لعل أكبر المفارقات التي نجمت عن شروع أثيوبيا في بناء سد النهضة الأثيوبي، الذي سينقذ حياة ملايين الاثيوبيين من الموت جوعاً، هو انعدام الشفافية وتضارب المواقف المصرية والسودانية ، فالحكومتان المصرية والسودانية أكدتا بشكل رسمي أن تخطيط وبناء سد النهضة الأثيوبي قد تم بعلم وموافقة الحكومتين المصرية والسودانية بعد تشكيل لجنة فنية شارك فيها خبراء فنيون مصريون، سودانيون وعالميون وتلقي ضمانات بعدم تأثر حصص مصر والسودان بأي أضرار مائية لكن سفير السودان في مصر صرح قائلاً أن بناء سد النهضة هو إجراء صادم! ثم ظهر إعلاميون ومسؤولون مصريون كبار وأخذوا يطالبون بإيقاف بناء سد النهضة الأثيوبي والقيام بعمل عسكري لتدميره الأمر الذي دفع أثيوبيا إلى التهديد بضرب السد العالي وِاغراق مصر في حال تعرض سدها لأي اعتداء عسكري! ولعل المفارقة الأكبر هي أن الاعلام المصري قد شن هجوماً عنيفاً على السودان ودمغه بالتآمر مع أثيوبيا ضد المصلحة المائية المصرية العليا! أما بعض الاعلاميين المصريين فقد ظهروا في قنوات رسمية عربية وأكدوا أن مصر والسودان ترفضان بناء السد وكأن مصر هي ولي أمر السودان حتى تتحدث بإسمه وتحاول إلغاء الموقف السوداني الرسمي وكأن حكومتي مصر والسودان لم تصدرا تأكيداً رسمياً بالموافقة على إنشاء سد النهضة الأثيوبي قبل عشرة سنوات أو أكثر! من حق المصريين أن يقولوا إن مصر هي هبة النيل وأن مسألة الأمن المائي هي مسألة أمن قومي مصري ومسألة حياة أو موت بالنسبة لكل المصريين ولكن الصحيح أيضاً في نظر كثير من الدول والشعوب الأفريقية والمراقبين الدوليين أن نهر النيل ليس نهراً مصرياً ولا ينبع من أسوان المصرية ويصب في شواطيء البحر الأبيض المصرية بل هو نهر أفريقي ينبع بشكل أساسي من دولتي إثيوبيا واوغندا الافريقيتين وأن الحاجة الوطنية الماسة التي سمحت لمصر والسودان ، باعتبارهما دولتا مصب ، ببناء سدود مائية هي التي يجب أن تسمح لاثيوبيا ببناء سد النهضة ، باعتبار إثيوبيا دولة منبع ، وأنها أولى بذلك من دول المصب ، فالمشاركة المائية في نهر النيل هي حق قانوني وإنساني لجميع دول المنبع والمصب بلا استثناء ولا يجوز أن تردد أي دولة مصب شعار الدجاجة النيلية الحمراء (النيل نيلي ، ملكته وحدي ، وسأستعمله وحدي ، وساستغله وحدى ، واتصرف فيه وحدي) لأنه شعار أناني احتكاري يتناقض مع المباديء الانسانية العامة ويتناقض مع مباديّ الاسلام السمحة التي تؤكد أن الناس شركاء في ثلاثة ، الماء والكلاء والنار، فلماذا التهديد بالنار عند المطالبة بالمشاركة في الماء؟! من المؤكد أن الهجوم الإعلامي المصري على السودان بشأن موافقة السودان على إنشاء سد النهضة الاثيوبي هو أمر غير مقبول نهائياً من جانب السودانيين ناهيك عن أنه يتعارض تماماً مع الموقف الرسمي المصري المتطابق تماماً مع الموقف الرسمي السوداني ، أما الهجوم الاعلامي على أثيوبيا فلن يغير الوقائع على الأرض ، علماً بأن أثيوبيا قد تأخرت كثيراً في بناء سد النهضة وكان من المفترض بنائه منذ عشرين عاماً على أقل تقدير، أما إذا أرادت حكومة مصر سحب موافقتها الرسمية على بناء سد النهضة الاثيوبي فإمكانها اتباع السيناريو القانوني واللجوء إلى التحكيم الدولي ، أما اللجوء إلى السيناريو العسكري فلن يكون مقبولاً من كل الدول الأفريقية ولن يكون مقبولاً من المجتمع الدولي وسيرتد على نحر مصر وعندها سيعلم المتعصبون النيليون الفرعونيون أي منقلب سينقلبون!