في الجزء الأول من المقال تتبعنا مسار تحولات هذا الجيش منذ تأسيسه حتى اللحظة الراهنة مع تحليل بنيته التكوينية وعقيدته القتالية وتكتيكاته الحربية . ففي هذا الجزء الثاني نحاول استشراف مستقبلة على ضوء التطورات المتلاحقة مع تحديد أهم التحديات التي تجابهه في المستقبل المنظور وتعيين محاذير أي اختفاء مفاجئ له. من المحزن أن الغالب الأعم من الناس لا يتعظ بمرتبات الأحداث القريبة ، ولا يعتبر بخبرات التجارب الحديثة والتليدة ، ويحسبون مثل فرضيتنا بانهيار الجيش بأنها أمل من آمال الحالمين البعيدة المنال .. وخاصة عندما يرون أن الجيش يكاد يسيطر بشكل كامل على جميع أرجاء ما تبقى من البلد - هؤلاء ينسون أو يتناسون بأن المرحلة ما بين " فقد زمام المبادرة " و "انكسار الإرادة " يسيرة جدا ،وإنها تأتي كلمح البصر ، ففي اللحظة التي تسيطر على عقول الضباط والجنود فكرة واحدة فقط وهي : كيفية الوصول إلى ( وليداتهم ) سالمين ! ، ستجدون التداعي والانهيار بصورة أقرب للخيال منه للواقع.. في كل الأحوال ، نحاول إجمال أهم التحديات أمام هذا الجيش في الآتي : أولا : غياب القائد الأعلى العسكري وحلول آخر مدني مكانه سوف يؤثر كثيرا في دينامية اتخاذ قرارات السلم والحرب ، بل قد نشهد صراعات علنية ومستترة ما بين ( الملكيين ) و ( العسكريين ) ، صحيح أن هذا القائد العسكري ( الغائب) نفسه قد فقد هيبته المعنوية / الأخلاقية مذ أن سلطت عليه (الجنايات الدولية ) "مذكرة التوقيف " إلى حد أن بعض المراقبين يرى أن غيابه بالموت المحتوم يعطي سلفه دفعا معنويا بإزاحة ذلك الثقل الأخلاقي الرهيب ، والصحيح أن ذلك يمكن أن يفيد الشق المدني من الحكم دون أن ينعكس على الجانب العسكري الذي نتحدث عنه . ثانيا : عوز (الداعم المركزي ) ، ونعني به جهة خارجية قوية تسند وتدعم الجيش بسيل لا ينقطع من المعدات والأسلحة ، فكلنا يعلم أن انهيار اتحاد السوفيتي وانقطاع دعمه للجيش الأثيوبي هو السبب المباشر في سقوط (منقستو هيلا مريم ) في أثيوبيا عام 1990 بالسرعة التي لاحظناها . وفي نفس العام تقريبا اجتمعت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان ) على عجل وسحبت التأييد عن الرئيس التشادي السابق (حسين هبري) ولم يمر أسبوع عن ذلك القرار حتى انهارت سلطة هبري. صحيح أن السودان ظل يعاني من هذا الداعم المركزي منذ فترة ليست قصيرة ،وفي سبيل البحث عنه ضلت الحكومة السودانية الطريق والتحقت بمحور الخطأ محور ( سوريا - إيران – حزب الله) الذي يجري تفكيكه الآن وهو آيل للسقوط وسوف تختفي عما قريب . كان من ممكن ، إن لم تلتحق بهذا المحور الشرير ، بأن تبحث عن مصادر دعم وتمويل من ( دول الخليج ) و(ليبيا الجديدة ) مثلا ويمكنها الحصول على بعض الذخائر والمعدات من (مصر الجديدة ) أما أنها قد التحقت بمحور الشر فمن المستحيل أن تدعم هذه الجهات عضوا في محور لا يكن لها إلا الشر . ثالثا : اختفاء الريع النفطي ،الذي كان أحد أسباب إطالة عمر الجيش ،سيساهم في تعجيل انهياره ، لأنه على الجيش الآن أن يعود إلى نهجه العتيق المتمثل في المكابدة للحصول على التمويل لشراء الأسلحة والعتاد والذخائر، ولا أخال أنه يملك جدارة المكابدة هذه المرة . رابعا : تدمير المصانع التي كانت توفر جزءا لا بأس به من عتاده ( الذخيرة على الأقل ) سوف يعاني من نقص حاد في التموين والتشوين . خامسا : كل التطورات السالبة عليه ستنقلب بردا وسلاما على الحركات المسلحة ويرفع الروح المعنوية لمقاتلي التحالف الفضفاض المعروف باسم (الجبهة الثورية السودانية) ( ربما سموها تيمنا بالجبهة الثورية للشعوب الأثيوبية ) مما يجعل دولة الجنوب في حل من أي تعهدات قطعتها للحكومة السودانية ولن تأبه بعد الآن بتهديدات حكومة (مغلوبة على أمرها ) وتعيد وتزيد من وتيرة دعمها للحركات . باجتماع كل هذه العوامل يمكن الجزم بأنه لا يمكن تفادي الانهيار إلا بقدرة القادر.. يومئذ يفرح كثيرون.. ولكن يجب أن لا نستعجل وننجرف مع التيار العام لان مثالب مثل هذا الانهيار الكلي قد تنعكس حتى على المحتفلين، فعليه نوجز محاذير الانهيار في الآتي: أولا : أن يقدم الجيش المنهار على ردود فعل انتقامية ويقوم مثلا بتسليم دارفور أو أجزاء واسعة منها ل(حلف الجنجويد) وتسليم غرب كردفان ل(قوات المراحيل )، ونشهد بذلك فصلا جديد ا من الصراع الدموي بين الجماعات المحلية ولا ينفع وجود جيوش( يوناميد) التي تجد نفسها عالقة في خضم حرب أهلية لا تبقي ولا تذر . ثانيا : أن يقوم الفارون والناجون من الجيش ،خاصة فئة الضباط من الرتب المتوسطة والصغيرة بتشكيل مليشيات خاصة بهم في وسط أهليهم في الشمالية ونهر النيل وشرق النيل والنيل الأبيض وشمال كردفان. بعد أن تركز قوات الحركات هدفها على العاصمة عملا بقاعدة المرحوم خليل إبراهيم ( كل القوات خرطوم جوه )!. ثالثا : قد يقدم الجيش المهزوم والدوائر الأخرى مثل الأمن والمخابرات على تخريب واسع النطاق لمنظومة خدمات النفط عقابا لدولة الجنوب ، التي من المفترض أن تكون الداعم الرئيسي للحركات المسلحة عند انحدار الأمور ، كما فعلت القوات العراقية عند هزيمتها في الكويت عام 1991 م. رابعا : إثارة الفوضى ، وتدبير عمليات سلب ونهب وحرق وتدمير واسعة النطاق في المراكز الحضرية ، والعاصمة بخاصة ، بفتح السجون وإطلاق سراح عتاة المجرمين كما فعلت القوات العراقية عام 2003م عند الغزو الأمريكي . خامسا : في غياب السلطة المركزية واختفاء الجيش النظامي ، وفي خضم الفوضى الكاملة ستصبح البيئة مواتية للنمو الفطري للتنظيمات (المتلفة ) و( المنفلتة ) التي لها هيام وغرام غريزي بمظاهر القتل والسحل ومشاهد إراقة الدماء مثل القاعدة ومن ولاها من منظومة السلفية الجهادية ،وتبدأ في إتلاف وإفساد كل شيء كما نشاهد اليوم في كثير من بلدان الربيع العربي ، وهي تكاد تسطير على حزام الساحل والصحراء إلى حد أقامت لها (دولة) في شمال ملي وارتعدت لها فرائس الجميع الذين يعدون العدة الآن للانقضاض عليها . هذه الصورة تبدو قاتمة ومتشائمة ومخيفة ( الله يكذب الشينة)! ولكن المؤكد إننا الآن قد وصلنا إلى العتبة الأخيرة من مدرجات الدولة الفاشلة ، والانحدار إلى درك الفوضى الكاملة حتمي .. ( ما في أمل يعنى )!! الله أعلم ، هنالك تجارب قليلة وقريبة تم فيها العبور بسلام مثل نجاح ( جبهة تحرير تقراي) في أثيوبيا و(جبهة الوطنية للإنقاذ )في تشاد من تحويل قواتهما المقاتلة إلى (جيش نظامي) ولكن كلا قائدي هاتين الجبهتين ، الراحل ملس زيناوي وإدريس ديبي ، لم يقيما (دولة ديمقراطية ) إلا على مقاسيهما! ، لذلك لا مسوغ من أن نعلق آمالنا على تكرار تجربتيهما . إذن ما حل ؟ في رأي المتواضع ، لو ثمة حل يجب أن يسبق لحظة الانهيار ، نحن الآن على حافة جرف هار قبل أن ينهار بنا إلى أتون الفوضى أدعوا ربكم بأن يوفر" الوعي الكلي " لدى الأطراف المتنازعة ليجيبوا عن هذا السؤال : أيهما أجدى أن نصر على إنزال "هزيمة ماحقة " للطرف الآخر وإزاحتها من الحلبة أم التقاء في الوسط لشق الطريق للمرور الآمن والانتقال السلمي إلى مرحلة جديدة ، إن غابت العقلانية والوعي الكلي وتسربل البعض بنصر كاذب وركب رأسه ، سوف نعيش بقية أعمارنا في كنف دولة فاشلة مثل الصومال ، فقط أدعوا الله مخلصين أن يعيش أبناءنا في ظل دولة ناجحة .