أبو البشر أبكر حسب النبي قد غطينا في الجزء الأول من المقال الإطار النظري العام الذي قام عليه حلف الجنجويد وفي هذا الجزء الأخير نحاول أن نضع بعض التوقعات حول مستقبله ، ويجب أن لا يحاسبني عليها أحد لأنها محض فرضيات قد تصيب ولكن يكمن أن تخيب أيضاً. لو استمر حلف الجنجويد في بناء أعماله وآماله على فرضيته القائمة على أن هو وحده الذي حال دون وقوع دارفور بكاملها في( براثن ) الحركات وأنه قد آن الأوان أن يقبض الثمن أو أن يحصل على "مكافئة نهاية الخدمة " اعتقد أنه مخطئ لأن المواقف السياسية دائما مرنة وتتحرك وتتواءم وفق المصلحة وتطور على ضوء الوقائع على الأرض ،أو ، بعبارة أدق، من الممكن تماما أن تتبدل مواقع الثلاثي الإجرامي الذي خرَّب دارفور (الحكومة ، الجنجويد ، الحركات ) ، وبصورة أكثر دقة إذا استمر حلف الجنجويد في سلوكه (الفالت ) – كما تسميه الحكومة - لا محالة من الصدام بينه وبين الحكومة يوماً ما ، وعند الوصول الأمور إلى هذه النقطة قد نشهد إنقلابات دراماتيكية في المواقف ، حينها قد تتحالف بعض الحركات مع الحكومة تحت غطاء اتفاقيات السلام الزائفة ، وتتحالف بعض الآخر مع الحلف تحت شعار (كلنا دارفوريين ) ! .. كما أن الحلف نفسه ليس( بنيانا مرصوصاً ) محصنا ضد التشرذم ، لذلك قد نشهد تشظيات وتشققات في وسطه .ولكن يجب أن لا نفرح بحلول ذلك اليوم ، لأن ذلك لا يعني غير دخولنا في دورة جديدة من الحرب ، التي لم تتوقف أصلا ، ولكن بشكل أعنف وأشد ضراوة حيث تقضي على بؤر الحياة الباقية إن بقيت شيء. قد توقعت في مقال سابق حول " الجيش السوداني " إن الجيش في حالة انهزامه سوف يقول بتسليم أسلحته إلى حلف الجنجويد وكانت تلك الفرضية قائمة على أن قدرة إي جيش على التماسك ومواصلة القتال تتوقف على التمويل المستمر لرفد عملياته بالأسلحة والمعدات ولما كان هذا المعين أي التمويل- على وشك النضوب إن لم ينضب أصلا ، بعد خروج الريع النفطي ، كان الوصول الجيش إلى نقطة الانهيار مسألة وقت لا أكثر . وبما أن تطورا هاما قد استجد ، أعني الاتفاق مع دولة الجنوب في كثير من القضايا على رأسها موضوع تصدير النفط أي عودة جزء لا يستهان به من الريع النفطي من حيث خرج ( إن جباية عشرة دولارات للبرميل الواحد من نفط دولة الجنوب ليس بالأمر الهين) وإعادة تغذية خزينة الدولة التي فرغت وخوت تمكن السلطة من إعادة تمويل الجيش مما يعني (تأجيل) سيرورة انهياره مع تزايد معدل الاحتكاك بينه وبين حلف الجنجويد . إن مقاتلي العشائر العربية يتساوون في الثقافة والسلوك مع مقاتلي الحركات لأنهم يردون من نفس العقيدة القتالية حيث أساس التجييش والتعبئة ينهض على "الولاء القبلي " ، هذا الأساس -آخذ في التدهور والانحدار نتيجة لعذابات الحرب فالولاء للقبيلة تحول إلى العشيرة ومن العشيرة إلى البدنة ومن البدنة إلى العائلة ولن يتوقف الانحدار إلا بعد فناء عشائر وعوائل بكمالها .. وأخشى إننا قد دخلنا مرحلة الميل إلى الانقراض التي ذكرها ابن خلدون في مقدمته ، فهذا واضح في وسط الحركات والجنجويد معا ، فالقتال الذي دار في منطقة (سريف بني حسين) في غرب دارفور ومنطقة ( أم دخن) في جنوب غرب دارفور دليل قاطع لتداعي الحلف إيذانا لتفتته واختفائه . وباتت الصراعات في وسط الحركات تجري على أساس خشم البيت/البدنة ، ففي وسط الزغاوة مثلا انتقل الصراع من التقسيمات الكبيرة "وقي " "كوبرا " " توبا" إلى فروع الصغيرة "بيريايرا " "قلي قرقي " "آبا " " إلا دقين" – أسماء كما ينطقها أهلها من دون التعريب – إي والله ، القتال الذي دار في منطقة (فوراوية ) و ( درما ) قبل أيام كان قائماً على هذا الأساس ، ولا يغرنكم التغليفات الزائفة والتخريجات البائسة على أن القتال كان بين الموقعين لاتفاق الدوحة والممتنعين عنه أو بين قوات (جبريل ) وقوات (مني) وقوات (كريمة ) وقوات( بشر) وقوات (الجن الأحمر ) !. كلها (كلام فارغ)!. بعد عشر سنوات من الحرب يبدو إننا قد وصلنا إلى نقطة الصفر أو عدنا إلى المربع الأول أي مربع الصراعات القبيلة ، موقف الحلف الذي يبدو رابحاً سوف ينقلب إلي خاسر بعد أن بدأ السوس العشائري يفت في عضده. منذ أن حلت هذه الكارثة التي يسميها بعض البلهاء ب (الثورة) ظللت أترنم خارج السرب.. وما ذلك إلا لقناعتي الراسخة بأنها زبد سيذهب جفاء (قد أكون مخطئا في موقفي ولكنني لن أتزحزح عنه إلا عند ثبوت العكس ) وتلقيت في سيبل ذلك الشتائم والبذاءات من الأدعياء و (الثورجية ) المزيفين. هذا اليقين نابع من أنني قد قمت بدراسة متكاملة حول كل هذه الحركات ( تزيد عن 800 صفحة ) فيها كل التفاصيل ودقائق الأمور ، والنتيجة التي توصلت إليها أن حكاية ( الثورة )في دارفور هي أكبر كذبة في القرن الحادي والعشرين ، ( مرة قدمت دراسة أكاديمية حول جبهة التحرير الوطني التشادي "فرولينا" حيث قال لي أحد أساتذتي كأنك تتبعت الجبهة يوما بيوم من تاريخ ميلادها إلى يوم الناس هذا ) !. أما حركات دارفور فإنني ظللت أتابعها منذ نشؤها ساعة بساعة حتى هذه اللحظة . فقد تركنا مصير شعب بأكامله في يد حفنة من الفاعلين منهم من كان يقود عصابة من ( النهب المسلح) فظهر علينا في (الميدان) على أنه قائد عسكري فذ يحمل رتبة خرافية ويبتز نابليون في حنكته ، ومنهم من كان يعمل ضمن عصبة ( نهب المصلح ) فظهر يتقمص صورة السياسي البارع الذي يشار إليه بالبنان ، ومنهم من كان يعوم في بحور من النعمة مع (الإنقاذ السوداني) أو (الإنقاذ التشادي ) وأطل علينا بأنه معارض عريق في المعارضة ، ومنهم من كان يكد ويكابد( مثلنا ) في المهجر لتربية عياله ولا شأنه بال(ساس يسوس) فبرز لنا يقول ( أنا مناضل لا يشق له الغبار منذ نعومة أظفاري) !.. كلها زيف في زيف وختل في ختل وأوهام وأكاذيب خدعوا بها ذوي النوايا الحسنة من أهلنا وأوردوهم موارد الهلاك . أعلم أنه من العسير خلق كتلة رابعة خارج إطار هذا الثلاثي الجهنمي (الحكومة ، الجنجويد ، الحركات ) ولكن لا تقنطوا من رحمة الله ، ابذلوا قصارى جهدكم في تنفير الناس عن هذا الثلاثي والتبشير بشق الطريق نحو كتلة رابعة .ولا يتأتى ذلك إلا بتطهير النفوس من الأحقاد والضغائن وأن تكون عقيدتنا السياسية إفشاء السلام فيما بيننا وأن نجلب الأمن إلى ربوعنا ونزرع أرضنا ونرعى أغنامنا ونمير أهلنا ونجعل لعنة الله على البنادق والمدافع ونعزل " ال"تورابورا" و ال" تربترب " و" أبوطيرة" وندعو عليهم أن تكون الجحيم مصيرهم و الجهنم مثواهم . أما الحقوق السياسة فإن الوسيلة المثلى لتحصيلها هي السير في المظاهرات السلمية ورفع العقائر بالهتاف المدوي بعيدا عن دوي المدافع ولعلعة الرصاص التي لا تجلب إلا الموت الزؤام .