منذ العام 1989م وقع العقيد التشادي المتمرد في دارفور إدريس ديبي تحت أحضان الإسلاميين الصاعدين الى السلطة بعد إنقلاب خططوا له منذ زمن بعيد بقيادة الشيخ حسن الترابي الداهية السياسي في السودان..أن عملية إستقطاب الاسلاميين للضباط من الجيوش معروفة لدى أبناء الجبهة الاسلامية للانقاذ من الجزائروالى السودان, والتي غالباً ما تتم عبرخلاياها السرية المنتشرة بكثرة في وسط المجتمعات , خاصة في القارة الافريقية..أما ما يمهنا هنا التركيزعلى تشاد ورئيسها وتغلغل هؤلاء الى الحركة الوطنية للانقاذ(MPS) التي أسسها ديبي في السودان بمساعدة خلايا الاسلاميين النشطة التي جاءت الى الحكم للتو بعد أن خاضت حروباً ومجابهات عديدة وخرجت منتصرة لتسيطرعلى سلطة أكبر بلد في القارة الأفريقية..وتعود عملية إرتماء ديبي في أحضان الجبهة كما يسميها الغرب (FIS) الى عهد تمرده الذي كان يقوده ضد نظام حسين هبري وتوجهه الى دارفور فاراً من مطاردة قوات هبري ، وفي ذاك الوقت كان ينظراليه في السودان من أنه أحد ضباط حكومة هبري الذين كانوا يضمرون العداء لليبيا والسودان.. ولأجل تبريرموقف ديبي من ذلك وهو في الاراضي السودانية , فإنه لابد له من أن يتوجه بقوته المتمردة الى دار(بريا) حيث توجد أمتدادات لبطون قبيلته على الجانب الآخرمن السودان كي تتوفرله الحماية اللازمة , ويجد المساعدة من النخب والقيادات من هذه القبيلة في جبهة(FIS) والذين تربطهم به صلات قوية , ومن ثم يقومون بدورتقديم أبنهم الثائرالى رموزالسلطة الاسلامية في الخرطوم بقيادة الدكتورالترابي الذي يملك سلطة القرارالفعلي في عاصمة اللاءات الثلاثة ليتم مباركته في شكل توصية بصيغة دينية (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً) في تشاد ويطمح أن يكون بديلاً لهبري , وأن توصية نتخذه ولداً أضمن بكثيرلهم , إذا ما أخذنا رابط الوشائج الاجتماعية لديبي مع من قدموه الى الشيخ , وهم بالتأكيد قيادات مجاهدة ومناضلة في الجبهة لا يرد لهم طلب في تلك الفترة , وقد سمي مطارالجنينة بإسم أحدهم(الشهيد صبيرة), لاسيما في ظل التوجهات الاسلامية الجديدة للخرطوم والرامية الى إحتواء بعض القيادات الافريقية في المنطقة وكذا زيادة المد الأصولي المتمثل في توسع طموحات الظاهرة الترابية في القارة والتي لم يخف الشيخ الترابي سانحة جماهيرية, إلا وذكر بها موضحاً ملامحها كإستراتيجية لتمدد الجبهة إقليمياً على الأقل في الدول المحيطة بالسودان , وهو مصدر ضمان لخطى نجاح خطط الاسلام السياسي الذي يستطيع الترابي بحنكته السياسية وأفكاره الواسعة أن يطورها وتصبح جاهزة للتنفيذ والتطبيق في شكل برامج ثقافية دعوية عبر المنظمات أو دعم مجاهدي جبهته للمتمردين للإطاحة بحكوماتهم كما حدث في حالة ديبي وهبري, وهي الحالة الأولى التى تتناغم فيها مصالح باريس مع سودان الترابي في الإطاحة بهبري أمريكا المنشغلة بحرب الخليج الثانية..فبعد مباركة الشيخ للرئيس البديل لهبري في تشاد , فقد أعتبرت تلك الخطوة الأولى على طريق تدشين التوجهات الترابية في المنطقة وتتبعها مراحل أخرى في عملية إنتقاء القيادات الافريقية الموالية للسلطة في الخرطوم في ظل ظروف توجس الغرب وتزمره من إعلان السودان للشريعة الاسلامية بهذه القوة , فقد تمت عمليات الدعاية لديبي والتى شارك فيها قياديون ورجال أعمال في السودان وتحديداً في دارفور والمناطق الشرقية التشادية التي تتاخم الحدود بين البلدين , وتشكلت لجان الدعم والمساندة تحت إشراف قيادات الجبهة ووجهائها بدارفور, وتزوج ديبي من بنات المنطقة ليؤكد ولائه لهم..وقد أشارالرئيس البشيرالى ذلك قائلاً عندما جئنا الى السلطة وجدنا أخينا إدريس ديبي في دارفور..وعندما أستلم السلطة أحسسنا بأن لنا أخاً حريصاً على أمن البلدين ويرتبط وجدانياً بالسودان) وهو شعوركشف عنه ديبي نفسه حين قال البعض منكم يتذكرقبل 13سنة كان لى سكن هنا فى مدينة الفاشر, ومن الفاشرانطلقنا منتصرين على مدينة انجمينا , عشنا معكم 17 شهراً فى الفاشر, هذه الذكرى ارجعتنى الى الوراء اشكرالبشيرلاتحاحته لى هذه الفرصة..ذكرياتى فى الفاشرستبقى حية خاصة بالنسبة لى وبالنسبة لكل اصدقائي اعتقد الكثيرمنهم رآنى هنا), هكذا كان مخاض البداية العسيرة لديبي لإستلامه السلطة في أنجمينا والتغلغل السهل والتلقائي للإسلاميين عن طريق الروابط القبلية التي دخلوا بها تشاد برفقة ديبي فاتحين مستعملين المجموعات القبلية واجهات لتغطية وتمريرالأجندة الاسلامية في الفضاء الافريقي, ويأتي هذا في إطارتأكيدهم وترسيخهم لدورالدويلات الاسلامية التي يسعون الى إقامتها في الساحل الافريقي بما يتلاءم مع إطارالمشرع الحضاري الذي طرحه الشيخ للأمة السودانية والعالم الاسلامي بما في ذلك تشاد من ضمن هذا الإطار, وبحسب المشروع الحضاري , وما يحتمه الواجب الديني والاخلاقي وعوامل حركة التاريخ والجغرافيا بين شعبي تشاد والسودان فقد سنحت الفرصة لتلاميذ الترابي مع ديبي إعادة الامجاد التاريخية للإسلاف (يزعم البعض أن أسلافهم أسسوا دولاًفي تلك المنطقة), ولكن يتم ذلك على النمط الذي تقره أساليب ومشروعها الإقليمي والعالمي..ومن سخرية الأقدارأن المتهم الأول في قضية الجنجويد شيخ العرب موسى هلال قد ساعد ديبي مادياً ومعنوياً في حربه ضد غريمه هبري بدارفور وعبرالحدود..بينما يرى هبري التهديد الاسلامي لسلطته بات وشيكاً , فظل يكررفي خطبه النارية بأن ديبي يقود(الجيش الاسلامي المزيف),ما أن شارف العام 1990م على النهاية حتى دخل ديبي أنجمينا منتصراً وهو يقود مجموعات كبيرة ومدججة بالاسلحة تطئ أقدامها للمرة الاولى الارض التشادية , تلك المجموعات هي أغلبها من القياديين والمقاتلين في صفوف جيش الجبهة المنظم.. البعض رجع الى السودان والبعض الآخرفضل البقاء في البقعة المحررة ضمن الأجندة الإسلامية , وبذلك أدخل ديبي بتلك الخطوة تشاد وشعبها في قبضة الاسلاميين المدربين والمنظمين, وتم تنفيذ أحد أهم برامج الشيخ التوسعية من الناحية الغربية لبلاده , وحدد أشخاص لا تخطئهم العين في تشاد لتلك المهمة وأشرف العديد منهم على ملفات حساسة تتعلق بالأجهزة الأمنية والعسكرية وهم مجهولون للشعب التشادي والبقاع التي أتوا منها حتى يومنا هذا, لأنهم يعملون في الخفاء وبعيداً عن الأضواء من مواقعهم المختلفة ويحركون كل الأمورخلف الكواليس , وعندما واجه ديبي معارضة داخلية سنحت فرصة إستمرارهم في الشأن التشادي مجدداً عبرمساعدة الرئيس لمواجهة التمرد المسلح والاستفادة من خدمات الدولة الأخرى والتحكم فيها لاحقاً تحت سياسة(تمكنا) , وقد تعاظم دورهم في الدولة حتى أصبحوا فيها خبراء في إدارة المعدات الحربية والأمن والسياسة وفي مجال الإقتصاد والصحافة الأمرالذي جعل أبناء تشاد يتململون من وجودهم , خاصة أنهم أتوا بأفكاروبرامج أجتاحت الساحة التشادية , فكثرت الجمعيات ذات الإتجاه الاسلامي التي ينشد شبابها أشعار وأناشيد حماسية تحرض على الجهاد وتمجد الإستعداد لمقاتلة الغربيين والكفرة , كما أن المنظمات الاسلامية التى صرح لها بالعمل في تشاد تدخلت في قضايا تشادية تعتبر خارج نطاق العمل المنوط بها مما أدخلها في خلافات مع الدكتور حسن حسين رئيس المجلس الاسلامي التشادي , إضافة الى أن أنشطة الجمعيات ذات الاتجاه الاسلامي التشادية قد أقلقت دوائرغربية تعمل في البلاد , وأصبحت علاقة تشاد بالسودان محل إهتمام بالغ لدى المراقبين , وأذكرأن صحافياً غربياً سأل ديبي عن جدوى علاقة بلاده مع الخرطوم فأجابهذه العلاقة تاريخية وأنا لم أخلقها), ومن أجل تخفيف حدة الضغوط على ديبي من قبل الذين يرفضون فكرة تطبيق قوانين الشريعة الاسلامية في تشاد , كما حدث في شمال نيجيريا والسودان خشية بأن لا يلتئم الحزام السوداني عقائدياً , لذا فأضطرت وزارة الداخلية التشادية الى حل تلك الجمعيات أملاً في أن لا يتسبب نشاطها العلني في إسطتقاب الشباب التشادي المسلم وتفاعله مع الفكرة وتحويل البلاد الى ظاهرة ترابية تلفت أنتباه الدول التي تقع تشاد تحت دائرتها, بينماظل الآخرون من هؤلاء -أي أبناء الجبهة FIS –من جعل تشاد معبراً الى بلدان لايمكن دخولها من السودان بسهولة , خاصة وأنهم يستطيعون الحصول على الجوازالتشادي بيسر بما فيه الدبلوماسي كي يسمح لهم بالسفر, والبعض بقى في تشاد يعيش حياة رغدة أفضل من المواطنين التشاديين أنفسهم , وأدت ممارسات بعضهم الى إحداث إستياء عام لدى الكثيرمن التشاديين حتى من قبل ذويهم الذين يربطهم جأش اجتماعي, وكان هذا الاستياء جلياً في محاولة تمرد مجموعة عباس كوتي والذي كان تمرده أحدى حوافزه تقف ورائها قضية أبناء الجبهة, ويمكن الإشارة بهذا الشأن الى أن إقصاء نائب رئيس الجمهورية السيد/مالدوم بادا بذريعة إبهامه بتدبير الانقلاب يأتي في ذات السياق , وذلك بحث ديبي بإتباع سياسة استقطاب القيادات (FIS) العسكرية الى جانب الترابيين أو تسريحهم الى الحياة المدنية بإحسان, ويجدر بالذكر هنا الى أن تلك السياسة طالت المؤسسات المختلفة تحت الضغط الذي يواجهه ديبي من الفاتحين الإسلاميين الذين أضحوا لوبي اقتصادي وعسكري يحمل مخططاً مبرمجاً لا يستطيع التشاديين فهمه بسرعة أوالتعامل معه نظراً لضحالة ثقافتهم في هذا المجال, خاصة الأعمال التنظيمية المعقدة التي ترتبط بشبكات وعلاقات واسعة حول العالم الاسلامي والافريقي والذي يتشاطره الترابيين في تشاد والسودان نفس الأهداف والإستراتيجية الممتدة الى تلك المناطق , كما يمكن أن نشيرأيضاً الى أنه قد بلغ الإستياء الوطني الى مرحلة الخلافات بين المقربين الى ديبي أنفسهم حول من يخلف الرئيس في حكم الدولة التي يتحكم على سيطرتها لوبي قوي يرتبط اجتماعيا مع رئيس الدولة ومقربين آخرين يختلفون عن هؤلاء في الأفكار الأيدلوجية , خاصة المتشربين بالثقافة الغربية والذين في آخر المطاف اختاروا الخروج على ديبي معارضين لنظامه منشقين بالحرس الجمهوري رغم صلات الدم التي تربطهم مع أولئك الجبهجية , وأن العصيان العسكري الذي قادوه ضد ديبي قد خصم الكثير من نفوذ سلطته إن لم يكن قد شلها تماماً , وفي أوج مراحل تلك الفترات بقى الترابيون مدافعين عن وضعيتهم في تشاد والتى تعتبر المحافظة على شخص ديبي في السلطة من ضمنها ,سيما وأنهم يخشون فقدان تلك الوضعية التي بات مجالها يضيق أكثر من ذي قبل , ذلك بسبب المتغيرات التي طرأت على الساحتين التشادية والسودانية معاً, لأن أهداف مهمتهم الأولى في تشاد قد فقدت معناها الحقيقي أوإنها قد أنحسرت تماماً بعد مفاصلة رمضان بين الشيخ الترابي والرئيس البشير في العام2000م والتي أصطلح على تسميتها(خلافات المنشية والقصر) وهي المفاصلة التي أدت الى احتدام الصراع بين الطرفين الى أن وصلت تفاعلاتها إقليم دارفورفي عملية أشبه بأنها النهائية في تصفية الحسابات بين الخصمين والتي تم تقنيعها بالنزاع التقليدي لأبناء المنطقة من أجل السلطة في الخرطوم واستعملت فيها دارفور كواجهة للأحداث , ولفض تلك الخلافات بين أبناء الجبهة بلغ الأمر مستوى الصراع المسلح , وكذا الوقوف وراء القبائل , ومن ثم إحداث الكارثة الإنسانية..وفي آخر وتيرة التطورات أختار ديبي معسكر منشقي الجبهة ودعميه المتشبثين بامتداد الظاهرة الترابية الى تشاد ودول وسط وغرب أفريقيا واليوم يعسكر ديبي الحرس الجمهوري الخاص به في ليبيا لقتل المتظاهرين هناك ودعم العقيد معمر القذافي وهذا المشهد تكرر منذ سنوات من زائير الي ليبيا..