* (إذا لم تعرف إلى أين أنت ذاهب فقد تنتهي إلى مكان آخر..) - ديفيد كامبل – .. مازلت مصراً أن اقتصادنا مراهق، منذ استلام الكيزان السلطة، وهو ليس في مرحلة تحول هكذا ببساطة، بل هو يعبر مرحلة مراهقة حقيقية بكل ما فيها من نزق واكتئاب وتردد. اقتصاد فقد براءته لكنه لم يكتسب النضج بعد، فقدَ طريقته في رؤية العالم، ولم يكوّن رؤية جديد بعد. أول واجبات الأهل في مرحلة المراهقة، بعد تحمل عبورها، هو مساعدة المراهق على توضيح خطوط توجهاته في الحياة، واختيار الأصلح له. فيتنام اختارت نوعاً واحداً من السمك، هو سمك الهامور، حولته لشرائح منزوعة (الشوك والحسك) وغزت به العالم، ومن أصل كل عشرة دولارات تدخل فيتنام ستة دولارات تأتي ثمناً للسمك. ماليزيا اختارت السياحة، دبي تحولت مستودعاً مؤقتاً لبضائع العالم، كوريا اختارت الصناعة، فغزت سياراتها شوارع العالم، وملأت أجهزتها الكهربائية بيوت البشر على امتداد الأرض. الهند توجهت الآن للخدمات، والبرمجة، وكل الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد على البشر فقط. تركيا اختارت الصناعة واسعة الطيف، فجعلت من نفسها (صيناً) أعلى سعراً وأكثر جودة. ما الذي سنختاره لاقتصادنا المراهق؟ ما المواهب التي تظهر عليه الآن وعلينا تعزيزها؟.. بعد انفصال الجنوب وذهاب عائدات البترول، والتخريب المتعمد الذي طال مشروع الجزيرة. هو كأي مراهق يعرف قليلاً عن عزف العود، ويرسم كوخاً قربه شجرة تتداخل مع الخطوط المتصاعدة من المدخنة، يردد بصوت لا بأس به بعض أغنيات نانسي عجرم، ونجاة مغرزة، وحمادة بت، يكتب مواضيع تعبير جيدة الصياغة، يلبس قميص أبيه الأبيض ليصل لركبتيه ويتصرف بجدية أمام مريضه الوهمي، يهوى تركيب بضع قطع معدنية وأسلاك فوق بعضها بطريقة تجعلها تسير بضعة سنتميترات قبل أن تتفكك. لكنه ليس موسيقياً ولا رساماً، لا مطرباً ولا كاتباً، لا طبيباً ولا مهندساً، هو احتمال مشروع أي واحد من هؤلاء. وعلينا أن نراقبه جيداً، ونتلمس مواهبه هذه، ونحدد أيها أكثر أصالة، ونساعده ليقتنع بها خياراً لحياته. الآن نمتلك كبلد مجموعة من المواهب: نمتلك عدداً كبيراً من المواقع التي تؤهلنا لنكون مقصداً مهماً للسياحة الثقافية، وميزات أخرى تؤهلنا لنكون مقصداً للسياحة الترفيهية. نمتلك مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، إذا بالسمسم وعباد الشمس، وبشكل سيجعل السمسم وعباد الشمس خياراً متاحاً. نمتلك مهارات شخصية وجيلاً شاباً قادراً على خلق مهن جديدة تناسب العصر، نمتلك موقعاً جغرافياً استثنائياً وفق معايير التجارة الدولية، نمتلك نوعاً خاصاً من الأغنام، نمتلك انتاجاً زراعياً ليس قادراً فقط (يحتاج) لثورة صناعية ترفعه عن التراب. لن ادخل لعبة التعداد، فهي غير مجدية أمام احتمالات لا تنتهي، ولكن أطالب أن نتصرف كأهل ناضجين، ونتناقش بجدية وبعمق في الخيار الأنسب لهذا الاقتصاد الذي يقترب من سن النضج، وما زال يتلمس طريقه، يتلمسه بنزق، يتلمسه دون خريطة واضحة. وبدلاً من كل هذه المؤتمرات المتشابهة والمتكررة والفاشلة، هذه دعوة لمؤتمر وطني جامع لكل ألوان الطيف السياسي السوداني، للبحث في خيارات المستقبل، فلا بدَ اليوم من قلب المثل القديم، ولابد من وضع البيض كله في سلة واحدة، شريطة أن نبقي أعيننا عليها دائماً.