www.dabaiwa.com باستثناء اتفاقية أديس أبابا 1972 فإن كل اتفاقيات السلام التالية التي أبرمتها حكومات الخرطوم مع القوى المتمردة المسلحة، لم تحقق شيئاً من السلام أو الإستقرار والرفاه للمواطنين. جميع مذكرات التفاهم واتفاقيات السلام كانت عبئاً على الشعب والدولة ومواطني العالم من الأخيار أو أصحاب المصالح الذين تكرموا بتمويل تلك الإتفاقيات أو رعايتها أو التوسط للوصول اليها أو تقديم الضمانات من أجل استمرارها أو استدامتها. كان إعلان كوكادام (مارس 1986) بين التجمع الوطني للإنقاذ القومي (حتى نعرف من أين أتتنا الإنقاذ!) وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان واتفاقية الميرغني قرنق (نوفمبر 1986) وإعلان شقدوم (1994) بين الحركة الشعبية والحزب الإتحادي الديمقراطي وحزب الأمة على التوالي، مناسبات كبرى لتعزيز الإنقسام الوافر أصلاً في النخبة السياسية السودانية، ووقوداً ميسوراً للتباعد بينها والإختصام والمفاصلة، كما أنه هيأ أرضية رحبة للإستقطاب وتبادل الإتهامات بالخيانة والعمالة والخروج عن الثوابت وعن الدين وعن الملة. جاءت حكومة الإنقاذ، التي بدأت كإنقلاب إسلامي وتطورت الآن الى حكومة تمثل نخبة كبيرة ذات مخاوف مشتركة ومصالح متشابكة وعظيمة، بقبعة ملأى بالإتفاقيات السياسية والعسكرية والإطارية والسرية. أهم تلك الإتفاقيات كانت اتفاقية الخرطوم للسلام مع الفصائل العسكرية المنشقة عن التيار الرئيسي للحركة الشعبية (1997). لم تكن تلك اتفاقيات سياسية ذات معنى بقدر ما كانت محاولة لتحصيل إطار سياسي لتحالف عسكري انتهازي من الطرفين. فصائل اللواء الراحل كاربينو والدكتور رياك مشار (رجل الجنوب القوي) لم تكن ترغب في التحالف مع الخرطوم بقدر ما كانت تريد تركيع التيار الرئيسي لحركتها بزعامة د. جون قرنق وحين تحقق لها هذا الهدف غادرت الخرطوم تباعاً وبالتناوب بعد أن أثقلت على ميزانية الدولة وأرهقت شعبها وأهلكت الكثير من الحرث والنسل والثمرات ابتداء من الجنوب نفسه وليس انتهاء بمحاكم فاولينو ماتيب وسجونه في قلب الكلاكلات. هناك أيضاً اتفاقية فشودة (1997) مع مليشيات الدكتور لام أكول والتي لا تزال تنهش من ميزانية الصحة والتعليم والأمن في السودان دون ان تحقق فائدة لجهة ردع الخصوم أو تضيف غراماً واحداً لصالح التوازن الإستراتيجي أو التكتيكي بين الخركوم وجوبا. خارج هذه الإتفاقيات هناك اتفاقيات أبشي ، والطينة ، وأسمرا، وأديس أبابا، والدوحة، والإتفاقيات المتناثرة مع الفصائل المنشقة عن حركات مناوي وعبدالواحد والعدل والمساواة إضافة الى الإتفاقيات غير الرسمية مع أفراد أسسوا في الخارج تنظيمات كرتونية مزعجة ثم حصلوا على وظائف صغيرة كفلت لهم بناء بعض المنازل والحصول على مصادر رزق رخيصة مقابل الصمت. استطيع ان اذكر بالطبع عشرات الأسماء ممن تخلوا كأفراد عن النشاط في المعارضة وحصلوا على الثمن! اتفاقية أبوجا مع قوات مناوي والإتفاقيات مع جماعات أبوالقاسم إمام وغيرها من الداخلين الخارجين تستحق ملفاُ منفصلاً وعلى الحكومة أن تتحلى ببعض الجرأة والشفافية لتكشف للشعب السوداني عن مكامن الخطأ في تنفيذ الإتفاقيتين. لا أحد يأسى الآن في السودان على مناوي وصحبه فقد كان الإتفاق معهما خطأ منذ البداية! آخر الإتفاقيات الفاشلة هي اتفاقية الدوحة مع مجموعة التجاني السيسي (وهي مجموعة تشكلت من المنشقين عن القوى الرئيسية للتمرد في دارفور) وحين أقول فاشلة فإنني بطبيعة الحال لا أقلل مطلقاً من حسن نية المفاوضين أو أزايد على مقاصد الرعاة الكرام ولكنني أقول فاشلة بسبب النتائج الكارثية التي حصلنا عليها والتي خلقت عشرات العمد من غير أطيان يسرفون على أنفسهم ويقترون على الناس ويرهقون البلاد بمصروفات الحماية والعمليات اللوجستية والرواتب والفساد الإداري وربما المالي! ما هو الحل إذن؟ ينبغي على الحكومة أن تتوقف عن التفاوض مع الفصائل السياسية والعسكرية فهذا أمر لا نهاية له وأفظع ما فيه أنه يشجع على استشراء ثقافة القتل والخطف والنهب والإجرام تحت غطاء سياسي أو أيديولوجي. المتمردون العسكريون خارجون على القانون وينبغي أن يتم التعامل معهم على هذا النحو لكن دون اسراف او تزيد (كيف؟). على الحكومة أن تجمع كافة الأجندة والبرامج السياسية لهذه الجماعات وأن تخضعها جميعاً للفحص والتدقيق بواسطة وزارة مستقلة للسلام والوئام المدني. هذه الوزارة تكون مسئولة عن تطبق ما يصلح من هذه البرامج دون ضرورة لأن يشارك اصحاب التصورات في التنفيذ بمعنى أنه إذا كان مالك عقار يطالب بإقليم مستقل في النيل الأزرق فإن هذا الهدف يمكن تحقيقه إذا تواءم مع رغبات الجمهور دون الحاجة الى أن يكون مالك عقار حاكماً على الإقليم المشترك وهكذا. يتم إصدار قانون للمصالحة والوئام المدني ويقر بإستفتاء شعبي ويمنح هذا القانون العفو العام للمتمردين وحملة السلاح خلال فترة معينة شريطة الإقرار والتخلي عن النشاط وتتكفل الدولة باستيعاب التائبين على نحو فردي في المجتمع. هذا القانون سيوفر الكثير من الرشا السياسية التي تمنح للقادة وستضمن وصول الإصلاح لمستحقيه مباشرة. الحكومة ممثل أي حكومة لا تريد مغادرة مقاعدها وقادة المعارضة (أي الحكومة الإحتياطية) يرغبون في استبعادها والجلوس على أمكنتها (وهم أضعف تأهيلاً وأكثر ضرراً على الناس إن تحقق لهم بعض ذلك) ولهذا فإن التفاوض بين الخصمين لن يحقق سلاماً ولا ساتقراراً. نحن بحاجة الى تفكير مختلف وطرق جديدة لتحقيق الوئام المدني والإستقرار لكن لا بد أن يتأسس هذا على مشروع متين يحصل على مساندة شعبية ودعم سياسي وروافع مالية إقليمية ودولية وهذا ليس مستحيلاً.