[email protected] لا جدال أن الإعلام وسيلةٌ غايةٌ في الأهمية في العصر الحالي وقد عُدَّ في مرتبة يناهز مراتب الأسلحة الفتاكة بل وأخطر منها أحياناً. إن وسائل الإعلام وهي كثيرة ومتعددة لتتمكن من دخول نوافذ وحجرات الآخرين بلا كد وبلا زمان وتدخل آذان العالمين بلا عناء أو إستئذان. وهي بذلك تملك من الإغواء والإغراء ما لا يمكِّن المرء من تفادي ألوان إستهوائها أو الركون لزوايا إستلهائها؛ هذه ناحية، أما النواحي الأخرى فلا يمكن للمرء إيجازها ولكن يكفي مقدرة الإعلام على تشكيل رؤى الناس حول مفاهيم محددة وبلورة هذه المفاهيم لتكون محط الإهتمام في كل لحظة؛ وكمثال لذلك أحداث الحادي عشرة من سبتمبر وما ترتبت عنها من مفاهيم حول الإرهاب وماهيتها وطرق مكافحة، وأيضاً ما لعبته وسائل الإعلام من نقل حيِّ لإنتفاضة الثورات العربية الراهنة وعكسها لما يجري على أرض الواقع في تلك البلدان للعالم الخارجي والتي أدت بدورها إلى إزاحة بعض الرؤوس الحاكمة من عروشها. إن الحاجة لإقتناء إحدى وسائل الإعلام تصبح ضرورة ماسة وملحة إذا أصبحت هي حكراً على أناس دون غيرهم وأضحت آلية تُسخَّر لمصلحة فئة دون أخرى لا سيما إذا كانت تلك الوسيلة الإعلامية قومية المنشأ ويرجى من ورائها خدمة مواطني تلك الدولة بكل أطيافها. وبناءً على ذلك الإحتكار فسوف أحصر مقالي هذا في أمرين إثنين يتعلقلان بأهمية تلك الوسائل ومدى فاعليتها في تقليل الأضرار الناتجة عن القصور الإنساني بل وأحياناً تعمُّد الضرر بالآخرين بهدف أذيًّتهم. 1 الغياب الإعلامي في تناول حقائق وأحداث جبال النوبة السياسية: لم نر منطقة في السودان عانت كما عانت جبال النوبة قديماً أم حديثاً ولم نسمع عن بقعة في السودان وُصِفَت بأوصاف الدناءة والرذيلة غيرها أيضاً. فالعبودية قد أُوصِمت بجبال النوبة، حملة الأوساخ والبلدية قد أقتصرت على القادمين منها، صناعة الخمور ماركة تجارية تُنبِئ بجودتها وأصلها، السرقة وإن كانت مدلولاتها وشفراتها واضحة المعالم فلابد من نسبها لجبال النوبة، المحاولات الإنقلابية لابد من أصطباغها بالعنصرية ونسبها لمنتسبي القوات النظامية من جبال النوبة. ولكن هل كم من أحدٍ تحدَّث عن شمائل الإنسان النوبي وخصاله الكريمة؟ كم من أحدٍ كتب عن أخلاق الإنسان النوبي وآدميته؟ بل كم من أحدٍ دوًّن بسالة الإنسان النوبي ومجاهداته داخل السودان وخارجه. كم من أحدٍ سمع عن المناضلة مندي بنت السلطان عجبنا في الأدب السوداني سرداً كان أم كتابةً؟ كم نسبة الشعب السوداني الذي يعرفها؟ تلك المناضلة التي قاتلت في صفوف الرجال بقيادة والدها ضد الغزاة الإنجليز مجندلة الواحد منهم تلو الآخر في موقعة شَهِد لها الأعداء بالفحولة وشكيمة البأس؛ لم تلن لها عزيمة أو تنكسر لها شوكة وهي تحمل طفلها الرضيع على ظهرها حتى توفَّته المنية عطشاً والأمثال كثيرة. أجلٌ؛ قد تلجأ بعض الأنظمة الحاكمة في بعض دول العالم للسيطرة على وسائل إعلامها بغية التستر على سياساتها الجائرة وجرائمها الفظَّة من ناحية وتكميم الأفواه الناطقة بالحق من ناحية أخرى وذلك بغية طمس تلك الحقائق وعدم ظهور المستور إلى دوائر العلن والتي قد تخلق لها أجواءً من (عكننة) المزاج وبلبلته داخلياً وتفتُّح مسارات من الإنتقاد والإدانة خارجياً. وكثيرة تلك الدول المتدثِّرة كذباً بالحريات ولا تأبه بإحترام تلك الحريات الأساسية للإنسان وكرامته؛ إلّا أن منظومة دول العالم الثالث هي الأكثر خرقاً لتلك الحريات من غيرها على الإطلاق. عندما أحتكمت الناس لصناديق الإقتراع في 1986 وقال شعب النوبة كلمته، لم تجد القوى الخاسرة من وسيلة إلّا إذكاء روح الفتنة وتسليح القبائل العربية للقضاء على شعب الجبال جماعات ووحدانا الأمر الذي دفع أبناء جبال النوبة للإلتحاق بالحركة الشعبية للتدريب على حمل السلاح وتعلم فنون القتال للدفاع عن النفس والعرض. جاءت حكومة الإنقاذ ليزيد الطين بلة هي الأخرى بإعلان الجهاد على جبال النوبة وبذلك أُحكِم السوار على معصم الجبال ليذوق أبناؤها صنوفاً من الويل والعذاب والتقتيل والرمي حياً من قمم الصخور إلى الهاوية والرمي برصاصات الغدر على مسمع من الناس فأضحت الجثث النوبية طعام الهُوام حتى أن الكلاب لتأخذ معها جماجم القتلى وهي معروفة الأسماء. إن ما حدثت من جرائم بجبال النوبة في نهاية ثمانينات الصادق المهدي وبدايات عهد الإنقاذ لتشيب لها الجبال هولاً وهي ليست بأية حال من الأحوال بأقل من الفظاعات التي حدثت برواندا ولا أقل بشاعة من دارفور ولكن تبقى هنالك فوارقٌ أسهمت في معرفة الجريمة وحجمها بتلك المناطق المذكورة آنفاً في حينها وتم التعامل معها وهي فوارق: الإعلام الذي نقل الأحداث إلى المجتمع الدولي ووجود حدود لعديد من دول الجوار التي مكِّنت من سهولة العبور وتقديم ما يُلزم من أدلة ووثائق. الحملة الإنتخابية التي سبقت الإستفتاء على المشورة الشعبية لجبال النوبة كان الواجب عليها أن تجد المساواة في تغطيتها من قبل وسائل الإعلام للدولة لأهمية الحدث أولاً وليعرض كل مرشحٍ عن برنامجه الإنتخابي في جوٍ ديموقراطي تسوده روح المصلحة العامة ثانياً ولكي يعلم كل ناخبٍ ما يمليه عليه الواجب الإنتخابي من مسئولية تاريخية يتوقف عليها مستقبل السودان برمته. لم يكن الإعلام قوميا حينها فقد إصطبغ بصبغة الحزبية الواحدة وإنحاز لصف المؤتمر الوطني ليجعل منه رئيسه عمر البشير منبراً للتهديد والوعيد وساحة للمعارك والتي يطارد ويلاحق النوبة فيها جبلاً جبلاً وكهفاً كهفاً ، الأمر الذي حوَّل العملية الإنتخابية برمتها إلى حربٍ مسبَّقة ومعلومة النتائج.ً إن التاريخ ليكرر نفسه مرة أخرى في جبال النوبة حيث يتعرَّض بنوها للإبادة الجماعية بكل ما أتيحت لحكومة الإنقاذ من قوة ومن رباط الخيل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً بتلك الإبادة. فما كل أسود بنوبي وما كل نوبي بحركة شعبية حتى يباح إعتقاله وإعدامه. فإن كان الشباب وقوداً للحركة زيفاً فأي جُرم إقترفته الصبية والكهول من الرجال والنساء؟ وحتى لا تأخذ الأحداث سبيلها للإعلام وينكشف المستور فقد أحكمت حكومة الإنقاذ كعادتها الطوق وحالت دون تسرب المعلومات لوسائل الإعلام وتكتَّمت على المجازر والفظائع التي نزلت بالأبرياء من الناس ولسان حالهم يقول " حسبُنا الله ونعم الوكيل وإنَّا لله وإنا إليه راجعون". 2 الغياب الإعلامي للإرث الإلهي والثقافي بجبال النوبة: لا تقتصر أهمية الوسيلة الإعلامية على نقل الأحداث والوقائع فقط بل تتعداها إلى نقل جمال وأسرار الطبيعة للآخرين وعكس ثقافات وفنون الشعوب لبعضها البعض. إن الأدوار الحيوية التي تلعبها وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية لجدٌ كثيرة ومهمة على النطاقين المحلي والعالمي؛ إذ تعد المرآة التي تعكس وجه الدولة ومكوناتها البشرية والإقتصادية ورؤاها السياسية من ناحية وتركيبتها الإثنية والثقافية وأدبها بمفهومها العام من ناحية ثانية. فلا غرابة أن تفتخر بعض الدول بإرثها الحضاري والثقافي كإيطاليا مثلاً أو تتباهى بما حققتها من نظم إجتماعية كالولايات المتحدةالأمريكية و الهند، كونهما تحتويان على تعددية إثنية وثقافية متميزة. وعليها فلقد تطوَّر المفهوم الإعلامي ليكون رأس الرمح الذي يوجه المسارات الإقتصادية العالمية لكل دولة وبذلك تتسابق الدول في تقديم عروضها في مجالات التصنيع الزراعي بما فيه الحيواني والصناعي ومجالات الطب والفكر وحتى مجالات التسويق السياحي التي تستهوي كثير من محبي الطبيعة وإختصاصي الآثار والباحثين عن الإستجمام وإسترواح النفوس. إن هيمنة الأنظمة الحاكمة في السودان على دور الإعلام قد أفقد كثيراً من مواطنيه لمعرفة طبيعة بلادهم وعاداتهم وفلسفاتهم الإجتماعية والأدبية والأخلاقية وحتى الدينية منها ناهيك عن التواصل الخارجي الذي تفتح له نوافذ التلاقي الثقاقي والسياحي والإقتصادي؛ ولعل ذلك ما أبعد السودان عن لعب دوره المحوري في المجال السياحي المتميز والذي يتمتع به قياساً للتنوع المناخي وثراء طبيعته الجغرافية المتفاوتة التضاريس. يتضح ذلك جلياً لتهميش النظام لشعب النوبة من خلال المهرجان الثقافي الكبير والمتميز في حضوره نوعاً وكماً والذي أقامه مجلس كيقا (تجمع مجموعة القرى المسمَّية بكيقا في جبال النوبة ريفي كادوقلي) بمحلية أمبدة بأمدرمان في شهر مارس من العام الجاري. فقد كان المهرجان وبحق محل إشادة الجميع بفضل الحضور الجماهيري الكبير ومشاركة الكثير من الفرق الثقافية المتعددة والتي أسهمت بفعالية في إنجاح المهرجان. ظلت جموع من الناس جلوس أمام شاشات التلفزة وهم يمنُّون أنفسهم بمشاهدة اللوحة الجمالية التراثية النابعة من الجبال بعد الحضور المتميز لأطقم القنوات الفضائية العاملة وتغطيتها الكاملة للحدث إلَّا أن أمانيهم راحت أدراج الرياح وأحلَّت المرارة نشوة التمني وغُصَّت النفوس غمة وهي تعتصر مرارةً بما يُسمّى بقومية الإعلام وخدمتها للمواطن. فلقد تدخلت السلطات الحكومية ومنعت بث المهرجان أو حتى نشره في الصحف السيّارة وهكذا أفرغت القومية من مضمونها كعادتها. الأمثلة والشواهد كثيرة عند الحديث عن التمييز الواضح والفاضح عن مفهوم القومية السودانية؛ فما هو حق لبعض فهو مُحرَّم على البعض الآخر، ومن هنا تنبثق فكرة قناة الجبال الفضائية لتتمكن من الوجود ولتخدم قضايا المنطقة التي أُريد لها قسراً ألّا تكون وألّا ترقى لسمع أحدٍ داخلياً كان أم خارجياً. خاتمة: أُمنِّي نفسي غداً برؤية تلك القناة الفضائية وهي في قلب الأحداث النوبية تنقل وتعكس وتتحدث بل وتتنفس بهموم جبال النوبة وإنسانها الطيب والأبي والشهم والأمين الصدوق كما يقول أخي وصديقي شوقي بدري في مقالته بسودانيزأون لاين بتاريخ 2011.06.23. لتكن أهداف تلك القناة الآتي: 1 خدمة الإنسان النوبي وذلك عن طريق نشر تراثه وعاداته وتقاليده. 2 عكس الإرث الإلهي بالمنطقة من جغرافيتها وطبوغرافيتها. 3 تشجيع الكوادر المتخصصة في علوم الإنثربولوجيا من تعميق الدراسة حول الإنسان النوبي. 4 إزالة المفاهيم الخاطئة والتي عُلِّقت ظلماً وجهلاً بالإنسان النوبي. 5 التنقيب عن التاريخ النوبي وتدوين ذلك التاريخ وخفظه. 6 تصحيح الخلط واللغط في كثير من الحقائق والأسماء والأحداث في تاريخ السودان. 7 الدفاع سياسياً وإقتصادياً وأدبياً عن حقوق المواطن النوبي داخلياً وخارجياً. 8 ربط الأجيال وخاصة المتواجدين خارج السودان بوطنهم وتبصيرهم بحقوقهم التاريخية. 9 جعل القناة ملتقى لألوان الطيف النوبي وقناة حوار وتفاهم لإزالة أسباب الفرقة والإنقسام وربطهم بعضهم ببعض. وأخيراً؛ فإن كانت الحاجة هي أم الإختراع، فإن الظلم هو أبو الحاجة بعينه. ولنا لقاء