بهدوء إلى سجل حوادث الاعتداء على السياسيين التي عرفتها بلادنا؟.