محمد عثمان ابراهيم www.dabaiwa.com أتابع بإهتمام مستحق دائماً حلقات برنامج (حتى تكتمل الصورة) الذي يقدمه الأستاذ الطاهر حسن التوم على قناة النيل الأزرق. والطاهر في ظني أفضل محاور صحفي وتلفزيوني سوداني- على الإطلاق بطريقته التلقائية، وثقافته الواسعة ويقظته اللافتة حيث يدرك تماماً أين يقاطع ومتى وكيف، ولعل الطاهر هو الوحيد بين مقدمي البرامج التلفزيونية الذي يدرك أن رسالته هي الحصول على أجوبة لا تقديمها، وهو بحكم إعداده الجيد مهنياً لا يحتاج الى التباهي، وحشو المفردات الرنانة، والضحك الى الضيف كلما قال عبارة معقدة أو غير مفيدة كما يفعل سائر مذيعينا الذين يفشلون في اخفاء بلاهتهم كلما أمعن ضيوفهم في التزيًد. الطاهر يسأل ببساطة: ماذا تقصد بهذا؟ وماذا عنيت بذلك؟ فنكتسب نحن المشاهدون معرفة جديدة وامتاعاً ومؤانسة راقية. شهدت حلقة الإثنين الماضي والتي كانت تناقش ما اتفق على تسميته ب(الوجود الشيعي في السودان) وكان تيار البرنامج بمجمله يميل الى تفسير ذلك ب(الخطر الشيعي) وأحسب أن في ذلك عصبية مذهبية وسياسية أيضاً. لم ينجح ضيوف الحوار في الإرتقاء بالحوار الى حيث كان المحاور إذ فشلوا على نحو متوقع في تقديم أي اجابات عن اسئلة البرنامج أو اسئلة الجمهور، لكن هذا لا ينفي أن البرنامج أثار الأسئلة وبدأ الحوار والحوار في حد ذاته مكسب هائل في بلادنا المتصارعة المكونات. غاب الشيعة عن الحلقة وهو غياب صغير ضمن غياب أكبر في كل دوائر التيار الرئيسي للمجتمع إذ ما زال الشيعة يتحركون في مدارات الظل (الموازية) لمدارات ثقافتنا (الرسمية العلنية) ومجتمعنا. ربما كان مفيداً لو حصل البرنامج على افادات هاتفية أو مسجلة مسبقاً لبعض المنتمين للمذهب الشيعي إذا كان وجودهم متعذراً داخل الاستديو. وكيل وزارة الأوقاف حامد يوسف آدم كان موفقاً كثيراً في إفاداته وتحدث حديث العارف فيما يليه أما د. عبدالرحيم عمر محي الدين فقد كان مشغولاً بالنظر الى ذاته وهو يتحدث كما عهدناه في كتاباته عن كل الأشياء من خلال ذاته الكريمة. أطنب في تقديم صفاته ككاتب في الفكر الإسلامي وكعارف بالفكر الشيعي والسني وأفادنا، افاده الله، بحديثه الذي وجهه الى (أخيه) الإمام علي الخامنئي، مرشد الثورة الإسلامية في ايران. هذه اول مرة استمع اليه متحدثاً والحقيقة هو صاحب صوت مميز وطريقة مستفزة (بالمعنى الإيجابي) في التحاور، وسوى ذلك فقد ظفرت بمعرفة العنوان الكبير الذي يشغله وهو التقريب بين المذاهب الإسلامية، وأعتقد أن هذه رسالة سامية وعظيمة نسأل الله له ولمن والوه فيها التوفيق، أما بالنسبة لموضوع الحلقة فلم يقاربه بشيء. من جهته، كان د. محمد ابراهيم البلة، القيادي بجماعة أنصار السنة (السلفية) بعيداً تماماً عن قضايا الحوار وسلفياً (بمعنى ماضوي) أصيلاً وعدائياً وإن كان على نحو أكثر لطفاً من د. عصام أحمد البشير الذي نقل البرنامج مقطعاً من خطبته التي طالب فيها بإغلاق الحسينيات والمدارس ومراكز التنوير ذات الإرتباط بالمذهب الشيعي! تحسر الوزير السابق على قلة (حوافز) علماء السنة بالمقارنة مع علماء الشيعة الذين قال إنهم يأخذون (الخمس) مقابل (الترمس) الذي قال إن علماء السنة يجنونه. لقد كان د. عصام يتحدث وعينه على الخليج! الغريبة أنه طالب بإغلاق تلك المؤسسات التي ذكرها بالإسم ولم يطالب بإغلاق الخانات (بالخاء) والحانات (بالحاء) وصالات الميسر، والمباغي وغيرها من الأنشطة المرتبطة بالنفس الإنسانية سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة. أما كان لسماحته أن يوجه جهده أولاً ضد ما قال فيه الدين كلمته القاطعة بدلاً من أن يحث الدولة كلها الى تبني افكاره هو وحده؟ ثم هل نجحت الحكومة الآن في اغلاق محلات الشيشة التي لا يربط بين متعاطيها فكر او وعد بالجنة، للتوجه الى اغلاق المدارس والمعاهد والحسينيات؟ نشر بصحيفة الخرطوم 10/5/2013 خارج الدوام الوجود الشيعي.. أهلاً وسهلاً 2 2 محمد عثمان ابراهيم www.dabaiwa.com حسناً، أتاحت الحلقة التلفزيونية التي ناقشت الوجود الشيعي في السودان ضمن برنامج (حتى تكتمل الصورة) فرصة لمناقشة القضية في الفضاء الرحب بدلاً من طريقتنا التي تناقش شأناً وتهدف للتداول حول آخر. هذه الحلقة اتاحت لي النظر في سخرية اقامة جماعة أنصار السنة المحمدية ل(مكلمة) اسمتها (مؤتمر الشيعة في السودان: المهددات وسبل المواجهة). الحقيقة التي ينبغي ألا نستحي منها أن منظمي المؤتمر يهدفون للتكسب من الجيوب الخليجية العميقة والمرعوبة من تمدد النفوذ الإيراني في بلادها. الواقع أن كلا الجانبين يلعبان دوراً لا أخلاقياً فمنظمو المؤتمر يحاولون تضخيم الظاهرة وتفزيع الجيب الخليجي منها وبالتالي (حلبه) وجيوب الخليج العميقة تعجز عن مواجهة ايران (لا التشيع) في دارها فتسعى لمحاربة البعبع الفارسي في بلاد (الأغيار). حسناً مرة أخرى، دعونا نسأل جماعة الشيخ أبي زيد بمنطقها: ايهما أخطر التيار الشيعي أم الشيوعي مثلا؟ بل أيهما أخطر على المجتمع: التشيع أم التنصير؟ أيهما اخطر التشيع أم الإلحاد مثلاً؟ أما كان الأجدى أن تبذل جماعة أبي زيد جهدها، وعصام أحمد البشير (حنجرته الصقيلة) من أجل محاربة اسرائيل التي ظلت تضرب السودان بين كل حين وآخر أم ان الشيعة اخطر؟ الموضوع مكشوف في السودان كله ودليلي هو الرسائل الإلكترونية التي وردتني وفيها من المعارف الكثير. ضيف الحلقة د. البلة لم يكن مستذكراً درسه لذا فقد كانت مداخلاته ضعيفة وخارج السياق في الغالب لكني استنكرت منه رفضه للتحاور مع الشيعة وضربه للمثل: إذا هجم عدو على بيتك فهل تقول ساعلم أبنائي الحوار؟ الحقيقة المثال غريب ومثير للتفكه! من هو العدو ومن صاحب الدار؟ قبل سنوات قليلة كان أنصار السنة أقلية من الغرباء ولكن سماحة الشعب السوداني لم ترفض وجودهم فتقبلتهم بمظهرهم المختلف وجلابيبهم القصيرة ورواتبهم المقدمة من الخارج؟ لم يقل المتصوفة ان هناك هجوم (خامسي) على دارهم في السودان! أسست الجماعة زواياها ثم ابتنت مساجدها ومعاهدها بأموال البترودولار ولم يشرع احد حنجرته ضد الحكومة مطالباً بإغلاق هذه الزوايا. قبلهم جاء الإخوان المسلمون (الذين يحكمون السودان الآن) من مصر بخططهم الجهنمية، وارتباطاتهم السرية، وعنفهم لكن اريحية السودان ظلت قادرة على احتوائهم حتى عاد الكثير منهم اليوم عن افكار سيد قطب وصاروا من اشد انصار آدم سميث. حين جاء الشيوعيون بأفكارهم من الخارج كانت العائلات تخجل من وجود شيوعي بين افرادها لكن المجتمع تعايش معهم وهم الآن ضمن نسيجه المتنوع القوي. الأفكار لا تهدد احداً والمجتمع لا تهدده أمة (لا اله إلا الله) التي ظلت قادرة على التعايش بكل يسر وسلام خلال مئات السنين. ليس هناك نزاع شيعي سني في أي مكان ولكن هناك نزاعات سياسية تستقوي تارة بالمذهب، واحسب ان مجتمعنا السوداني قادر على استخلاص الخير من كل قادم. إن ارتباط الناس حول الأفكار ومجادلتهم على اساسها أفضل كثيراً من تنازعنا غير المؤسس على فكرة واحدة. قبل سنوات كان الصراع في السودان قائماً على خطوط فكرية بين اليسار و الحركة الإسلامية والعروبيون والأفريقانيون وما يسمى بالطائفية والان تردينا حتى صارت الفرق الرياضية منقسمة على خطوط قبلية، لا حول ولا قوة إلا بالله. إن تشيع البعض منا لن يكون سبباً في انهيار السلفية أو السنة أو الصوفية أو غيرها ولكنه سيكون عاملاً مهماً من عوامل اثراء مجتمعنا الناهض. ملاحظة أخيرة وهي إن وجود الأستاذ الهادي محمد الأمين الراصد المهتم بشئون الجماعات الإسلامية في السودان، بحضوره الرزين، كان مفيداً بالرغم من عدم قدرته على الإسهام بالكثير من المعلومات التي تميز برصدها نظراً لصعوبة متابعة النشاط الشيعي لعوامل معقدة ومختلفة. أعتقد أن الهادي قادر على صناعة محلل كبير اذا اهتم ببعض الجوانب التدريبية فمعلوماته حاضرة لكنها تحتاج الى منهج يضبط انسيابها.