مصطفى عبد العزيز البطل [email protected] الحلقتان الاولى والثانية الحلقة الاولى: نشرت صحيفتنا (الخرطوم) في عددها الصادر أول امس الأحد الجزء الاول من حوار مطول مع العميد (م) عبد الرحمن فرح، أمين المعلومات السابق في حزب الامة، ومستشار جهاز الأمن الوطني، الذي كان قيد الانشاء عند وقوع انقلاب العصبة المنقذة في يونيو 1989. كانت تلك صفة الرجل الرسمية. ومُسمى (مستشار الجهاز) ابتدعه الدكتور حسن الترابي، النائب العام آنذاك، الذي أشرف على صياغة قانون جهاز الأمن الوطني، وعرضه ودافع عنه أمام مجلس الوزراء، كما سبقت الاشارة في مقال سابق. ويشير المسمي بالطبع الى المسئول السياسي والتنفيذي الاول في الجهاز، ولكنه يتبع نمطاً او منهجاً في التسميات لهذا النوع من المناصب، لم يكن مألوفاً في السودان. الذي أعرفه يقيناً أن عبد الرحمن فرح لم يكن راضياً عن المسمي الوظيفي (مستشار الجهاز). وأذكر تماماً أنني كنت أجلس، في ذلك اليوم من عام 1988، الى جانب السيد/ خالد فرح صاحب جريدة (السياسة) آنذاك، وصديقه الصدوق الاستاذ عبد الوهاب بوب المحامي الشهير، وعبد الرحمن فرح نفسه. كان الثلاثة يقلبون بين اياديهم وثيقة أحضرها معه عبد الرحمن تحمل قرار التعيين. وقد صاغ خالد الخبر بيده، ونشر بالصفحة الاولي في اليوم التالي تحت عنوان: (تعيين عبد الرحمن فرح مستشاراً لجهاز الأمن الوطني بدرجة وزير مركزي). والجزء الاخير من عنوان الخبر الذي نشرته (السياسة) محض تزيّد، اذ أن القرار لم يكن قد حدد أية درجة لذلك المنصب، وزارية او غير وزارية. ثم أن عبد الرحمن فرح لم يكن راضياً عن القانون نفسه، الذي جرد الجهاز واقعياً من أية سلطة تنفيذية او اختصاصات أمنية حقيقية. اذ لم تكن للجهاز تحت ظل ذلك القانون أنياب ولا أسنان، بل اقتصرت مهامه على جمع المعلومات وتحليلها. كان منطق الترابي الذي حاجّ به رصفائه في مجلس الوزراء عندما نوقشت مسودة القانون هو أن العهد الديمقراطي لا بد أن يبتعد قدر الامكان عن تجربة النظام المايوي في خلق جهاز أمني اخطبوطي يقيد الحريات ويشيع الخوف بين الناس. ولا بد أنك – أعزك الله – تعرف الآن، وبعد مضي كل هذه السنوات، أن غرض الترابي ودافعه الحقيقي عندما صاغ القانون عام 1988 كان هو التمهيد لخططه الانقلابية، بتجريد الحكومة من أدوات أمنية واستخبارية سلطوية فاعلة. عندما قلبت فايل البي دي اف الذي يحمل النسخة الالكترونية من صحيفة (الخرطوم)، ووصلت الى صفحة الحوار مع العميد (م) عبد الرحمن فرح، كان أول ما لفت نظري وجود اسم زميلنا الاستاذ حسن اسماعيل، الكاتب الراتب بهذه الصحيفة، على رأس فريق التحرير الذي أجري الحوار. وتوجست للفور وداخلتني من ذلك وساوس وهواجس. مقدار علمي أن حسن اسماعيل كاتب صحفي وليس محرراً، فما الذي اقحمه على هذا الحوار بالذات، ولم اكن قد رأيت اسمه في اى عمل تحريري آخر من قبل؟ وأنا بصراحة أرتاب في أجندة صاحبي هذا، خصوصاً عندما يقترب الأمر من الشخصيات والقضايا ذات العلاقة بحزب الامة! كنا قد تحادثنا، عادل الباز، وأنا، بعد اطلاعي على الأعداد الاولي للصحيفة، بعد صدورها في مرحلتها الجديدة، تحت قيادته. ذكرت للباز في معرض تقويمي أن حسن اسماعيل، الذي قرأت كتاباته للمرة الاولي، يعتبر في حسابي الخاص أول اضافة حقيقية للصحافة السودانية في مضمار كتابة العمود والمقال منذ عهد طويل. وقد أدهشتني قدراته في التعبير عن أفكاره وتجليتها، فضلاً عن متانة وجودة منتجه النهائي المطبوع، بصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف. ولكن حسن اسماعيل عنده مشكلة واحدة، وهي أنه لسبب ما لا يستطيع مقاومة إغراء الكتابة عن الامام الصادق المهدي وأبنائه وبناته، فاذا كتب عنه، وعنهم وعنهن، ركبه عفريت! أتاني، لاحقاً بالاخبار، في شأن حسن اسماعيل، من لم أزود. وعرفت انه ينتمي في الأصل الى حزب الامة، ثم أصبح جزءاً من حلقات الانقسام والصراع الذي ضرب الحزب. وقد استقر في روعي بعد ذلك أن صاحبي هذا اتخذ من مساحته الراتبة بصحيفة (الخرطوم) ساحة لتصفية الحسابات وتسوية الاستحقاقات مع خصومه وحلفائه في اجنحة الحزب. ثم جعل من انتياش الامام وأهل بيته رياضة صحفية راتبة، يأخذ لها عدتها كلما هاجته أهواء النفس واستغوته غواياتها. وقد بلغ من ذلك مبلغاً أنه كتب مؤخراً ينال من الدكتورة مريم الصادق المهدي، على نحو أذهل القريب والغريب. ولم يصادفني قط من تجاوز حدود الموضوعية في بذل النقد، كما فعل حسن، عندما كتب مقارناً بين مريم المنصورة والراقصة والممثلة المصرية فيفي عبده! كما وصف السيد/ عبد الرحمن الصادق المهدي قبل ذلك بأوصاف شاطحة، لا تليق، لا بنجل الامام، ولا بحسن نفسه. وأنا، يعلم الله، أحب حسن اسماعيل، وهو أخي في رضاعة الصحافة الرفيعة والمحترمة. وأعلم أنه يحبني. ولكن ماذا نفعل مع العفريتين؟ العفريت الذي يركبه هو كلما أتى على ذكر الامام الحبيب وأهل بيته. والعفريت الذي يركبني أنا، كلما رأيت متعدياً، يتعدى بغير حق على الامام وبنيه وبناته. مهما يكن فسألجم أنا عفريتي. وثقتي وفيرة في أن حسن سيلجم عفريته، او لعله يستهدي بالله ف (يصرفه) قولاً واحداً، و يا صحيفة (الخرطوم) ما دخلك شر. نعود بعد غد الخميس، بحول الله، لنستأنف مسيرتنا عن إفادات العميد (م) عبد الرحمن فرح، ودوره وحدود مسئوليته عن انقلاب العصبة المنقذة. والملابسات التي سبقت الانقلاب وتلته، ومواقف الشخصيات والقوي السياسية، ونطاق مسئولياتها تجاه زلزال انهيار دولة الديمقراطية الثالثة.
الحلقة الثانية تطرق حوار (الخرطوم) مع العميد (م) عبد الرحمن فرح الى تقويم دور الحزبين الرئيسيين الذين شاركا – الى جانب حزب الامة - في حكومة الوفاق الوطني بقيادة رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي. وقد شمل نطاق التقويم صياغة قانون الامن الوطني وملابسات انشاء الجهاز الأمني، كما شمل الحياة السياسية بوجه عام. وفي هذا الصدد جاء على لسان فرح: (كان من الواضح أن للترابي عمل دقيق يقوم به، أما الحزب الاتحادي الديمقراطي فقد كان يمارس نوعاً من الفوضى). وقد استبان (عمل الترابي الدقيق)، الذي كُتب في جبين الديمقراطية الثالثة ثم رأته العين في يونيو 1989. وفي الحكمة الشعبية: (المكتوب في الجبين لازم تشوفو العين). وأصبح الحديث عن ذلك العمل من قبيل تحصيل الحاصل. ولكنني وددت أن أتوقف برهةً عند الجانب المتصل بالحزب الاتحادي الديمقراطي ودوره في الحياة السياسية. وتجدني على اتفاق مع مقولة العميد فرح عن أن ذلك الحزب (كان يمارس نوعاً من الفوضى). في يقيني أن أدء الحزب الاتحادي خلال حقبة الديمقراطية الثالثة لم يخضع قط للتقويم الموضوعي. ويعود ذلك لعوامل معينة راسخة في الثقافة السياسية السودانية المعاصرة، ربما احتاجت هي نفسها الى تقويم موضوعي آخر! كثير من السودانيين يصابون بحالة من الارهاق والتوهان الذهني عند تقويم مواقف الكيانات الكلية، كالتنظيمات والأحزاب السياسية. ولذلك فانهم يميلون تلقائياً ويستسهلون التعامل مع شخوص او رموز سياسية بشرية محددة. ثم يخضعونها عند اللزوم، أو قل عند الأزمات والخطوب، لامتحانات سريعة تشبه اجراءات المحاكم العسكرية الايجازية. يسرعون بعدها الى احكام قطعية اطلاقية عريضة، ترتاح اليها نفوسهم. ثم تجدهم عند نهاية المطاف وقد وقفوا في خشوع على مشارف تلك الاطلاقيات يكررونها ويستعيدونها، مثل وقوف العربان امام الاطلال! وربما كانت هذه سانحة لا بأس بها لنخوض في اجتهادات تقويمية حول ما تقدم، نبسط بين أيديها الشواهد والبينات. ثم ندعو غيرنا من الحيوانات السياسية، ومعلوم ان الانسان، بحسب أرسطو، حيوان سياسي، الى حوار مفتوح يستقصد أكوام الاوهام وتلال الخزعبلات التي تعمر حياتنا السياسية فيزيحها، لو صح ان في الاوهام والخزعبلات عمران! والحق أنني لم اعرف منهجاً بعينه او برنامجاً بذاته او سياسة محددة للحزب الاتحادي الديمقراطي خلال حقبة الديمقراطية الثالثة. كانت السياسة الرسمية المعتمدة لهذا الحزب هي الوساوس والتوجس والتشكك والارتياب في نوايا شريكه السياسي الاول، وهو حزب الامة ورئيسه السيد الصادق المهدي. ثم معاندة ذلك الحليف لوجه العناد. بدأت مسيرة الديمقراطية الثالثة بعد انجاز الانتخابات البرلمانية عام 1986 باتفاق، بدأ سرياً ثم استعلن، عقده الحزب الاتحادي الديمقراطي مع حزب الجبهة الاسلامية القومية. وقضي ذلك الاتفاق الا يتحالف أيا من الحزبين مع حزب الأمة لتشكيل حكومة، دون ان يكون الشريك الآخر في الاتفاق جزءاً من ذلك التحالف. ولكن الحزب الاتحادي باع شريكه في الاتفاق بثمن بخس، او بالاحري بغير ثمن، عند اول منعطف، حين عرض عليه حزب الامة التحالف وتشكيل حكومة ائتلافية، فعقد اتفاقاً لتشكيل حكومة لم تشمل الجبهة الاسلامية! ثم عندما شرع رئيس الوزراء، بمجرد توليه منصبه، في فتح ملف قوانين سبتمبر، أبلغه الحزب الاتحادي معارضته لإلغاء تلك القوانين، بل اعترض على فتح ملفها في الأساس. وإذا بدت لك هذه المعلومة غريبة بعض الشئ، فتيقن، أعزك الله، أنني اتفهم حالة الاستغراب التي تعتريك. فلا أحد منذ سقوط الديمقراطية الثالثة حتي اليوم طرق هذه المعلومة أو استدعاها. وما الحاجة الى استدعائها والسيد الصادق المهدي موجود؟ يكفي أى متعلم او مثقف رفيع، أن يردد كالببغاء كلمات نمطية محفوظة عن أن السيد الصادق المهدي وصف القوانين بأنها (لا تساوي الحبر الذي كتب به)، ثم عندما اصبح رئيساً للوزراء، غير موقفه وماطل في الغائها! تجد مثقفاً حداثياً متقعراً يحدثك من طرف انفه: "كان من المفروض ان يكون قرار الغاء قوانين سبتمبر هو اول قرار يتخذه الصادق المهدي". تسمع بصبر جميل ثم تسأل: يا سيادة المثقف، هل تعلم ان رئيس الوزراء في النظام البرلماني لا يملك حق اصدار والغاء التشريعات وان هذه سلطة البرلمان؟ بعد شئ من التلعثم تأتيك الاجابة: "ولماذا لم يلغها بواسطة البرلمان وكان عنده الاغلبية"؟ المثقف عبقري زمانه لا يعرف أن حصول حزب على تسعين مقعدا، وهو حوالي ربع عضوية البرلمان، يجعله اكبر كتلة برلمانية، ولكنها ليست (اغلبية البرلمان). أين (الربع) من نسبة (ثلثي الاعضاء) المطلوبة لتشريع والغاء القوانين؟ المثقف عبقري زمانه لا يعرف أنه حتي التسعين نائباً لم يكونوا كلهم مؤيدين لخط المهدي بالغاء قوانين سبتمبر، بل أن منهم من تمرد وهدد بمغادرة الحزب. ولكن الاهم من ذلك كله ان المثقف عبقري زمانه لا يعرف، أو لا يتذكر، او لا يريد ان يتذكر، ان الحزب الاتحادي الديمقراطي، صاحب الكتلة البرلمانية الثانية في البرلمان، والشريك الثاني في الحكومة الائتلافية، رفض حتي مناقشة مبدأ الغاء قوانين سبتمبر، وان موقفه كان متماهياً مع موقف حزب الجبهة الاسلامية. المثقف عبقري زمانه لا يعرف هذا ولا ذاك، ولكنه يردد كالببغاء مفردات يحفظها عن ظهر قلب من (كتاب المحفوظات)! مسعانا في مورد تقويم دور الحزب الاتحادي الديمقراطي وأدائه السياسي في غضون التجربة الديمقراطية البرلمانية الثالثة مستمر ومستطرد. نود ان نعرض في هذا المورد الى امثلة اضافية محدودة، منها موقف الحزب الانتهازي العبثي، المخالف لابسط قواعد الممارسة الديمقراطية المحترمة، من الازمة السياسية التي عرفت باسم (انتفاضة السكر) في ديسمبر 1988. ثم موقف الحزب غير المسئول تجاه المهددات الأمنية والمخططات الانقلابية التي هددت النظام الديمقراطي في الأشهر والأسابيع الاخيرة قبيل نجاح انقلاب العصبة المنقذة. وذلك قبل ان نعرض الى جوانب اخري من إفادات العميد (م) عبد الرحمن فرح.