دعونا نتحدث قليلاً عن ملامح البرنامج السياسي لمنبر السلام العنصري منذ توقيع اتفاقية السلام ، وهو تاريخ تأسيس المنبر ، واول بنوده اقامة ( جدار ) عازل علي اساس عنصري بين الشمال النيلي - لا الجغرافي- والجنوبيين بمن فيهم مسلمي الجنوب الى جانب اهل دارفور والنوبة ، وبما ان منبر السلام يضم شخصيات عسكرية ، فان التوجيهات المباشرة التي صدرت كانت قبيل توقيع اتفاقية السلام بفترة قليلة وهي ان يتم تكوين المنبر كما اشرنا في الجزء الاول من هذا المقال ، واصدار صحيفة (الانتباهة ) تصبح رأس الرمح في المعركة الجديدة وان تتوفر لها الحماية الكافية ، وان تقوم الاجهزة الامنية الخاصة التي تعمل في الجنوب اثناء الفترة الانتقالية الى جانب قدامى المتعاونيين مع الاستخبارات العسكرية من ابناء الجنوب مد الصحيفة باخبار مفبركة ، وان تعمل الصحيفة – ومن خلفها الجيش والاستخبارات والامن – على خلق اجواء معادية لاتفاقية السلام في الشمال ووسط البسطاء من المواطنيين اضافة الى ترهيب وترغيب القوى السياسية الاخرى ، وفي ذات السياق نشر تلك الاخبار والتقارير المفبركة على صحف بعينها ، على ان يكون التركيز حول جنوب السودان وبخاصة الجيش الشعبي لخلق وتصويره بانه جيش عصابات وقبائل لا يمكنه ان يندمج مع القوات المسلحة ، لتبغيض السودانيين لقضية الوحدة ، والشواهد والادلة لا تعد ولا تحصى ، كما ان الاخبار المفبركة عن دارفور كل يوم تطل في الصحف اليومية ، وبذا يكون المنبر العنصري يستهدف شعوب الهامش ، وكلنا يذكر ما قاله الاسلامي حسن مكي بان الخرطوم اصبحت محاصرة بالحزام الاسود . ومن ضمن خطة منبر العنصرية والاجهزة الخاصة التي تديرها القيادات النافذة في الحزب الحاكم دعم وتمويل المليشيات العسكرية في الجنوب ، وكانت الاستخبارات العسكرية قد شكلت ما يسمى بالقوات الوطنية الشعبية والتي تعرف اختصاراً ب ( قوش ) وهي جهة تتبع للاستخبارات العسكرية والاجهزة الخاصة في المؤتمر الوطني ، وتدير اكثر من ( 25 ) مليشيا عسكرية لقبائل في جنوب السودان الى جانب مليشيات الجنجويد في دارفور ، وكان موقعها بالقرب من المركز الثقافي الفرنسي في الخرطوم الى جانب القيادة العامة ، ويمكن القول ان كل هذه الخطط الشريرة التي اضرت وما زالت تضر بمصالح السودانيين نجحت ، والان يقومون بفصول اخيرة لمواصلة ابادة شعب النوبة ضمن مشروع قديم في تلك المنطقة بدأوه في العام 1990 ، ولا ندري ما يخبئونه من نوايا لبقية السودانيين . ومنذ توقيع اتفاق ( مشاكوس ) في يوليو من العام 2002 قامت الاجهزة الخاصة باعادة تشكيل المليشيات الجنوبية التي كانت تحارب الى جانب القوات المسلحة في الحرب الاهلية في جنوب السودان ، حيث اعيدت الهيكلة بتقسيم الجنوب على اساس قبلي وجغرافي، وداخل كل قبلية تم تشكيل فصائل لمليشيات منفصلة ( من خشوم بيوت وافخاذ القبلية المعينة ) ، ويتم التعامل مع الجنوب ككل على اساس ( فرق تسد ) ، وتم توزيع الرتب عسكرية للضباط من رتبة الملازم ثاني وحتى رتبة اللواء على قادة تلك الفصائل العسكرية ، وتزويدها بالمعدات العسكرية من البنادق والسيارات والتدريب والتجنيد المتواصل والتمويل من اموال بترول الجنوب نفسه ليقتلوا بعضهم من اموالهم، وقد استفادت العصبة الحاكمة من اموال نفط الجنوب التي كانت تحرس تلك المليشيات اباره في اعالي النيل والوحدة وهجليج ، وقد تم ابلاغ قادة المليشيات ان الحكومة ستستمر في التزاماتها معها ، واذا نجحت المليشيات في السيطرة على مناطق البترول سيتم تمليكها لهم لصيبحوا اثرياء في تلك الرقعة . وقد كشف لي احد قادة المليشيات كان يحمل رتبة العميد في القوات المسلحة ، لكنه من الذين انضموا الى جيش الجنوب في مارس الماضي ( ان احد قيادات المؤتمر الوطني النافذة ابلغهم في اغسطس من العام 2003 وفي اجتماع كبير في مقر قيادة القوات الوطنية الشعبية ان اتفاقية السلام ما هي الا هدنة مع الحركة الشعبية لادخالها الى الخرطوم ومن ثم القضاء عليها تماماً ) ، وقال ايضا (ان ذلك القيادي في المؤتمر الوطني اكد للمجتمعين ان حزبه عازم على القضاء على الحركة الشعبية وجيشها خلال الفترة الانتقالية وان الجنوب سيتم تسليمه لهم – اي لقادة المليشيات – وذكر العميد وهو من الذين كانوا يعملون في اعالي النيل ان بيتر قاديت كان من ضمن الذين حضروا ذلك الاجتماع الا ان قاديت كان قد انشق عن الحكومة وانضم الى الجيش الشعبي في اغسطس من العام 2004 ، ثم ما لبث ان عاد الى الخرطوم ، وبعد اتفاقية السلام الشامل انضم مجدداً الى حكومة الجنوب ضمن الترتيبات الامنية التي نصت على المليشيات ان تختار الانضمام الى القوات المسلحة السودانية او الجيش الشعبي لتحرير السودان ، واخيراً الان بيتر قاديت يقود عملاً مسلحاً ضد حكومة الجنوب ومعه الجنرال جورج اتور . ولذلك يمكننا ان نعتبر ان احتلال القوات المسلحة لمدينة ابيي في الحادي والعشرين من مايو الماضي ما هو الا بمثابة الاعلان الرسمي للانقلاب الذي نفذه منبر السلام العادل النازي على الاوضاع في السودان واحكام السيطرة على سدة الحكم والغاء اتفاقية السلام الشامل من دون التصريح بذلك ، او التدرج في تمرير اعلان الانقلاب بسياسات مختلفة مع اتفاقية السلام والاوضاع السودانية بشكل عام ، الى جانب اعادة ترتيب حزب المؤتمر الوطني قبل اعلان دولة الجنوب تمهيداً لاعادة تركيبة الحكومة بعد التاسع من يوليو المقبل، ولعل اجتماع الحركة الاسلامية في شقها الحاكم الذي انعقد في العليفون قبل اسبوعين والذي لم تتناوله الصحف اليومية او تشير اليه يعبر عن ان الصراع اصبح محتدماً داخل العصبة الحاكمة ، ومعلوم ان الحركة الاسلامية هي المبطخ السياسي والمرجعية الفكرية للمجموعة الحاكمة ، ولكن اي حركة اسلامية هذه بعد المفاصلة الشهيرة وابعاد عراب الحركة ومنظرها الدكتور الشيخ حسن الترابي . كما يبدو ان المؤتمر الوطني اتخذ من منبر السلام بديلاً عن الحركة الاسلامية ليقوم مقامها في عملية التفكير والتخطيط وقيادة مفاصل الدولة والجيش ، ويمكن لاي مراقب ان يعود لقراءة ما ظل يردده قادة منبر السلام على الاقل في فترة الاشهر الثلاث الماضية حول اتفاقية السلام الشامل وبخاصة الحديث حول ابيي ومنطقتي جبال النوبة والنيل الازرق وقطاع الشمال ، ويقارنه مع القرارات التي يصدرها البشير من على المنابر الخطابية كما حدث مع قضية ابيي ، جبال النوبة واخيراً حول مسالة نفط الجنوب بتلك التصريحات الغريبة من بورتسودان ، لا اظن ان كل من لديه عينين واذنين سيجد فرقاً في ما نزعم ، حتى قيل ان البشير ظل ينسق مع ( الخال الرئاسي الطيب مصطفى ) وليس مع مجلس وزراءه ومستشاريه في كل القضايا المصيرية للبلاد . ومن مقدمات تنفيذ انقلاب منبر السلام العنصري ايضا الصراع المكتوم والمعلن في آن معاً داخل حزب المؤتمر الوطني على اساس قبلي ( شايقية وجعلية ) ، وقد تم حسم الصراع من قبل جماعة ( منبر العنصرية ) في اجتماع مجلس الشورى الذي تم عقده في الشهر الماضي وقد قامت مجموعة الانقلاب الجديد بعملية تعبئة قبيل جلسة الانعقاد ، وقد ظهرت نتيجة التعبئة السياسية في خطاب البشير في الجلستين الافتتاحية والختامية ، وما تم اعلانه من توصيات ، ونعلم ان هناك من القرارات التي لا يتم الاعلان عنها ، ولكن يتم التعامل معها ضمن خطة العمل في توجيه الدولة والحزب . وفي عجالة يمكن القول ان الصراع بين مجموعتي حزب المؤتمر الوطني الحاكم بدأت بعد ابعاد الشيخ حسن الترابي في العام 1999 مباشرة ، حيث شعرت المجموعة الحاكمة بفقدان البوصلة الفكرية والتخطيط الاستراتيجي الذي كان يقوم به الترابي وبعض من معاونيه ، وقد ذكر ذلك دكتور قطبي المهدي في حوار سابق له مع صحيفة ( الوطن ) اجراءه عادل سيد احمد ، وفي معرض رده على سؤول حول علاقته بالترابي وان كانت لديه صلة بمذكرة العشرة الشهيرة يقول قطبي (علاقتي بالترابي قديمة جداً.. كنت أنا من مناصري الدكتور الترابي فترة طويلة من الزمن.. بعد الإنقاذ، وبعد عودتي من أمريكا استشعرت الخطأ في طريقة د. الترابي في قيادة الحركة.. في ذلك الوقت فإن كثيراً من الإخوة الذين انشقوا عليه كانوا معه حقيقة بما فيهم الأخ علي عثمان والذي كان نائب الأمين العام للحركة الإسلامية، فبعد التوافق مع الترابي جاءت الخلافات ثم تفاقمت حتى وصلت إلى مرحلة مذكرة العشرة.. لم أكن من المُوقّعين على المذكرة ولكنني كنت متفهماً لدوافعها ومؤيداً لها.. ولكن هذا لا يعني أن الأمور من بعد سارت بالصورة التي كُنّا نأملها ) .