يشغلني هذا الأمر كثيرا ويشل جسدي وعقلي وروحي. لا بد أنه يستهلك سعرات حرارية كثيرة. أنا ومن أنا سوي رجل سبعيني لم أعد أقوي علي أداء أشياء كنت أهواها وأجيدها بالأمس القريب. وان كان بمقدوري لامتنعت عن التفكير في الأمر وادخرت طاقتي لمقبل الأيام إن كان في العمر بقية. لما لا أكون عجوزا طامحا ومتفائلا يهتم بمستقبله ويخطط له. هذه ثنائية أضداد إذا سمع بها النحويون لعجزوا في تسميتها لغة واصطلاحا. يسألونني كثيرا عن الوصفة التي أعدها بنفسي لنفسي وأتناولها كلما دهمني سقم أو عيا .. فأجيب قائلا: "إن من يفصح عن سر مهنته غافل ويسير إلي الوراء حتى (لا يعلم من بعد علم شيئا).. عندما أشاهد أحفادي وهم فرحين يلعبون أمامي لا أكترث لفارق السن بيني وبينهم وأشاركهم اللهو وهم ممتنعون فأزيد من فرحتهم.. يرق قلبي لبكائهم وإن كان تدللا لأنهم في تباكيهم يجدون ويصدقون. أدركت أنهم يفكرون بنهج يختلف عنا نحن الأجداد وعنكم أنتم الآباء. يا تري ما رأيهم في بيوت اليوم والأحياء والشوارع والقمامة والأسواق والمدارس والمركبات والوظائف والرواتب؟ في طفولتي كنت أمتع عينيّ بأصناف متنوعة من بضائع جديدة وحديثة تعرض علي فترينات زجاجية تطل من متاجر قديمة؛ ساعات من ماركة السيكو والأورينت والرومر والسيتزن والجوفيال, مسجلات من ماركة الناشونال والسوني والشارب, أقلام الباركر والشيفر والتروبن, أقمشة الأسموكنج والتريفيرا والترجال والكرمبلين, وعطور من كولونيا وفولوردامور وبنت السودان حلوة في قوارير محتشمة .... دراجات هوائية من ماركة فيلبس وفوينكس لا تدهس الناس ولا تتخطي بعضها بعضا في شوارع رحبة. أما الآن فقد صرت أمضي جل ليلي وأجزاء من النهار وحيدا داخل غرفة انفض كل أعضاء الدار عنها وخرجوا من غير توصيات. أجلس كالملك علي عرشه ومن حولي مقتنيات لا تقدرون قيمتها ولكنها ثمينة في ناظري إذ أنها أصبحت إن لم تكن بمثابة الروح فالدم الذي يسري في شرايين الجسد. إنها شاهدة علي عصري وتأمن أسراري وتعيد لي الذكريات. تلك العلبة الحديدية التي أحتفظ بها في حقيبة قديمة هي في عمر أكبر أحفادي وشريتها قبيل عيد فطر ما من سنين خلت. كلما دخلت الغرفة أخرجها من مخبأها ثم أضعها برفق علي حجري وأفتحها لأتفقد ما بداخلها شيئا... شيئا. تؤكد شهادة الجنسية التي أصدرت بعيد استقلال البلاد أني سوداني بحكم مولدي. ساعة سويسرية من ماركة سيتزن ضعف نبضها ولكنها تتوق للحياة إذ رجت عمدا أو صدفة. ابر يدوية مختلفة أحجامها وأطوالها أراها من حيث تراني ولكنها تتعامي أحيانا وتوخز سبابتي أو الإبهام. لفافة بها قطع من أوراق صفراء لونها –باهتة- لكنها تسر عيني وتوثق لعملي في قوة دفاع السودان عندما كنا نقاتل نحن الزنوج وينتصر الانكليز. كنت متأكدا أن عقلي في كامل قواه لم ينتقص أو ينتكس ولكني أختبره متشككا بين فينة وأخري ولا أتنازل عن موقفي حتى إذا جاءت النتيجة عكس توقعاتي. تخذلني قواي الجسدية وبت أرتدي ملابسي وأحذيتي بشق الأنفس. إلا أني أتوخي الحذر كي لا أجيء بما يأتي به نديدي كمندان من علامات االخرف. يثرثر كمندان كل وقته كالراديو حتى وإن جف حلقه وبح صوته تراه يستقطع من أوقات جلسائه. يتدخل في أمور لا تعنيه ويخالف الناس الرأي وإن هموا اتفقوا عليها. يتحسس طريقه بكلتا يديه وهو الذي يدخل الخيط الأبيض في ثقب الإبرة ليلا (فبصره حديد) . تتجاذب أقطاب نزعاته حينا وتتنافر ذات الأقطاب حينا آخر ويبكي لأتفه الأسباب. كنت أخاف علي هذا الكهل من أن يعض علي متع الحياة بنواجذ من حسد أوغيرة. الحاج خليفة جودة هاتف: 0900253717 – 0914065575 البريد: [email protected]