لسنوات تجاوزت الخمس كان منزلنا في حي الموظفين غرب المستشفي .. وفي طريقنا إلي سوق الدويم العامر حينذاك ندلف يميننا في أول الطريق قبالة مجمع إبراهيم برير إلي حيث دكان العم محمد ترفس هذا الرجل المشحون بالطيبة ووجه شبه بائن تحمله ملامح وجهه يُذكرك بالمشير سوار الذهب .. يحفل دكان العم ترفس أيما احتفال بالفسيخ وعسل النحل الأصلي يكتب ذلك علي باب الدكان بخط لافت.. ولا أدري لماذا كانت تحملني قدماي كثيراً إلي دكان جبري اليماني في قلب السوق المزدحم دوماً بالزبائن فأسأل يا عم جبري : ( عندك صلصه؟؟) يجيبني بإيماءة من رأسه في غمرة ازدحامه بما معناه وجود الصلصة وأنتظر دوري ... عدة دقائق .. يجئ دوري .. يرفع عم جبري رأسه لي قائلاً : قلت شنو ؟؟ صلصه؟؟!! لا مافي!!!.. وهكذا لا أملك إلا أن أحتسب الدقائق التي أنفقتها في أنتظار زحمة العم جبري وكظم الغيظ الذي لم يكن بمقدورك مكافحته إلا بابتسامه تعتلي شفتيك إلي بقالة الجوهرة لصاحبها العم حسن حامد .. في الصباحات الشاتية ونحن لم نزلْ بعد نوالي الذهاب لبخت الرضا حيث مدرستنا الإبتدائية نحرص أيَّّما حرص أنا وأخي الأصغر (حفو) علي مرافقة والدنا للفرن .. الفرن الذي يقع ناحية (روتو) تحمل إلينا نسمات الفجر رائحة خبزه الساخن .. المهم نلتهم الأرغفة الساخنة بأكواب الشاي الساخن قبل أن نرتدي ملابس المدرسه وننطلق مع السائق إلي بخت الرضا علي أنغام مدحة مصر المؤمنه التي يُدمنها بلال السائق كل صباح.. علي المنحني ننزل إلي نهر عنجه .. هكذا نقول.. النهر المسمي علي القائد حمدان أبو عنجه كشأن أنهار بخت الرضا في مدارسها الإبتدائية.. لكن والدي ينسي دوماً أنه تركنا وراءه في المدرسة حينما نقطع كثيراً جداً المسافه بين بخت الرضا وحي الموظفين علي أرجلنا لنصل البيت ونجد أبي منهمكاً في قراءة الجرائد والمجلات الدورية التي يجلبها والدي من مكتبة الثقافة الوطنية لصاحبها غانم محمد أفندي وتلك حكاية أخري.. لا نلبث إلا ويطرق الباب (أولاد الفريق) لأخذ الكره (لزوم الدافوري) الذي ينتهي بصوت أذان المغرب.. أتذكّر ذلك اليوم الذي حزمنا فيه أمتعتنا وانطلقت بنا السيارة الحكومية من قريتنا في الجزيرة لمقرنا الجديد .. وبطريق (النُص) الذي تعتليه (الحُفر) ويعلوه الغبار الكثيف تناولنا إفطارنا عند الكيلو (65) في طريقنا (لأبو حبيره) و(أب حلاقيم ) و (كرتوب) وكرتوب هذه هي آخر منطقه تابعه لمشروع الجزيرة عند حدوده الغربية .. إنتهي بنا الطريق الترابي الطويل عند ( بحر أبيض) ... بإنتظار البنطون الذي كان هو الوسيلة الوحيدة والوحيدة فقط التي تحملك حينها آمناً مطمئناً للدويم .. كان بنطوناً صغيراً قبل أن تحل البنطونات الكبيرة التي بذلت وسعها في نقل الناس والدواب والسيارات جيئةً وذهاباً بين الضفتين... جاء البنطون وهامة (الريس).. ريس البنطون أعلي الهامات .. حتي ولو كان المحافظ من ضمن الركاب تبقي هامة الريس أعلي الهامات وأكثر الناس أهميةً .. بلا كلل ولا ملل يقطع البنطون طريقه المحفوظ عن ظهر قلب طوال اليوم والريس لا يمل من تدوير (طارة) هذه الآله العجيبه . إنتظرنا حتي جاء دورنا .. تدحرجتْ سيارتنا داخل بطن البنطون .. إلي جوارنا لوري وجمهرة ناس وبعض دواب... رائحة الماء المعطونة بروائح السمك تثير الغثيان .. تتشاغل عن الرغبة العارمة في إخراج محتويات أمعائك بالنظر في وجوه العابرين ومطالعة الضفة الأخري التي تقترب رويداً رويداً .. نواصل.