كنت هناك تتسكع وحدك في مدينة الضباب في مساء ربيعي باذخ .. وجدت نفسك تائه في أزقة عالم غريب لم تألفه من قبل طيلة حياتك , تسير بهدؤ كأنك تمشي على أرض مفروشة من القطن , لم تعرف أين وجهتك ولم يكن الوصول لمكان ما هو هدفك .. تمعن النظر إلى السماء وتتأمل شكل الغيوم العابرة , تدعو في سرك من السماء أن تمطر .. لم تُخيب السماء دعوتك .. وإندهشت حين أمطرت السماء بعد لحظات معدودة .. قلت بسخرية لو كنت طلبت شئ آخر من السماء لكان قد تحقق بلا شك .. لكن هل هناك أجمل من هطول المطر ؟؟ هذه النعمة لا يعرف قيمتها إلا من يسكن في أراض لا تزورها المطر .. وأنت تصعد الآن للأعلى في الباص , تمر من أمام نظرك الحدائق والمنازل والعابرون الذين يسابقون الريح .. سكون عميق يعم كل تفاصيل المكان لكأن المدينة دخلت في حالة صمت أزلي .. ما أجمل الإصغاء لصوت العدم .. هل هو الهدوء أم أنني أصبت بحالة طرش .. هكذا سألت نفسك .. كان بودك أن يأتي صوت يكسر حالة الصمت السائد .. تحاول أن تصرخ وتلعن هذا العالم لكن صوتك لم يخرج البتة ؟ ما هذا التواطؤ أيتها الحواس ؟؟ لحظات مدهشة بمعنى الكلمة مشحونة بطاقة مهولة تمنيت ألا تنتهي وتظل معلق فيها للأبد .. أدمنتها وألفتها حد الثمالة كأنك مُصاب بحالة تخدير شبه كامل .. سرب من الطيور البيضاء تحلق في الأفق البعيد.. تلمحها وهى تتابع خط سيرها وتتمايل بطرب في أروقة الفراغ الفسيح .. بالرغم من إنها بعيدة إلا أنك تسمع زقزقتها في أذنيك ... كان حزنك أكبر من حزن طائر جريح فقد بصره وتكسرت جناحاه .. سالت نفسك :كيف لنا أن نهزم أحزاننا وإحباطاتنا المتلاحقة ؟؟ أجبني أيها العدم .. لمحت من على البعيد طيف تلك الفتاة الغجرية التي صادفتها ذات يوم في أحد أزقة أحلامك الفسيحة .. قالت لك ذات مرة: - كم ستعطيني إذا تغنيت لك بمقطع بصوتي ؟ .. أعجبتك جرأتها وثقتها الزائدة في صوتها ومقدراتها العالية في التطريب, قلت لها في سرك بعد سماع صوتها : الله عليك يا صغيرة .. إن صوتك يستحق أن تفتح له أبواب المسارح والإذاعة والسينما .. لمحت فنان بوهيمي يطارِد فكرة هاربة من خياله المتمرد, ظل يبحث عنها في عيون المارة وظلال الأشجار.. وعازف موسيقي خرج ضائعاً من حانة قديمة يتبعه كلبه, يحاول جاهداً أن يستذكر لحن تائه من ذاكرته. في هذه المدينة يتسابق الناس بسرعة مهولة كالأشباح ..ألا يملون من هذا الروتين الممل ؟ وفجأة يكبرون بسرعة مثل الورود ..ثم يزبلون بعد ذلك ويختفون مثل النجوم الهاربة في السماء .. الأرواح تسبح في الفضاء لا تفصلها المسافات والحدود, الأرض مغطاة بالدماء وأشلاء الضحايا, الأحجار تنظر بذهول وتقول لنفسها : ( أيها الإنسان هنيئاً لك بهذا العبث والفوضى الأبدية ) .. جال في المكان تفاصيل حوار لا تعرف مصدره , هل كان بين إثنان من ركاب الباص .. - كيف هي حياتك يا صاحب ؟ - عن أى حياة تتحدث يا صاحب, إنه عالم مُمِل ورتيب بمعنى الكلمة , لا ينقصنا سوى أن نشعل نار في أجسادنا الهزيلة والمتعبة ... - يبدو أن الحياة أصبحت معركة خاسرة لا رابح فيها إلا الموت .. ليس على الموت حرج مادام سيخلصنا من هذا الضجر والملل .. وواصل : لولا عيون طفلتي الصغيرة , وصوت جميل لمغني متمرد , وروعة صديقة شامخة قامتها بعلو السماء.. لرحلت عن هذا العالم القبيح منذ وقت بعيد.. - كم عُمر طفلتك ؟ ( طفلتي التي لم تولد بعد عمرها الف عام من تقويم الغمام وذاكرة الدم والوجع الطافح في بلاد الشام ) - لماذا لا تعود للوطن لقضاء بعض الوقت هناك ؟ - وطن !! عن أى وطن تتحدث يا صاحب ؟ الوطن الذي تركناه خلفنا صار هو الآخر منفى , وهذه المنافى أصبحت حالة شتات أبدي .. لا تهمني كثيراً أسئلة الهوية بقدر ما يهمني سؤال الوجود نفسه .. - ما رأيك نذهب هذا المساء للسينما ؟ - السينما لم تعد تروقني مثلما كنت في السابق وأصبحت خارج إهتماماتي , لا أذكر إسم آخر فيلم شاهدته, الشئ الوحيد الذي أعرفه هو أن خيالي أصبح أوسع من هذا العالم المرئي .. صمت ثم قال بهمس : أيتها الأرض هل أصبحنا غرباء عنك لهذا الحد ؟ أخبرني صديق ذهب بعد عقدين من الزمن للوطن , وقف عند إحدى الميادين العامة وصرخ بأعلى صوت : أيها الوطن من الغريب أنا أم أنت ؟ .. لم يجد إجابة حمل شنطته وقال إنه لن يعود مرة أخرى إلى هناك .. آخر الليل تنزل الأحزان تباعاً كقطرات المطر , تضيع كل الأفراح الصغيرة وسط ركام الحزن, الذي يمتد ويمتد إلى ما لا نهاية .. لا شئ يسكنك سوى عنفوان القلق والق الجنون الذي يتسرب في أعماقك وتتنفسه كنسمة الهواء .. ثم تأتي الكآبة وتأخذ مساحة شاسعة في زاوية الروح مثل الضيف الثقيل الغير مرغوب فيه ... نظرت خلفك حتى ترى ملامح الجالسين .. لكن يا للمفارقة المدهشة ... لم يكن هناك أحد في الباص سواك ... قلت لنفسك أين كان يدور ذلك الحوار؟ في عالم الأخيلة ؟؟ أين أنا أيتها الحياة ؟ ما أجملك أيها الجنون ... قبل أن تهبط من الباص صافحت عيناك يافطة خضراء كتب عليها : ( يا صاحب الزمان أدركني ) .. قلت في سرك حينها : يا عالِم الغيب والشهادة إمنحني المزيد من صبرك الجميل .. عوض عثمان عوض