من تونس إلى مصر أدمن الشارع هنالك توابع التظاهرات حتى بعد ذهاب نظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك، ولا تزال أيام الجمعة أسبوعياً ملتقى لتأكيد مطالب الشعب، وامتدت (عدوى) الجمعة إلى اليمن والبحرين وسوريا وليبيا التي لا تزال تحت نيران الغليان والبقية تأتي. في مصر توالت جموع (جمعات) الغضب حتى تنازل حسني مبارك تحت ضغط الجماهير وقبله هرب جهاراً نهاراً بن علي تحت وطأة غضب الشارع التونسي الذي أعلن ضربة البداية لثورات اجتاحت العالم العربي وصحوة لم يكن يظنها أحد في شعوب استمرأت حكم الطغاة الذين قبعوا فوق رؤوس الملايين سنوات وسنوات رغم القبضات الحديديه و(الزنقة زنقة (،ففي مصر التي يُصوِّر إعلامها نظامها الحاكم بكل القدسية إلى الحد الذي يجعل الإجماع الشعبي على الحاكم هنالك من المُسلَّمات ولا نستثني الإعلام الرسمي والخاص هنالك، فكلهم شاركوا باقتدار في (تأليه) النظام الحاكم ورأسه حسني مبارك، ولم يكن أكثر المتشائمين وأكبر المعارضين يتصور أن تكون نهاية حسني مبارك وطاقمه وحاشيته على النحو الذي نقلته العدسات على مدى أسابيع، والمدهش أكثر من ذلك غليان الشارع المصري والعناد والإصرار الذي اتسم به المصريون وهم يسعون وراء مطالب إسقاط النظام.. الشارع المصري الذي صورته الدراما المصرية خانعاً خاضعاً للأمن والبوليس السياسي (وضرب القفا) ومدمناً للحشيش والشيشة وأفلام السينما، وصورت نظامه الحاكم الذي ابتدره عبد الناصر مَرضيَّاً عنه في السماء والأرض، والآلة الإعلامية الضخمة التي دعمتها مصر الرسمية عبر السنوات سواء في الصحافة والتلفزيون أو حتى في صناعة الدراما تم استخدامها بكثافة في تحييد الشارع وإخضاعه وبالمقابل تلميع النظام باستمرار. ولم تتوقف ثورة المصريين عند سقوط مبارك بل وتأكيد تحقيق كل المطالب التي انطلقت لأجلها الثورة، غير أنّ اللافت فيها حقيقةً هو تصديها لكل محاولات اختطاف الثورة التي حاول الكثيرون التقاطها من أفواه صانعيها من الشباب والبسطاء.. نعم ظهر كثيرون في ميدان التحرير ليلتقطوا الثمرة من أقصى اليمين لأقصى اليسار غير أنّ الهتافات لفظتهم بعيداً. الشاهد أنّ الإرادة الشعبية هي التي تصنع التغيير الذي أصبح ضرورة تقتضيها طبيعة الأشياء، فقد سئمت الشعوب حكامها الذين طالوا واستطالوا وورثوا وتوارثوا. في الخرطوم التي لا تنفصل بأي حال عن محيطها العربي دعت المعارضة لمسيرات على نمط ميدان التحرير في ميدان (أبوجنزير) والتغييرات التي شهدتها وتشهدها الساحة العربية أخيراً، لم يكن للأحزاب ولا التنظيمات يدٌ فيها بل كانت عفوية بأمر الشارع رغم محاولات بعض المتحزبين في مصر مثلاً تجيير الثورة لحساب التنظيم الإسلامي.. والأحزاب التي سئمها الناس ليس بمقدورها إلا القفز على مكتسبات الآخرين لكنها لا تصنع النجاح تماماً مثلما هو الحال عندنا في سوداننا المكلوم، فلا ثورة أكتوبر صنعها حزب بعينه ولا ثورة أبريل صنعتها الأحزاب ولا حتى غزوة 76 التي لم تكن الأحزاب فيها إلا مجرد مطية لنظام القذافي. لكن ذات هذه الأحزاب حال تغيير الأنظمة الشمولية تقفز فوق الكراسي بدعاوى الديموقراطية، وتبدأ (حجوة أم ضبيبينة) والموازنات الحزبية والقبلية والفشل المزمن. ولذلك تاريخية دور الأحزاب وجدواها لم تكن محل رهان في أن تقود بنجاح دورة تغيير يُعتد بها، إذ هي ذاتها بحاجة لتغيير ولم يكن مفاجئاً لأحد فشل المعارضة بأحزابها المتهالكة في تحريك الشارع. المعارضة ذاتها بقياداتها المتكلسة تحتاج لتحريك الشارع ضدها لأجل أحزاب ذات جدوى تضطلع بأدوارها كما ينبغي، وفقاً لما نراه في الأحزاب والديمقراطيات الحقيقية في النماذج الغربية. لقد تابعنا عبر شاشات القنوات نجاح الثورات.. عبر تكرار (الجمعات) والتجمعات بإرادة شعبية صرفة..جمعة الغضب وجمعة الصمود.. وجمعة الإرادة.. وجمعة الرحيل .. أما عندنا والحال هكذا فليس عيباً أن نعشق أغنية الحقيبة (الجمعة في شمبات) التي تغنى بها الكاشف من كلمات عبيد عبد الرحمن. أخيراً جداً .. تدعو الأحزاب التي تُنصِّب نفسها وصياً على هذا السودان لمظاهرات وتدعو للتغيير.. كشاب سئم حكايات (أُم جُركم) التي أكلت سبعين خريفاً من حقي أيضاً أن أدعو للخروج إلى ميدان (أبوجنزير) للتظاهر ضد هذه الأحزاب، فقد سئمناها بقياداتها الموسومة بالوراثة والقداسة التي (باضت وأفرخت) فوق رؤوسنا، ولم يبق لها إلا إعلاننا عبيداً مملوكين بمراسيم الحق الإلهي وصكوك الغفران.